تحدث أبو داود في الحلقة الماضية السبت 10/7/99 عن مشروع روجرز وقبول الرئيس المصري جمال عبدالناصر بنوده القاضية بوقف اطلاق النار والموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 242. ويروي أبو داود في مذكراته تفاصيل كثيرة عن حالات الإرباك والتوتر التي أصابت القيادة الفلسطينية وانتهت الى انقسام سياسي في الشارع الفلسطيني نفسه. ويتحدث أبو داود في الحلقة الأخيرة عن اختطاف الجبهة الشعبية أربع طائرات بشكل متزامن من أوروبا الى الأردن الأمر الذي أثار الرأي العام الدولي وأربك الموقف العربي وشجع العناصر المتطرفة من الجبهتين على المواجهة الدموية. شعر الجميع بالحاجة الى التقاط الانفاس بعد اليومين الساخنين في 30 آب اغسطس وأول ايلول سبتمبر، فسيطر جو من الهدنة. صحيح ان اجواء القصر تميل الى المصالحة. وعبّر الملك أخيراً في رسالة الى الامة يوم الثالث من ايلول عن أسفه العميق لاحداث الايام الاخيرة التي تسببت، كما قال، "بمقتل العديد من الابرياء". كذلك أعلن تشكيل "مجلس خاص" مكون من عدد من العقلاء يساعدونه على اتخاذ القرارات. كان من شأن لائحة اسماء الشخصيات ان تثير القلق في نفوسنا. .... قصدت ابو إياد في تلك الامسية، واصررت على ابداء رأيي: لا أحب ما يحدث. سيكررون معنا تجربة 1957 او شيئاً من هذا القبيل. فرد عليّ ابو إياد: لا تزال في هواجسك يا ابو داود. حتى الآن لست خائفاً، اذ لا اتصور قيام الملك بتوجيه ضربة الينا قبل الاجتماع الاستثنائي لمجلس الجامعة العربية يومي السبت والاحد المقبلين في القاهرة. واذا تمكنا في هذه المناسبة من اعادة احياء اللجنة الرباعية العربية التي حضرت الى هنا في تموز نكون قد ربحنا بضعة اسابيع اضافية. لكن ابو اياد كان قلقاً من عدم توصله الى نتائج تذكر مع عبدالمنعم الرفاعي. وبحسب ما قال ان المشكلة تكمن في مطلبنا انسحاب القوات الاردنية من مواقعها حول عمان، وهو في نظرنا الشرط الوحيد الذي من شأنه اعادة حداً ادنى من الثقة بين الحكم والمقاومة. وقد اطلعني على مداولاته معه بالقول: - لكني اوضحت له هذا الصباح انه ما ان يصار الى اتخاذ هذا القرار حتى يرجع الفدائيون الذين قدموا لدعمنا الى قواعدهم، ولا يبقى هنا سوى عناصر الميليشيا. فاجابني عبدالمنعم ان قراراً من هذا النوع لا يعود اليه، اذ انه ضمن صلاحيات الملك وهو القائد الاعلى للقوات المسلحة. وقد قال لي انه مستعد لنقل مطلبنا الى القصر الملكي. ومنذ تلك المحادثة وانا انتظر، لكني لاحظت ان الملك لم يتطرق الى هذا الموضوع في الخطاب الذي وجهه هذا المساء. مضى يوم آخر دون ان يعطي الحسين جواباً. ولكن خلافاً لليومين السابقين حيث بدا وسط عمان اقرب الى مدينة الاشباح - ابواب محالها مقفلة وشوارعها تفرغ ابتداء من الظهر - راحت العاصمة تستعيد حياتها الطبيعية: المحال والدكاكين فتحت ابوابها، والناس خرجوا مجدداً الى الشوارع. باختصار تلك كانت فرصة الملك للتوصل الى اتفاق معنا، اذا رغب فعلاً في ذلك. بدل ذلك كان يجري تعزيز القوات الهاشمية باستمرار حول العاصمة حتى انها كانت تقوم بمناورات غريبة في بعض الاحياء عند هبوط الليل. كانت الساعة العاشرة مساء في الرابع من ايلول لما تلقيت اتصالاً من ابو اياد يبلغني فيه ان جنوداً اردنيين يحومون حول منزل الناطق باسمنا، كمال ناصر، احد الاعضاء الاثني عشر في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقال لي: كمال مرتعب، وهو مقتنع بان الجنود يريدون اعتقاله. ما الذي يمكنك القيام به لحمايته؟ انا نفسي فوجئت كيف ان عناصر الميليشيا لم يبلغوني بوجود عناصر من الجيش في هذا القطاع حيث يوجد مركز لنا قريب من منزل كمال ناصر. فأجبت ابو اياد: اول ما يجب عمله هو الاتصال بكمال كي يصف لي الوضع. كان كمال ناصر يقطن جبل عمان، اي حي السفارات والوزارات وحيث يوجد مبنى مجلس النواب. وكانت تقيم فيه أيضاً البورجوازية الفلسطينية الموجودة في المملكة ضمن فيلات فخمة. في المختصر كانت هذه تلة عمان الراقية.ويمكن الوصول اليها انطلاقاً من المدينة السفلى عبر شبكة من الشوارع الضيقة وجادتين هما شارع شعبان وشارع ابو بكر الصدّيق المعروف اكثر باسم "راينبو ستريت"، وذلك بعد صعود منحدرات قوية تليها سلسلة من المستديرات، "الدوار الاول"، "الدوار الثاني" الخ ... المسافة بين الثاني والثالث تبلغ ما بين 300 و400 متر وتقوم فيها على طول شارع زهران سفارة الولاياتالمتحدة أولاً ومن بعدها فندق انتركونتيننتال وأخيراً السفارة التونسية. وخلال اشتباكات حزيران يونيو استطاعات الجبهة الشعبية، كما هو معروف، ومن طريق المباغتة احتلال الفندق لكن الحي في مجمله بقي في منأى عن المعارك. لم نسع الى السيطرة عليه، لكننا كنا نكتفي بمركز للميليشيا بالقرب من مستشفى ملحس على بعد مئتي متر من الدائرة الاولى في شارع صغير موازي لراينبوستريت. ولكن منذ منتصف الصيف اتخذ الجيش موقعاً له على بعد ثلاثة كيلومترات، على مستوى الدوار الرابع وقد اقام فيه نسيبي سعيد موسى مراغة مركزاً له ولكتيبته المؤللة. لكن قوات التحقت بهم هناك مع مدرعاتها. واذا بهم يوم 31 آب يتقدمون الى دوار الملك طلال، الدوار الثالث، فأصبح فندق انتركونتيننتال القريب تحت سيطرتهم. ومنذ ذلك التاريخ لم يقوموا بأي حركة، لكن مساء الرابع من ايلول هذا، بدا ان هذه القوات قامت بقفزة جديدة الى الامام فاجتازت دفعة واحدة ما يقارب الكيلومتر والنصف. وها هو كمال ناصريؤكّد لي أن المدرّعات متمركزة عند الدوار الذي يتقاطع عنده شارعا شعبان وراينبو أو الدوار الأول. كان كمال يقيم هناك على بعد خطوات من البرلمان. فسألته: هل نصب هؤلاء الجنود حواجز؟ فأجابني: ليس بعد. إنهم متوقفون في عربتين مدرّعتين. لكنهم ربما يستعدون للتمركز في الحيّ… توقف ثم أضاف: إسمع يا أبو داود، أفكر أن هؤلاء العسكريين ربما أرادوا منعي غداً صباحاً من الوصول الى مراكزنا في جبل الحسين! فيوم غد، كما تعرف، موعد مهم تبدأ فيه اجتماعات المجلس الاستثنائي للجامعة العربية، وعلينا فيه إصدار مواقف متتابعة حول ما يبحث في هذا الاجتماع. قلت: حسناً، يجب عدم إضاعة الوقت. سأبلغ ابو رائد، مسؤول الميليشيات في جواركم وسأوافيكم هناك مع عناصر دعم. بعد نصف ساعة كنت قد وصلت إلى مركزنا قرب مستشفى ملحس. وهنا فهمت كيف لم يرَ عناصرنا شيئاً، إذ لم يكن ممكناً من مركزنا مشاهدة العربتين المدرّعتين المتوقّفتين على بعد 200 متر، تحجبهما مجموعة من البيوت. فتقدّمت انا وابو رائد بلحق الحائط وتمكّنت من مراقبتهما لبضع دقائق، ثم قمت بنشر رجالي تحت جنح الظلام في نقاط عدة لكي يتابعوا مراقبة أعمال هؤلاء الجنود وتحرّكاتهم. في هذه الاثناء كان مساعد ابو رائد، ابو الحسن خيري، يتصل هاتفياً بمخابراتنا في الرصد وكان مثلي يعرف الجميع هناك. كنا نتوقع ان نجد عندهم معلومات دقيقة حول وحدات البادية التي تمركزت مؤخراًً في جبل عمان: تراتبيتها، اسماء الضباط، طريقة الاتصال بقيادتهم الخ ...ربما نتمكن هكذا من التفاوض. الا انه لم يقع سوى على أحد حرّاس الفيلا القائمة في جبل الحسين. كان أبو الحسن وسفيان آغا وغازي الحسيني غائبين. عند عودتي الى المركز اتصلت بالرصد وطلبت من عنصر الحرس إرسال أحد زملائه لإبلاغ أحد مسؤولي الدائرة من أجل الاتّصال بي في مركزنا في ملحس. كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة عندما اتّصل بي سفيان أخيراً. لكنه لم يكن لديه معلومات من هذا القبيل في ملفاته. فصرخت قائلاً: ماذا؟ ولكن ما الذي تفعلونه إذن؟ منذ أسابيع عدة تحدث أشياء خطيرة هنا! أين سلامه؟ - برفقة المندوبين الأجانب القادمين لحضور مؤتمر الاتحاد العام لطلبة فلسطين. وبينما كنت أصبّ جام غضبي على الهاتف أُطلقت فجأة رشقات في آخر الشارع. فتركت سفيان وعاودت الاتصال بكمال ناصر فصاح حانقاً: هناك إطلاق نار من جميع الجهات عند الدوار. ألم تحاول التفاوض مع الجنود؟ فقلت: كنت على وشك القيام بذلك، ورجالي متمركزون عند المفترق مع أوامر بإطلاق النار فقط في حال تحرّك الجنود باتجاه منزلك… هل تعرف ماذا حدث؟ - في الحقيقة لا أعرف. فقط رأيت الجنود يترجّلون من العربات، وكانوا ينظرون باتّجاه الشارع المؤدّي إلى المستشفى. وقد تساءلت عن السبب. - يمكن أن يكونوا قد لاحظوا وجود بعض رجالي… ومن طرفي الدوار طغت أصوات الأسلحة الأوتوماتيكية. فسألت كمال ناصر مجدّداً: يمكنك أن ترى من بيتك ما يجري أفضل مني. ما الوضع؟ - لقد صعد الجنود مجدّداً إلى عرباتهم، ويبدو أن واحداً منهم قد أصيب. المدرّعات تطلق النار من رشاشاتها، لكنها تتراجع أيضاً باتّجاه الدوار الثاني… - علامة جيّدة. لن يوقفوك الليلة يا كمال! لكنه لم يطمئن كفاية، وكانت الطلقات لا تزال مستمرّة. فصرخ سائلاً: ماذا ستفعلون الآن؟ - سنجبرهم على التراجع ولو حتى الدوار الثاني على بعد كيلومتر. هكذا ستكون بأمان اليوم وحتى غداً… - لكن، ألاّ تخشى يا أبو داود ان يتطوّر الحادث؟ قد تعاود المدفعية قصفها. - عليك أن تقرّر يا كمال، أتريدنا أن نحميك أم لا؟ كنت استبعد معاودة استئناف القصف إذ سيكون مفعوله سلبياً عشية اجتماع القاهرة. أضف إلى ذلك الانذار العراقي يوم الثلثاء. .... ومن أجل إرغام العربتين المزوّدتين رشاشات على التراجع إلى أبعد مسافة ممكنة قام عناصر الميليشيا انطلاقاً من الشوارع الجانبية بشن هجمات قصيرة فيما كانت عناصر أخرى تصليهم نيراناً غزيرة وهي تتقدّم بشكل متقطّع على طول شارع زهران. اشتدّت الحالة مع وصول مدرّعات أخرى تقدّمت من جهة دائرة الملك طلال. فقرّرت عندها شنّ هجوم التفافي ما وراء الدوار الثاني. فسار بعض رجالي بقيادة ابو الحسن خيري على طول الوادي الفاصل بين جبل عمان وجبل اللويبدة ثم انحرفوا وتمركزوا بجوار فندق انتركونتيننتال. لهذا السبب، على الأرجح، اعتقد الصحافيون المقيمون فيه والذين أجبرهم العسكريون الأردنيون على البقاء داخله، أن المعارك تدور في أحياء عدة من المدينة. توالت المناوشات إلى أن تراجعت المدرّعات المتقدّمة إلى الدوار الثاني بعدما خاف جنودها من انقطاعهم عن خلفيتهم، وتبعتها السيارتان المدرّعتان ونحن نصليهما النيران في شارع زهران. عندها اعتبرت ان لا فائدة من متابعة ذلك، فأرسلت الأمر إلى رجالي بوقف إطلاق النار. تركنا مجموعة عند الدوار الثاني ورجع باقي العناصر الى مركز مستشفى ملحس. لم نُمنَ بأية خسائر في صفوفنا، باستثناء بعض الجرحى. واعتقد أن الجنود لم يشكوا من خسائر أيضاً. لكن كمال ناصر لم يشعر بالطمأنينية واصر على مواكبته الى جبل الحسين فأمنت له حراسة... بعد قليل قدّمت تقريري إلى أبو أياد: نفّذنا المهمة وقمنا بابعادهم حتى الدوار الثالث. ولكن ما إن أُعلن الاتفاق يوم السبت في الخامس من ايلول حتى اندلعت اشتباكات عنيفة في الزرقا وكانت بخطورة اشتباكات شهر حزيران. .... وفي اليوم التالي حصلت حوادث جديدة في مدينة معان جنوب المملكة. .... في هذه الأثناء، لم يجرِ في العاصمة تنفيذ أي من اجراءات التهدئة المقرّرة بالأمس. فالمدرّعات كانت لا تزال حولنا وبالأعداد نفسها. فأنذرت أبو أياد قائلاً: بما أن الأمر كذلك لن أرفع حواجزنا من المدينة! فقال: حسناً، إنما لا شيء أكثر. علينا الانتباه إلى عدم الوقوع في قفص الاتّهام. كان أبو أياد يشير إلى القرار الذي كانت تنتظره قيادتنا والذي اتّخذه يوم الأحد في 6 ايلول عند الظهر المجلس الاستثنائي للجامعة العربية المنعقد في القاهرة، وينص على إعادة إطلاق مهمة اللجنة الرباعية العربية التي تألّفت في حزيران من أجل تسهيل حلّ خلافاتنا مع النظام. لكنّ كل ذلك ستتجاوزه الأحداث بسرعة. فبعد ظهر ذلك اليوم بالذات، علمنا من خلال جميع الاذاعات أن الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش والتي كانت متوارية عن مسرح الأحداث في الأسابيع الأخيرة، قامت بعمل مجنون. فقد أقدمت مجموعات قراصنة الجو التابعة لوديع حداد باختطاف شبه متزامن في أوروبا لأربع طائرات ركّاب متوجّهة إلى نيويورك: "بوينغ 707" لشركة "العال"، "وبوينغ 747" من ال"بان أميركان" بعد إقلاعهما من مدينة أمستردام بوقت قصير، طائرة "بوينغ" من طراز 707 أيضاً ولكن من شركة "تي.دبليو. آي" منطلقة من فرنكفورت، وأخيراً طائرة "دي.سي 8" تابعة لشركة الطيران السويسرية. ولكن فشلت إحدى هذه المحاولات، وهي التي استهدفت طائرة "العال"، وكانت مهمّة الاختطاف قد أوكلت إلى ليلى خالد التي كانت تكرّر فعلتها هذه. فقتل شريكها وتمّ اعتقالها هي بسرعة، وقد استمرّ الطاقم في قيادة الطائرة التي هبطت اضطرارياً في لندن من أجل معالجة جريح بين المضيفين. في المقابل لاقى بقية القراصنة نجاحاً تاماً وأجبروا الطائرات الثلاث على التوجه إلى الشرق الأوسط. في أول المساء بدا ان اثنتين من هذه الطائرات وهما ال"دي.سي 8" الشركة السويسرية وال"بوينغ 707" تي.دبليو. آي تتجهان نحو العراق لكنهما انحرفتا في النهاية نحو الأردن واضطرتا إلى الهبوط ليلاً وسط الصحراء الأردنية على بعد 15 كيلومتراً شمال شرق الزرقا. حطتا فوق مدرج ترابي استعمله سلاح الجو البريطاني كمطار طوارئ في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، وكان يطلق عليه اسم "داوسن فيلد". وسط ديكور مذهل من كثبان رمال منخفضة تضيئها هنا وهناك مصابيح سيارات جيب كان ينتظرالطائرتين نحو مئة فدائي من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مدجّجين بالأسلحة. وقد أطلق على المكان تحدياً اسم "مطار الثورة". أما الطائرة الثالثة المختطفة، ال"بوينغ 747" التابعة لشركة "بان أميركان" فقد هبطت في بيروت، لأسباب تقنية كما زُعم، حيث صعد إلى متنها فدائيون آخرون يحملون تعليمات جديدة من وديع حداد، إذ لم يكن ممكناً إنزال "الجمبو جيت" على مطار ترابي مثل "داوسن فيلد" وذلك نظراً إلى وزنها الثقيل. ولكن بعد الساعة الاولى صباحاً بقليل أقلعت الطائرة الضخمة بتوجيه من قراصنة الجو في اتّجاه آخر هو مصر. إلامَ كانت تسعى الجبهة الشعبية من وراء عمليات الاختطاف هذه؟ حتى تلك الساعة لم يكشف ممثلوها في عمان إلا عن مطلب واحد هو إطلاق مناضلي الجبهة المحكومين بالسجن 12 عاماً في سويسرا بعد الهجوم الذي قاموا به ضدّ إحدى طائرات "العال" في زوريخ في شباط فبراير 1969. وقد تمّ توجيه إنذار إلى السلطات السويسرية، عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع مهلة ثلاثة أيام للتنفيذ. في المقابل تقوم الجبهة الشعبية بإعادة ال"دي.سي 8" السويسرية وإطلاق الركاب السويسريين. ولكن كان واضحاً، نظراً إلى وجود طائرات أخرى مختطفة وإلى العدد الكبير من الركاب من مختلف الجنسيات الواقعين في الأسر، أن منظمة حبش ستعلن قريباً عن مطالب أخرى. لذلك كنت أعتقد في سرّي أن الجبهة الشعبية تطمح إلى هدف آخر أكثر أهمية. فهذه لم تكن المرّة الأولى تقوم فيها الجبهة الشعبية أو تنظيمات صغيرة قريبة منها باختطاف طائرات مدنية بهدف إطلاق مناضلين لها معتقلين في أوروبا. ففي منتصف آب تمّ هكذا تحرير سبعة منهم كانوا مسجونين في اليونان بعد مفاوضات معقّدة جرت قبل ثلاثة أسابيع من أجل وضع حدّ لعملية ابتزاز مورست على إحدى طائرات شركة "أولمبيك" اليونانية. ولكن في المقابل كانت تلك المرة الأولى التي يتمّ فيها احتجاز طائرات تجارية مع طواقمها وركابها على يد الفلسطينيين في أحد البلدان العربية تحت سمع السلطات ونظرها. على كل حال بدأت نتائج التحدي تظهر اذ لم تتأخر عناصر من الجيش في الانتشار حول مطار داوسن وهي مزودة مدرعات. وفي ساعة متقدمة من الليل وردت أخبار تؤكد حصول تبادل اطلاق النار. .... قصدت أبو أياد على جناح السرعة فوجدته غاضباً يقول: ان أسوأ ما يمكن أن يحدث لنا هو وجود هؤلاء الأجانب المحتجزين في الصحراء على يد الجبهة الشعبية. انها ذريعة مثالية لكي يقوم المتشددون بالهجوم على المقاومة، وأخشى هذه المرة ألا تتمكن الجامعة العربية ولا أي لجنة رباعية من التوسط في النزاع. كذلك لم يكن يوفر العراقيين في غضبه: انهم مسرورون! يعتقدون ان ذلك سيدفعنا للاستيلاء على السلطة في عمان دون ابطاء... وفي الواقع كشف لي ابو اياد ما كنت أجهله من أن اقتراحاً بهذا المعنى تلقته قيادتنا اخيراً من مبعوث خاص من بغداد ليس سوى نائب الرئيس العراقي مهدي عمّاش. .... واضاف ابو اياد: نظراً للظروف كان من الصعب رفض الاقتراح العراقي. وختم قائلا: هذا ما يبرهن لك يا أبو داود ان ما يحدث الآن في مطار داوسن يرضي رغبات العراقيين. لا بد انهم لاحظوا قلة حماستنا أنا وعرفات للاقتراح الذي تقدموا به الينا قبل أربعة أيام. في المقابل انهم الآن مبتهجون لاقتناعهم بأن لا حلّ أمامنا سوى القبول بمخططهم والمبادرة بالهجوم على النظام اتقاء لردة فعله بعد الوضع الذي خلقته الجبهة الشعبية. فقلت: قد لا يكونون مخطئين في حساباتهم إلا اذا أقنعنا نحن وديع حداد وجماعته بالتعقل. فما الذي تنوون القيام به، في القيادة؟ - سنحاول في مرحلة أولى اقناع مسؤولي الجبهة الشعبية باطلاق النساء والأطفال على الأقل في مدرج داوسن. سنجتمع بهم بعد ساعة أو ساعتين للتباحث. اذا استطعنا انتزاع هذا المكسب، يمكننا اداء دور الوساطة مع القصر في مرحلة ثانية. - هل تمكنتم من الاتصال بجورج حبش؟ فأجاب أبو أياد: علينا ان ننساه، لأنه لا يزال مسافراً في الشرق الأقصى، في "زيارة صداقة" لكوريا الشمالية على ما يبدو. لا يمكن الاتصال به. على كل حال لا يبدو ان القرار عائد اليه في قضية مطار داوسن. المسؤول الحقيقي عن هذه الأمور هو حداد وليس حبش. .... كنت لا أنفك استرجع المناوشات التي حصلت في جبل عمان قبل ثمان واربعين ساعة. وأوضحت الموقف الى أبو أياد قائلاً: لا اعرف ماذا كانت تعد له العناصر المدرعة امس الاول، امام منزل كمال ناصر لكن انطلاقاً من هذه التلة الممتدة الى قلب العاصمة يمكن للجيش اذا ما احكم سيطرته هناك ان يقطعنا بسهولة عن بعضنا البعض، انتم في الشمال ونحن في الجنوب. ويجب اذاً تفادي ذلك مهما يكن الثمن. - أفهم منك يا أبو داود ان علينا احتلال جبل عمان بصورة احترازية! - جزئياً فقط. لا داعي الى تجاوز الدوار الذي ابعدنا القوات اليه في ذلك اليوم. ولكن علينا طردهم منه في كل حال. ان احتلال هذه المواقع يؤمن لنا تفوقاً استراتيجياً لا يستهان به. فهتف أبو أياد قائلاً: لست موافقاً على هذه العملية! -اني مثلك أتمسك بضرورة انتزاع أكبر عدد من الركاب من أيدي الجبهة الشعبية في وسط الصحراء. وأعتقد ان سيطرتنا على جبل عمان من شأنها تسهيل الأمور أمامكم. فلو افترضنا انكم توصلتم الى صيغة اتفاق مع وديع حداد فأني أشك في موافقته على تسليم السلطات الأردنية المسافرين الذين سيقبل بالافراج عنهم. اقترحوا عليه بالتالي اقتيادهم الى أحد الفنادق الواقعة تحت سيطرة المقاومة. فهم أبو أياد مقصدي: أوتيل انتركونتيننتال بين الدوارين الثاني والثالث! فاجبته: هل ترى أفضل منه فندقاً في العاصمة لاستقبال مئات الاجانب؟ .... - ممتاز. الى التنفيذ. هكذا بدأ بيوم الاثنين في 7 ايلول أسبوع من الجنون. أولاً لم تتأخر في الوصول أخبار طائرة الجمبو التابعة لشركة "بان أميركان" والتي اتجهت الى مصر، فقد حطت عند ساعات الصباح الاولى في القاهرة. ولكن ما ان وطئت ارض المطار حتى قام قراصنة الجو بافراغها بأقصى سرعة من الركاب والطاقم وفجروها بواسطة ما حمله اليهم معاونوهم من متفجرات لدى هبوط الطائرة في مطار بيروت. وسارع الناطق باسم الجبهة الشعبية في عمان الى التصريح: "هذا ردنا على قبول عبدالناصر بمشروع روجرز". كذلك أعلنت الجبهة الشعبية أنه سيصار خلال النهار إطلاق مسافري الطائرتين السويسرية والأميركية تي.دبليو.اي من النساء والأطفال والمسنين من غير اليهود المحتجزين في الصحراء الأردنية وإرسالهم إلى فنادق العاصمة. هذا كل ما استطاعت قيادتنا انتزاعه حتى الآن من وديع حداد. لكن عدد الذين أطلق سراحهم بلغ 127 شخصاً. يبقى مئتا شخص بين أفراد الطاقمين ومسافرين من جنسيات إسرائيلية وأميركية وسويسرية وألمانية غربية وإنكليزية بينهم 35 طفلاً في "مطار الثورة"، محتجزين داخل الطائرتين. .... اتّصلت بأبو أياد فقال لي: لا أعرف ماذا يدور في رأس وديع حداد، لكن في أسوأ الحالات سيقوم بتفجير الطائرات كما في القاهرة. لا يمكنني أن أتخيّل أن حياة المسافرين المحتجزين لا تزال فعلاً في خطر. إنها الورقة الوحيدة التي يمسك بها وديع حداد ورجاله لحماية أنفسهم. .... في هذه الأثناء كان الوضع يتدهور في أنحاء مختلفة من العاصمة. فقد أثارت عمليات خطف الطائرات يوم أمس أجواء من الحماسة دفعت بمجموعات غير منضبطة من الشبان الفلسطينيين والمتطرفين من كل الأنواع إلى المشاركة في ما يجري. فبدأوا منذ ساعات الصباح الأولى، وبعدما انضمت على الأرجح إلى صفوفهم مجموعة كبيرة من المحرضين، بزرع الفوضى في عدد من الأحياء. كانوا يقدمون على ما يسمّونه عمليات "تمشيط" بحثاً عن "أعداء الثورة"، فيصادرون السيارات ويفتشون بيوت ضباط الجيش الملكي. وقد أبلغت أن بعض هؤلاء تعرّض للخطف. كان رنين الهاتف لا ينقطع في مركز قيادتي في الوحدات. أغلب الأحيان كان المتّصل عرفات الذي يطلب منّي التدخّل هنا أو هناك، وأنا في كل مرّة أجيبه بالتمنّع: "لا وقت لديّ لذلك يا أبو عمّار. فليهتمّ الكفاح المسلّح بهؤلاء الهائجين، أنه اختصاصه في النهاية". وفي اتّصال آخر كان عرفات غاضباً لأن مبنى الإذاعة والتلفزيون الأردني في جنوبالمدينة تعرّض لإطلاق صواريخ. أثار عرفات حفيظتي بأسئلته، فقلت له في النهاية: هل تعتقد يا أبو عمّار أن العثور على المسؤولين عن هذه العملية هو فعلاً قضية الساعة؟ .... وفي أقل من أربع وعشرين ساعة تعقّدت الاوضاع. فعصر يوم الاثنين أعلنت الجبهة الشعبية ان في عديد المسافرين المحتجزين لدى فدائييها اسرائيليين ويهوداً اميركيين، وانه لن يتم اطلاقهم قبل تحرير عدد مناسب من السجناء العرب في اسرائيل. من جهتها، لم تتأخر حكومة غولدا مائير في اعلان رفضها التفاوض مع "منظمات ارهابية". فكانت النتيجة ان الحكومات الاوروبية التي التزمت في وقت مبكر من هذا اليوم اطلاق سراح الفلسطينيين المحتجزين لديها في مقابل الافراج عن مواطنيها الرهائن، اعادت النظر في موقفها، وربطت اطلاق السجناء الفلسطينيين بتحرير جميع المسافرين، الى اي جنسية انتموا. وكان هناك امر اضافي، اذ علمنا صباح الثامن من ايلول ان كلاً من بريطانياوالولاياتالمتحدة والمانيا الاتحادية وسويسرا فوضت الى ممثلي الصليب الاحمر الدولي صلاحيات مطلقة لاجراء مفاوضات باسمها مع الجبهة الشعبية. وبعد ساعات وصلت الى عمان "بعثة خاصة" من الصليب الاحمر الدولي. لم يشكل ذلك التفافا على قيادتنا وحدها التي اضطلعت حتى الآن بدور لا يستهان به اذ تمكنت من تخليص 127 مسافراً من ايدي وديع حداد وجماعته، بل شكّل ايضاً صفعة اضافية للسلطاتة التي وجدت نفسها مبعدة عن المفاوضات. اخيراً، وليس آخراً، هرع الى الاردن مئات الصحافيين من العالم اجمع، حتى ان وفوداً منهم وصلت يوم الثلثاء، كما أُبلغنا اخيراً، الى "مطار الثورة" المزعوم حيث عقدت الجبهة الشعبية مؤتمراً صحافياً الى جانب الرهائن المساكين، وعلى بعد مئات الامتار من الجنود الاردنيين الواقفين عاجزين في عرباتهم نصف المجنزرة. .... كان علينا جميعاً رص الصفوف. فمجازر الفدائيين في شمال البلاد تندرج ضمن سياق مجازر السبت والاحد في كل من الزرقا ومعان. لا شك في ان حملة "تصفية" لمقاتلينا قد بدأت الآن في جميع ارجاء المملكة. من اطلقها؟ جرى اتهام الاميركيين، وخصوصاً "مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية الموجودين في عمان". لكننا لم نكن نملك أي دليل على ذلك .... عند طلوع الفجر ازداد الرصاص غزارة من جهة قوات البادية وفي الوقت نفسه انطلقت المدرعات مسرعة في الرضوان وتمكنت من اجتياز المستديرة بالرغم من العوائق التي وضعناها في الطريق. ثم تقدمت في محازاة فندق انتركونتيننتال. لكن ها هو رتل ثانٍ من الدبابات يظهر فجأة عند مستديرة الملك طلال. لا بد انه هجوم واسع. اتصلت بعرفات من قيادتي في الوحدات لابلغه عرفات عن خطورة الموقف كما ارسلت عناصر دعم من الميليشيا الى جبل عمان. وصرخت بأبو رائد على الهاتف: اكتفوا بالتشبث بمواقعكم. لقد ارسل ابو عمار تعزيزات من الفدائيين الى رجالكم المتمركزين عند دوار الملك طلال من جبل اللويبده. من جهتي سأوافيكم فور تمكني من ذلك. ثم قفزت الى احدى جيبات اللاند روفر وانتقلت بسرعة الى مركز عرفات في جبل الحسين وبرفقتي مجموعة حماية. .... حاولت اعطاء تفسير لما يجري: اذا استمرت المواجهات دون انقطاع طوال النهار في جوار فندق انتركونتيننتال، فلن يتمكن مندوبو الجامعة العربية النازلون فيه مع الصحافيين والمحررين من ركاب الطائرات المخطوفة، من مغادرته للتحقيق في مجازر يوم امس في منطقة اربد. ربما هذا ما تسعى اليه القوات التي شنّت هجومها عند الفجر. .... توجه إلي عرفات بالقول: يمكنك يا ابو داود ان تقيم مركز قيادتك حيث تشاء، لكني قررت نقل القيادة العسكرية للمقاومة الى حيث دلكم ابو المعتصم. واهمية هذا المكان انه ليس مصيدة. ويمكن مغادرته بسرعة الى مكان آخر اذا صار الخطر داهماً. فسألته: والى أين ستتوجه عندها؟ - سنبلغك بوجهتنا. لكننا والحمد لله لم نصل الى هذا الحد! بانتظار ذلك فلنبدأ اخلاء المركز من اليوم. انتهت المناقشة وكنت مضطراً الى الالتحاق على وجه السرعة برجالي في جبل عمان. ....