نظراً لطبيعة السياسة العربية المعاصرة، واتصافها بعقلية الأزمة، سواء داخلياً أو خارجياً، لا نكاد نخرج من أزمة حتى نواجه بأخرى، ولا نكاد نلتقط الأنفاس بعد انتهاء معركة - حقيقية أو متوهمة - حتى يُفرض علينا خوض أخرى - أيضاً واقعية أو محض خيال. ونظراً للطبيعة الشاعرية للعقل العربي وسيطرة فلسفة الشعر على أسس تفكيره، فغالباً ما يكون رفضه للواقع مصحوباً بصناعة واقع آخر من خيال - جميل أو غير جميل - المهم أنه واقع في عالم المثل لا علاقة له بالواقع. بسبب ذلك كله كثيراً ما يكون اقترابنا من الأزمات اقترابا غير واقعي، أو اقتراباً يبعدنا عن الفهم أكثر مما يدنينا منه، وذلك يمكن إرجاعه لأسباب أهمها أربعة تشكل وعينا، وتحدد رؤيتنا، وتحكم منهج تحليلنا وطريقة فهمنا. أولها: فهم وتحليل الأحداث لا طبقاً لمعطياتها الواقعية وتشكلها الحقيقي، وإنما طبقاً للصورة الذهنية عنها، أي تحليل الأحداث كما هي داخلنا، لا كما هي خارجنا، ومن ثمّ تغليب الوهم على الحقيقة، والعواطف على الوقائع، والاغراق في شاعرية سياسية غائبة عن الواقع، بل أحياناً مناقضة له، كأن يُرى مثلاً سلوبودان ميلوشيفيتش في صورة جوزيف تيتو، أو في صورة بن غوريون، أو أن يُرى التدخل الأطلسي في البلقان وكأنه امبريالية عالمية بالمعنى التقليدي، أو أنه عملية انقاذ انسانية: فكل هذه تصورات تغلب عليها العواطف النابعة من مواقف ايديولوجية تاريخية. وثانيها: الواحدية والحدّية في الرؤية والفهم والحكم، حيث إما أن نكون مع أو ضد، وعلى طول الخط، ومن دون فرصة للمراجعة أو التراجع. فإما أن نؤيد الأطلسي رغم ما يعنيه ذلك حاضراً ورغم ما يترتب عليه مستقبلاً، ورغم ما يرسخه من قواعد جديدة للتعامل الدولي" وإما أن نؤيد صربيا رغم عدم انسانية موقفها وعدم القدرة على تبريره، ورغم اصابتها لجزء من محيطنا الحضاري الذي لا نستطيع الانسلاخ عنه، أو التجاوز عما يحدث له. وثالثها: الانبهار بالظاهر والعمى عما يكمن خلفه من جوهر وحقيقة، فلا يُرى مثلاً في ضرب الصرب سوى أنه انتقام لاضطهاد المسلمين في البوسنة، وعقاب على الاعتداء على كوسوفو، أو أنه بطش وعدوان أطلسي على إحدى دول عدم الانحياز وغطرسة أميركية، من دون أن يتم الغوص خلف تلك الأحداث لمعرفة حقائقها، وأعماقها البعيدة التي تمتد الى ما تحت أقدامنا. ورابعها: التفكير البراغماتي القصير الأجل، الذي يتطابق في كثير من أبعاده مع مجرد ابداء الرأي، من دون إمعان تفكير، أو إنعام نظر في مجريات الأحداث لنصل الى أبعادها الزمانية وتداعياتها المستقبلية. إذ أن ما يحدث الآن ليس أكثر من بذر لبذور ظواهر دولية ومحلية معينة، سوف تُؤتى ثمارها وتُخرج أكلها سواء رضينا حينذاك أم أبينا، سواء قاومنا أو خضعنا، إذ أن موقفنا سوف يكون في موضع رد الفعل لا الفعل، والانفعال بالشيء لا فعله. ومن هنا فإننا إذا استطعنا تجاوز تلك الأعراض الأربعة، فسنرى أن أزمة كوسوفو ليست سوى لحظة تاريخية كشفت عن حقيقة تعتمل خلفها، وتتفاعل فيها، وتوشك أن تخرج علينا ناضجة مكتملة، لا نملك أمامها سوى القبول والخضوع، أو الخروج من المعادلة إذا سُمح لنا بذلك. أما إذا أدركناها في طورها الجنيني، فإن فرصة التأثير أو اتخاذ موقف تكون أكبر، والقدرة على التعديل أو اعادة التشكيل أو تقليل المضار فتكون أوقع تأثيراً، ومجال الحركة يكون أوسع بكثير مما لو تعاملنا معها بعد نضوجها واكتمال عودها. والناظر في أزمة كوسوفو يجد أن ما يكمن خلفها كثير، يتجاوز المعلن عنه، وأحياناً يناقضه، ولن نفتئت على الحقيقة إذا حصرناه في القضايا الكبرى التالية: أولاً- انتهاء مفهوم الدولة بالمعنى الذي عُرف خلال القرنين الأخيرين، حيث مثلت حرب الخليج الثانية نهاية لمفهوم السيادة، فلم تعد "الدولة القومية" تملك جوهر وجودها وهو سيادتها على إقليمها وشعبها وسيادة قانونها في نطاقها الإقليمي، إذ قامت الولاياتالمتحدة وبريطانيا خارج اطار ميثاق الأممالمتحدة، وخارج صلاحيات قرارات مجلس الأمن" بتقييد حركة الدولة العراقية في داخل اقليمها، ففرضت مناطق الحظر الجوي شمالاً وجنوباً لحماية المواطنين من دولتهم. وإذا كانت حالة العراق قد مثلت مرحلة انتهاء مفهوم السيادة، فإن حالة صربيا تمثل مرحلة انتهاء مفهوم الدولة كدولة، حيث يتم التدخل العسكري والأطلسي لفرض ترتيبات معينة بالقوة في مسألة تعتبر نظرياً من صميم الاختصاص الداخلي للدولة، رغماً عن أن هذا التدخل كان جديراً بأزمة البوسنة، حيث مثلت هذه الأزمة اعتداء دولة - هي صربيا - على دولة أخرى - هي البوسنة والهرسك، وتدخلت في شؤونها، وسعت الى تحقيق عدم استقرار داخلها. وكان بمقدور المجتمع الدولي أن يتدخل إنفاذا للمادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة، والتي تنص على حق الدفاع الجماعي في حال تعرضت دولة معينة لعدوان دولة أو دول أخرى، ولم يحدث، وإنما حدث مع نفس الدولة وهي صربيا في مسألة أخرى لا تتصف بنفس الخصائص، مما يعطي اشارة الى أن التدخل ليس لحماية المسلمين المضطهدين في البلقان، أو لوقف البربرية الصربية وفاشية النظام السياسي في يوغوسلافيا، وإنما التدخل في جوهره حالة تطبيقية لترسيخ قاعدة دولية على المستوى العملي والنظري، وهي أن الدولة انتهت، فلم تعد هي السلطة العليا في مجتمعها، ولم يعد لها سيادة، ولم تعد محصنة ضد التدخل في شؤونها الداخلية. ثانياً- انتهاء دور الأممالمتحدة كمنظمة دولية عامة، وتحولها الى منظمة خيرية إنسانية تقدم البطاطين والخيام، وترعى اللاجئين. وعلى نفس الشاكلة كان ضرب العراق في حرب الخليج الثانية مقدمة لانتهاء دور المنظمات الإقليمية ممثلة في جامعة الدول العربية، إذ أدت تلك الأزمة الى انتهاء دورها، وتحولها الى مجرد ناد ثقافي واجتماعي عربي تُناقش فيه قضايا عامة فكرية وسياسية، ولكن ليس له سلطات أو صلاحيات أو قدرات فعلية على فعل أي شيء. فهي فشلت في حل أزمة تمثِّل أهم اختصاص لها، وهي فض المنازعات بين أعضائها بالطرق السلمية، ومن ثم حققت أعلى درجات الفشل لعدم قدرتها على فعل شيء من أهم اختصاصاتها - سوى التصريح للقوى الأجنبية بالتدخل. وهنا ينبغي أن يفهم أننا لا نناقش أخلاقية التدخل من عدمها، ولا نناقش الأزمة كأزمة: من المخطىء فيها ومن المصيب، وإنما نرصد الأفعال ودلالاتها، بغض النظر عن مبرراتها وخلفياتها. والآن - في أزمة كوسوفو - جاء دور الأممالمتحدة، إذ لم ولن تعود الى سيرتها الأولى في حفظ السلم والأمن الدوليين، وإنما ستتحول الى دور انساني خيري، أو دور تبريري تسويغي لأفعال منظمة حلف شمال الأطلسي. ثالثاً- عودة مفهوم السلام الروماني والمسمى الآن بالسلام الأطلسي أو السلام الأميركي ليسود العالم ويحقق الاستقرار والسلم والأمن فيه، وذلك من خلال استبدال الأممالمتحدة بحلف شمال الأطلسي في تحقيق السلم والأمن الدوليين. ومن ثم فإن "عبء الرجل الأبيض" قد عاد اليه بعد أن شاركه فيه أبناء الملونين أو الأغيار، وأصبحت أوروبا بامتداداتها الحضارية في أميركا الشمالية هي المناط بها حفظ السلم والأمن في العالم. وقد أعلن ذلك صراحة في احتفالات الحلف الأخيرة بمرور خمسين عاماً على انشائه، وهي الاحتفالات التي تمت في أثناء ضرب يوغوسلافيا، ليعيد الحلف خلق نفسه، وتشكيل دوره بصورة عملية ترسمها الطائرات والبوارج لا الكلمات والأوراق. والجديد في هذا الدور أنه لن يكون دور منظمة دولية إقليمية خاصة - هي الحلف الأطلسي - كبديل عن الأممالمتحدة، وإنما سيشهد عودة الاستعمار التقليدي في صورة جديدة تستلهم بعض ميكانزمات الأممالمتحدة وأجهزتها، حيث ستقوم الدول الاستعمارية القديمة بممارسة الوصاية السياسية والثقافية على مستعمراتها. ولعل الملاحظ المدقق لأزمة تيمور الشرقية يلحظ أن المفاوضات تتم بين أندونيسيا والبرتغال وليس بين أندونيسيا والتيموريين، كذلك كان الحال في رواندا وبوروندي حيث استدعيت بلجيكا، وفي الصومال ظهر اسم إيطاليا وغيرها. أو في صورة فرض وصاية اقتصادية وخلق مجالات نفوذ اقتصادية... إلخ. ومن ثم فإن العالم الثالث - الذي نَعِم ببعض الاستقلال المنقوص - قد يتعرض لأشكال جديدة وقديمة من فرض قيود على هذا الاستقلال. رابعاً- إذا كانت حرب الخليج الثانية قد أخرجت الاتحاد السوفياتي من معادلة القوى الدولية، وكانت إيذاناً بتفككه وانهياره، فإن ضرب صربيا يمثل بداية - أو نهاية - خروج روسيا من معادلة القوى الأوروبية، وتحولها من شريك يحسب حسابه على مر التاريخ الحديث، الى موضوع أو طرف يتم تجاهله وإرغامه على قبول قرار الأطلسي، بل قبول حظر يفرض على صادراته النفطية الى يوغوسلافيا. بل ان روسيا لم تعد تملك سوى أن تلعب دور الوسيط الذي يحاول جاهداً أن يقرّب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة. وقد لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا ان ما حدث في صربيا قد يحدث في روسيا ذاتها، وهي كيان فسيفسائي متشرذم، يضم قوميات وأعراقا وأديانا وثقافات مرشحة للاستقلال أو للتصارع الداخلي، وهي نموذج ليس بعيداً عن النموذج الصربي، بل قد يلحق به قريباً. خامساً- ظهور نموذج جديد للحرب الحضارية كبديل عن الحروب العسكرية. وهذا النموذج تم تدشينه في العراق، ويتم انضاجه في صربيا حيث أن الطرف الذي يقوم بالضرب لا يتحمل خسائر تذكر - سواء مادية أو بشرية -، فهي حرب نظيفة من جهة من يملك المبادرة، وفي نفس الوقت فإن الطرف المضروب أو المستهدف لا يتم التعامل - بصورة مباشرة - مع آلته العسكرية فقط" وإنما يتم التركيز - بصورة أساسية - على تدمير البنية الأساسية من جسور ومرافق وطرق ومطارات ومحطات توليد كهرباء وتلفزيون وغيرها، مع الإبقاء على الآلة العسكرية دون أن ينالها تدمير مشابه، أو حتى قريب من تدمير المجتمع. فهي ليست حربا بين جيشين، وإنما حرب بين التكنولوجيا والمجتمع، أي تكنولوجيا الطرف المبادر والمجتمع المستهدف، نهايتها ليست هزيمة جيش وانتصار آخر، وإنما اختبار تكنولوجيا وإخراج مجتمع من التاريخ وإرجاعه قرونا الى الوراء. وكأن ذلك عقاب للشعوب وتدمير لمجتمعات أكثر من كونه إجهازا على نظم سياسية. ولعل نموذج صدام حسين ليس في حاجة الى نقاش. وهذا النوع من الحروب هو مقدمة لحروب جديدة تكنولوجية ومعلوماتية واقتصادية سوف تنشأ في المستقبل، قد يكون أطرافها جورج سوروس وبيل غيتس وأسامة بن لادن، وذلك بعد أن تراجعت الدولة، وأوشكت على الزوال - على الأقل كفاعل دولي في محيط السياسة الدولية -، وحلت محلها مؤسسات عابرة القوميات، وأشخاص دوليون يتلاعبون بدول، مثل سوروس، أو يملكون موازنات مجموعة من الدول مثل غيتس. سادساً- استقرار نموذج ما بعد الحداثة وترسخ نسبية القيم والمعايير، ومن ثم انتهاء المرجعية في تحديد مبادىء العدل والإنصاف، أو تحديد مفاهيم الإنسانية وحماية المضطهدين وحقوق الأقليات. فلم يعد هناك شيء يسمى "إنساني" يمكن الاتفاق عليه، وإلا كان التدخل الإنساني أولى في حالة البوسنة، أو في حالة فلسطين التي يعاني أهلها - وعلى مدى خمسين عاماً - نفس ما عاناه ويعانيه أهل كوسوفو ولم يتحرك أحد، بل اعين المعتدي، وتم دعمه وتأييده بكل السبل. ولم يتحرك أحد كذلك في كشمير أو في جنوب أفريقيا على مدى زمن طويل، ومن ثم فإن مفهوم "الإنساني" أو "العادل" هو ما يحدده الأقوى، وفي هذه الحالة فالأقوى هو حلف الأطلسي والولاياتالمتحدة. فالحالة تكون اضطهادا واعتداء عندما يقرر الأطلسي ذلك، ولا تكون عندما لا يريدها أن تكون، وبذلك يكون منطقياً أن عرفات إرهابي وشارون داعية سلام، وحماس وحزب الله منظمتان إرهابيتان" وجيش اسرائيل والمستوطنون وعصاباتهم اليمينية مدافعين عن أنفسهم ومتحضرين. سابعاً- نموذج كوسوفو سيكون مقدمة لكوسوفات قادمة، حيث يتم الآن تصنيع نموذجها للتعامل الدولي، وسيتم تطبيقه في مناطق أخرى، خصوصاً وان هناك محاولات شرسة من قبل اليمين المسيحي في الولاياتالمتحدة لاستصدار قانون الاضطهاد الديني، الذي أقره الكونغرس العام الماضي، واعترض عليه الرئيس الأميركي، وسيعاد للكونغرس هذا العام لإجبار الرئيس على إصداره. وينص هذا القانون على معاقبة الدول التي تمارس الاضطهاد الديني ضد الاقليات: نموذج سوف يتكرر في مناطق كثيرة، لعل من أهمها السودان والعراق... إلخ. ثامناً- أثبتت أزمة كوسوفو أن الغرب أنضج منظومته القيمية حتى وصل بها الى مرحلة من التعميم تصبح معها عالمية. فلأول مرة في التاريخ الأوروبي تستخدم القوة ضد المسيحيين لنصرة المسلمين، وذلك تحت غطاء من القيم الإنسانية العليا التي اما أنها كانت منطلقاً حقيقياً يمثل بداية لمنظومة جديدة تحكم التعامل الدولي، أو أنها غطاء براغماتي تسويغي لأهداف أخرى. وفي جميع الأحوال فإنها كانت على درجة عالية من الجدارة والاقتدار لكي تحشد وراءها العالم. وإذا ما قارنا موقفنا في العالم العربي والإسلامي فإننا نجد أن الإنسان الغربي قد تجاوز ذاته وحداثته لكي يطرح منظومة عالمية جديدة، أما الإنسان العربي فإنه ارتكس الى ما قبل الإسلام، فلم يعد هناك من يقول كما قيل لرستم "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد... إلخ" ليدشن منظومة قيم إنسانية. وإنما أصبح هناك من حوّل هذه المنظومة الإنسانية الى منظومة قبليّة أو حزبيّة أو جماعيّة مغلقة، فلم تعد قيم الإسلام في تطبيق المسلمين لها قيماً إنسانية عامة، وإنما أصبحت خاصية مفرطة في الخصوصية حتى خصخصتها وحوّلتها الى إطار ضيق مغلق لا يستوعب إلا جماعة أو حزبا أو فرقة بعينها. تلك ملاحظات كشفت عنها أزمة كوسوفو، وتحتاج الى أن تخضع للنقد والتفكير والتأمل، لعلها تكون خاطئة!!! أو هي كذلك؟ نصر محمد عارف أستاذ العلوم السياسية في جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فيرجينيا - الولاياتالمتحدة.