سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ابو داود : خططنا لاحتلال السفارة الأميركية في الأردن وتم اعتقالي والمجموعة قبل تنفيذ العملية - ارتكبت الموساد خطأ في أوسلو حين اغتالت مغربياً ظناً منها أنه أبو حسن سلامة
انتهى أبو داود في الحلقة السادسة من مذكراته إلى وصف عملية اقتحام مدينة ميونيخ الرياضية وكيف ساعدت قامته الطويلة في رفع شباب المجموعة للقفز من فوق السور. بعدها تختفي روايته عن ما حصل في داخل البعثة، إذ تابع وقائعها على المحطات المرئية والاذاعية من فندقه كما تابع أخبارها ملايين البشر في المانيا والعالم. ومن أخبار المحطات وصورهم علم أبو داود أن العملية انحرفت عن أهدافها السلمية وتحولت إلى مواجهة دموية سقط فيها قتلى وجرحى من دون أن يعرف من استشهد من رجال المجموعة ومن بقي على قيد الحياة. من كل عمليات "أيلول الاسود" تبقى ماثلة في الاذهان الحادثة التي وقعت خلال اقامة الالعاب الاولمبية في ميونيخ. وكلفني الأمر أنني لا أزال، بعد 27 عاماً، أُعتبر "مسؤولاً عن المجزرة" التي حصلت ليل 5-6 أيلول سبتمبر عام 1972، على الأقل في بعض وسائل الاعلام الغربية. مع ذلك فإن صحيفة "جيروزالم بوست" الاسرائيلية، في عددها الصادر في 16 تموز يوليو عام 1992، أي بعد مضي عشرين عاماً على الوقائع، افترضت أنه من الممكن ألا يكون الرهائن قد سقطوا على ايدي رجالنا فقط، على مدرج مطار فورشتنفلد بروك. استغربت كاتبة المقال نيتي س. غروس كيف ان الالمان لم ينشروا أبداً نتائج تشريح الاسرائيليين، ولا الكشوف الباليستية التي كان من الممكن ان تحدّد مصدر الطلقات التي قتلتهم. كما ان الحكومة الاسرائيلية لم تحصل ولم تطلب اطلاعها على هذه الوثائق على رغم من مطالبات عائلات الضحايا المتكررة، حتى لكأن السلطات الالمانية والاسرائيلية لم ترغب في كشف الحقيقة كاملة. عندها فقط، وبعد اسبوع، أي في 23 تموز، أكدت صحيفة اسرائيلية أخرى هي "يديعوت احرونوت"، وللمرة الأولى، ان ثمانية من الرياضيين الاسرائيليين التسعة الذين سقطوا في المطار قتلوا برصاص الشرطة الالمانية الغربية. وقد بنت الصحيفة تأكيداتها على تقرير الاطباء الشرعيين الالمان الصادر في 6 أيلول عام 1972، والذي لم يدر أحد بأي وسيلة حصل عليه محامو أهل الضحايا. وأنا لا استغرب رؤيتي هذه العائلات تسعى بعد زمن طويل الى معرفة الظروف الحقيقية لتلك المأساة، فيما نحن، من جهتنا، اكتفينا بترك الكثير من الغموض يكتنفها. وعليّ في الواقع الاعتراف باننا لم نحاول، على مدى عشرين عاماً، تقديم كل الايضاحات ولا حتى ان نُطلع العالم على ما حدث فعلاً. لا بل اننا اضفنا اليها أخباراً "مضللة" إذا جاز القول. وفي هذا الاتجاه تضافرت اسباب كثيرة، أولها اننا رأينا غداة هذا الحادث المأسوي، وفي الأشهر التي تلت، أن لا شيء يجب ان يشوّه في نظر مواطنينا السمعة التي حققها فريقنا بفضل عمليتنا في ميونخ، في ما يتعلق بشجاعته وعدائه الشرس لأسرائيل وحلفائها. وأنا أذكر كيف استقبلني ابو اياد، بعد قليل من وصولي الى تونس أوائل ما بعد ظهر 6 أيلول، وانضمامي اليه في أحد فنادق حمامات حيث كان ينزل مع فخري العمري، إذ قال لي: - برافو! صحيح اننا لم نستطع تحرير بعض رفاقنا السجناء في اسرائيل، غير اننا حققنا جميع اهدافنا الاخرى، وأكثر حتى! ثم راح يعدّد ما حققناه، قائلاً انهم كانوا يحاولون اقصاءنا عن هذا التجمّع الدولي الكبير، ولكننا فرضنا وجودنا. وبفضل ما وفرته هذه الالعاب الاولمبية من صدى، سمع الرأي العام العالمي بالقضية الفلسطينية. اما الخاتمة التي آلت اليها، فإن سلطات المانيا الغربية، والحكومة الاسرائيلية بنوع خاص، هي التي تتحمل المسؤولية الكبرى. صحيح اننا قتلنا، لكنهم أجبرونا على ذلك. وأخيراً، من النتائج التي لا تقل شأناً، ان ضربتنا شوّهت الصورة المكونة في العالم العربي والفلسطيني عن مناعة الاسرائيليين. لكأننا نحقق نصراً آخر شبيهاً بمعركة الكرامة. وزاد ابو اياد معلناً: ليس هناك سوى هتافات الفرح في كل مخيمات اللاجئين، من لبنان الى سورية إلى غزة. غداً سندعو، نحن الاثنين، الصحافيين كي نؤبّن شهداءنا. فسألته متعجباً: ولماذا ننتظر الى الغد؟ فأجابني: لأنه ليس مرغوباً فينا هنا في تونس. فقد طلبت الينا أجهزة بورقيبه ان نغادر باسرع ما يمكن. وذلك بسبب هذا الغبي فخري. ولا بد ان اضيف هنا انني لدى وصولي، لاحظت أن فخري يبدو منسحقاً وهو منهمك بتوضيب حقيبته في الجناح الذي كنا نشغله دون ان يتفوه بكلمة، ولم البث ان فهمت السبب. فقد تسبّب فخري بعمل طائش اقترفه في اليوم السابق احد رجالنا في ميونيخ. فما حدث هو ان احد الفدائيين الشبان حاول الاتصال هاتفياً من الشقة التي احتلها فريق الكوماندوس في القرية الاولمبية، على رقم في تونس كان فخري اعطاه اياه قبل ايام، علماً ان لا ابو اياد ولا انا اعطينا تعليمات من هذا النوع. فقد كانت مجرد مبادرة من فخري تحسباً لأي وضع طارئ قد يواجهه رجالنا، كأن يقدّم اليهم الالمان عرضاً لم نفكر فيه. والحال ان الرقم المذكور كان عائداً الى سفير اردني سابق يدعى فرحان شبيلات منفي في تونس، وابنه طلال كان صديق فخري. ومن سيئات الامور ان اسم "طلال" هو، اضافة الى "ابو محمد"، احد الاسماء الحركية التي كان يعتمدها فخري. وقد نتج من ذلك التباس عجيب حين ردّ على الفدائي الشاب الذي لم نعرف لماذا كان يتصل من ميونيخ، طلال ابن السفير وهو غير "طلال" الذي يعرفه. وعندما علم ان لا شأن له مع محدثه الذي طلبه، اقفل الخط مكتفياً بالاشارة الى انه سيعاود الاتصال بعد ساعة، غير انه لم يفعل ذلك، إلا ان الالمان كانوا يتنصتون طبعاً على خط الشقة التي احتلها فريق الكوماندوس، ولم يتأخروا في ابلاغ السلطات التونسية انه يتمّ توجيه عملية "ايلول الاسود" في الالعاب الاولمبية من تونس. عندها سأل الرئيس التونسي مساعديه القريبين: - من هم المسؤولون الفلسطينيون الموجودون عندنا حالياً؟ فأجيب: ابو اياد. فقال: حسناً، ابلغوه بضرورة مغادرة أراضينا على جناح السرعة، اننا نواجه مشاكل مع الالمان. هكذا وجدت نفسي في الطائرة من جديد، في نهاية ما بعد ظهر السادس من ايلول، ولكن هذه المرة بصحبة ابو اياد وفخري العمري متوجهين الى ليبيا. وخلال الرحلة عدت مع ابو اياد الى تفاصيل مأساة الليلة السابقة، وقد كان مطلعاً على معلومات، اكثر مني بكثير، بعدما استمع منذ الصباح الباكر الى كل الاذاعات الممكنة. اطلعني اولاً على الظروف التي اشعلت اطلاق النار، موضحاً انه ما ان حطت طائرتا الهيليكوبتر في مطار فورشتنفلد بروك، حتى ذهب تشي ومحمد مصالحة لتفتيش طائرة اللوفتهانزا التي كان من المفترض ان يستقلها سائر افراد الكوماندوس مع الرهائن. ولحظة رجوعهما باتجاه طائرتي الهيليكوبتر فتح الالمان نيرانهم من مباني المطار، فسقط الاثنان فوراً اضافة الى واحد او اثنين من الرفاق الذين نزلوا أيضاً من الطائرتين محاولين منع الطيارين ومساعديهما من التدخل. تحسّرت عندما علمت ان رفيقيّ كانا من اوائل الذين اصيبوا اصابات قاتلة، لكن هذا لم يمنعني في الوقت نفسه من الاعتراف بانهما لم يكونا على جانب كبير من الحذر عندما ابتعدا عن الآخرين. وكنت على اقتناع تام بان الالمان ما كانوا ليتجرّأوا على اطلاق النار لو ان رجالنا انتقلوا جميعاً معاً الى الطائرة مصطحبين الرهائن. وتابع ابو اياد: لا اعرف لماذا تصرف تشي ومحمد بهذا الشكل. وأياً يكن الأمر، فإن الوضع في تلك اللحظة كان على الشكل الآتي: ثلاثة من جماعتنا على الأقل مرميون ارضاً، قتلى أو ربما جرحى فقط. اما الآخرون الذين كانوا يحتمون تحت الهيليكوبتر أو في داخلها مع الرهائن فكان باستطاعتهم ان يتفرقوا ويرموا سلاحهم مستسلمين. لكن لا! فبعدما سقط رفاقهم في الهجوم، تصرفوا كما يجب، وردوا منتقمين وهم يعلمون انهم في هذا الظرف بالذات يقومون بعمل انتحاري. وعندما تدخلت المدرعات الالمانية بدورها قرر رجالنا ان يقتلوا الرهائن. ولكي لا نبقى محتقرين، ذهبوا في الامر حتى النهاية، ولم يسمحوا بان يتكرر معنا ضرب دايان في اللد ضد فريق سلامة الذي كان خطف طائرة "سابينا". كل هؤلاء الرجال أبطال! ما كنت لأشك في ذلك، لكن عرض الوقائع بهذا الشكل كان يلائمنا أيضاً، إذ رحت استعيد ما سبق لابو اياد ان قاله لي في الصباح عن هتافات الفرح في كل مكان من مخيمات اللاجئين. إذن، بالنسبة الى معظم مواطنينا، اتخذت المجزرة التي حصلت في المطار طابع النصر الكبير، وخصوصاً أن اشاعات بدأت تنتشر عبر الاذاعات الاوروبية وتفيد ان مسؤولين كباراً من اجهزة الامن الاسرائيلية ارسلوا على جناح السرعة، عشية المجزرة، الى جانب السلطات الالمانية وساعدوا الشرطة في المواجهة النهائية. ولكن سواء أكان هذا الخبر صحيحاً ام كاذباً، حول ما جرى مساء السادس من ايلول بعد المكمن الذي اعدّ لمجموعة الكوماندوس، وبنوع خاص بسبب تصلب السيدة غولدا مئير، فان مواطنينا ما كانوا ابداً ليسامحوا رجالنا الذين نجوا من الرشقات الاولى لو انهم لم ينتقموا من الرهائن. انه السبب الحقيقي في الواقع الذي جعلنا نغطّي الروايات التي روّجت ان رجالنا هم الذين ارتكبوا المجزرة ضد الاسرائيليين فوق مدرج مطار فورشتنفلدبروك. هكذا لم نتردد في 7 أيلول في تكذيب بيان للحكومة المصرية يؤكد العكس ان فرقة الكوماندوس والرهائن قد قتلوا برصاص الشرطة الالمانية الغربية. وفي المساء عينه سلمنا نصاً الى وكالة الصحافة الفلسطينية "وفا" يعرض "تفاصيل جديدة" من "مصادر خاصة" تؤكد ان "رجالنا فجروا قنابلهم داخل طائرتي الهيليكوبتر مما أدى الى استشهادهم، والى موت الرهائن وبعض الطيارين الالمان". وقد تمسكنا بتلك الرواية الى الدرجة اننا نسينا ان طائرة هيليكوبتر واحدة فقط احترقت في الحقيقة. وليس هذا كل شيء. فبعد شهرين او ثلاثة، عندما اخبرنا احد الناجين الثلاثة من رجال الكوماندوس ان الرهائن في الهيليكوبتر التي كان منبطحاً بقربها، وهو جريح، قضوا برصاص الالمان، حرصنا جيداً على عدم اعلان ذلك. وحتى في العام 1978، استمر ابو اياد، عندما نشر مذكراته، متمسكاً بتلك الرواية التي ساهمنا جميعاً في نشرها. وما يجدر ذكره أيضاً هو اننا اعتقدنا صراحة، ولزمن طويل، ان احد رجالنا هو الذي رمى القنبلة اليدوية التي احرقت الهيليكوبتر. ولم نتصور، ولو للحظة واحدة، ان تكون ربما طلقات الرشاشات الالمانية هي التي اشعلت الطائرة بعد اصابتها خزان الوقود. لكن مسؤوليتنا عن الاخبار المضللة لا تنتهي هنا. فمن المعروف اننا، انا وابو اياد، كنا العقل المدبّر لهذه العملية، فبات علينا ان نتصرف بمهارة. فأمام مواطنينا كان من المهم ان نبيّن ان مجموعتنا، وليس غيرها، هي التي خططت "ضربة ميونيخ"، ولم يكن كافياً التباهي بشعار "ايلول الاسود". إذ ان مجموعات أخرى من فتح كانت تستعمله كما هو معروف. لكنني في الوقت نفسه لم ارَ من الملائم ان يدعو ابو اياد الصحافيين ويرفع امامهم جوازات عناصر الكوماندوس التي اعدتها معي ويعلن: "أنا الذي ادخلت سراً الى المانيا الاسلحة اللازمة للعملية". اما في ما خصني انا، فلم أرَ أيضاً انه من مصلحتي ان اكشف انه خلال الاستطلاعات الاخيرة في المدينة الاولمبية، جمعتني المصادفة بصبية اسرائيلية سهّلت مهمتنا من دون ان تدري عندما ساعدتنا انا ومسؤولي الكوماندوس على زيارة قسم من الأجنحة التي كانت تقيم فيها البعثة الاسرائيلية، إذ لكان هذا تهوّراً كبيراً من جانبي، إذ لا بد ان يكون الالمان والاسرائيليون قد استجوبوا الفتاة فوراً ووضعوا لي صورة تقريبية. باختصار، بدا من المهم لنا، في مواجهة خصومنا، ان نمحو كل الآثار التي تسمح لهم بالتعرف الينا. ولكن كيف التصرف ما بين هاتين الضرورتين المتناقضتين؟ لكي نحل هذه المشكلة خصصت مع ابو اياد قليلاً من الوقت الذي امضيناه في طرابلس، بعد انتقالنا القسري اليها من تونس في 6 ايلول. وليلة وصولنا ذهبنا معاً لزيارة العقيد معمر القذافي فعرض عليه ابو اياد الجوازات الثمانية التي اعدتها معي. وتقرر خلال اللقاء ان تنظم ليبيا جنازة فدائيينا الخمسة الذين قتلوا على يد الشرطة الالمانية الغربية. وفي الصباح، وجهت سلطات طرابلس رسالة رسمية الى وزارة الخارجية في بون تطلب فيها تسليم ليبيا رفات شهدائنا في اقرب مهلة. كما افاد ابو اياد من اقامتنا القصيرة في العاصمة الليبية كي يتحدث الى مجموعة صغيرة من الصحافيين العرب. كان هدف اللقاء دعم خطوة طرابلس في مواجهة بون. في الواقع كنا نريد ان ينقل هؤلاء الصحافيون في مقالاتهم وبرقياتهم انذاراً من "ايلول الاسود" إلى السلطات الفيديرالية الالمانية يؤكد انه اذا لم تسلّم جثث شهدائنا والجرحى الناجين الثلاثة، فاننا نتوعد بتوجيه "ضربات قاسية" ضد جمهورية المانيا الاتحادية. ولكن سرعان ما اتخذ الاجتماع منحى آخر، اذ عندما علم الصحافيون اننا كنا وراء هجوم "ايلول الاسود" في الالعاب الاولمبية، انهالت علينا الاسئلة حول الطريقة التي اعتمدتها المجموعة في تخطيطها العملية. ولنعلم أيضاً ان الالمان من جهتهم، بدأوا يشيعون جملة من الانباء حول التواطؤ الذي افاد منه فدائيونا في المكان، وعلى ذمتهم فإن بعض رجالنا توصلوا الى تدبير اعمال في المدينة الاولمبية، فعمل احدهم طاهيا في المطبخ، واستخدم آخر فيها كمهندس اثناء تنفيذ الاشغال الخ… وهذا نوع من المزاح في نظر من يعرف في اي ظروف ارتجالية في الحقيقة حضرنا ضربتنا. لكننا فهمنا، بعد ذلك، لماذا اصر المسؤولون الالمان على هذه الحماقات، فبعدما تكاثرت الانتقادات الموجهة اليهم حول الخفة التي بدرت منهم في تأمين حماية ضيوفهم خلال الالعاب، كان عليهم ان يوضحوا انهم، وإن اتخذوا اجراءات خاصة لحماية البعثة الاسرائيلية، فإن ذلك ما كان ليغيّر شيئاً إذ أن مجموعة "ايلول الاسود" كانت قد زرعت رجالها في المكان. يبقى من سخرية الحكاية ان ابو اياد، خلال اجتماعه هذا بالصحافيين العرب في العاصمة الليبية، أكد "الايحاءات" الالمانية. وقد امل من وراء ذلك ألا يسعى احد الى التفتيش في مكان آخر. وليس مستغرباً في هذه الظروف ان تترسخ في الاذهاب مجموعة من الخرافات. ولكنني استنبطت بنفسي هذا الاسلوب، فعدت الى تبني هذه الخرافات بعد اشهر عدة، عندما قبض علي في عمان في شباط فبراير 1973، وكان عليّ مواجهة استنطاقات عنيفة... وفي الانتظار لم يتأخر الرد الانتقامي الاسرائيلي. فبعد 48 ساعة على مأساة فورشتنفلدبروك، قصف الطيران الاسرائيلي العشرات من القواعد ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية ولبنان. وسقط نتيجة الغارات التي نفذت بعد ظهر يوم جمعة، أي يوم عطلة، اكثر من 200 قتيل، غالبيتهم من المدنيين. إلا أن القاذفات الاسرائيلية لم تستهدف في أي لحظة من ذلك النهار 8 أيلول القاعدة الواقعة شمال صيدا حيث تم اعداد متطوعي مجموعتنا. وهذا ما يؤكد ان اعداءنا كانوا يجهلون كل شيء عنا. ويروى ايضا ان غولدا مئير، و"انتقاماً" أيضاً لمجزرة ميونيخ، اعطت في تلك الايام الضوء الاخضر لتصفية جميع القادة والمسؤولين الفلسطينيين الذين يمكن ان يكونوا ساهموا فيها من بعيد او قريب، بحسب تعليمات اجهزة "الموساد". ولكن على رغم مما اعترف به رسميا الاسرائيليون عام 1993 - وما يسعى الى تأكيده كتّاب يبدو انهم كانوا يستقون معلوماتهم من افضل المصادر الاسرائيلية، فأنا لست مقتنعاً كلياً بعرض الوقائع على هذا. أساساً لا اعتقد ان الأمر يتعلق فقط ب"الانتقام لميونيخ". ففي الواقع ما كاد القادة الاسرائيليون يطلقون عملياتهم الثأرية الاولى في 8 أيلول، حتى كانت مجموعتنا تضرب من جديد. وقد اوضحت كيف ان عمليتنا خلال الالعاب الاولمبية قد شكلت جزءا من هدف اكثر طموحا بكثير، يقضي بتوجيه الضربات الى الاجهزة السرية الاسرائيلية العاملة في اوروبا. ولم تكن تصفية عملاء "الموساد" أولوية فحسب، وقد اضطررت من جهتي الى ان اذهب بعد فترة وجيزة لتسلم المعدات المتطورة التي طلبناها من صوفيا في اوائل آب اغسطس، لهذا النوع من العمليات. ولكن في الاسبوع نفسه الذي نفذنا فيه "ضربة ميونيخ" انتقلنا أيضاً، وللمرة الأولى، إلى العمل في هذا المجال. فمنذ اشهر كنا نستدرج احد اهدافنا المدعو زادوك اوفير الذي كان يشغل منصبا في السفارة الاسرائيلية في بروكسل، وكانت مهمّته في الواقع استخدام مخبرين عرباً واسرائيليين، لأنه كان يجهل احد التفاصيل وهو ان احد "صلاته" هو في الواقع من عملائنا واسمه محمد احمد ر.، وهو فلسطيني يتظاهر بأنه مغربي. وكان ابو اياد يعلم ان بروكسل، بعد الخلاف الكبير الذي نشأ بين اسرائيل وفرنسا الجنرال ديغول عام 1967، نابت عن باريس كمركز انطلاق لأجهزة المخابرات الاسرائيلية في اوروبا، فأوفد محمد يتسكع في العاصمة البلجيكية ومهمته ان يعمل على ان يستخدمه "الموساد". نجحت الخطة تماماً، فقد ابتلع اوفير الطعم وكشف عن نفسه، ولم يبق الا تصفيته، وهذا ما تكفل به محمد ر. شخصيا. ويوم الاحد في 10 ايلول، تلقى اوفير في بروكسل اتصالاً هاتفياً مفاجئاً من مخبره المزعوم الذي طلب مقابلته لأمر ضروري لأنه، بحسب زعمه، يحمل معلومات قيمة. وبحسب توقعاتنا، يبدو ان الضابط الاسرائيلي اعتقد انه لا مجال للتردد، خصوصاً بعد ايام من احداث ميونيخ. فقبل فوراً مقابلة "صلته" وحدد الموعد في المساء في احد المقاهي الشهيرة وسط المدينة. وما ان جلس الرجلان الى الطاولة داخل المبنى نهض محمد فجأة شاهراً مسدسه واطلق عيارات عدة على الاسرائيلي، ثم خرج مندساً بين الناس مستفيداً من حال الذعر الناتجة من اطلاق الرصاص. كنت في هذه الاثناء في دمشق أرد الى مسؤولنا المالي ابو مازن ما تبقى معي من اموال بعد عملية ميونيخ، وبالضبط 500 دولار و37 ماركاً المانياً. وقد اغتبطنا جميعاً عندما علمنا بالخبر. كما علمنا ايضا ان السلطات الالمانية الغربية وافقت على اعادة جثث فدائيينا الخمسة الذين قتلوا قبل خمسة ايام الى طرابلس الغرب. فصار بالامكان تنظيم مأتم احتفالي في العاصمة الليبية واقامة التشريفات العسكرية الملائمة لهم. وقد رأى ابو اياد ان يبادر الى تدبيج نص يقدم على انه "وصية" فدائيي ميونيخ. والحقيقة ان عملية بروكسل لم تحقق نجاحاً كاملاً، وهذا ما علمته بعد وقت وانا في اللاذقية حيث كنت امضي عطلة مع افراد عائلتي. فقد نجا زادوك اوفير، على رغم الاصابات البالغة التي اصيب بها. لكن هذا لم يمنع ان تسيطر على اسرائيل حالة من الوجوم. فقد زعزعت هذه المحاولة فعلا اسطورة مناعة المخابرات الخاصة الاسرائيلية. كما انها برهنت، بتوقيتها بعد عملية ميونيخ، ان الفلسطينيين باتوا يعرفون كيف يعملون في الخفاء، وكيف ينشئون الشبكات، وينظمون العمليات الهادفة. وفي ما بدا انه ترسيخ لهذه الفكرة، لم يتأخر بعض جماعاتنا في التصرف بدورهم. ففي 19 ايلول اغتيل مستشار اقتصادي في السفارة الاسرائيلية في لندن وهو في مكتبه بواسطة رسالة مفخخة مرسلة من امستردام. لم اكن انا قريباً من الذين قاموا بالعمل، إذ كانوا من رفاقنا في فتح من جماعة ابو جهاد الذي لم يكن ينقصه الخبراء في تجهيز الرسائل المفخخة. ويمكنني ان اؤكد بالمقابل ان هذه العملية كانت ردا على الاعمال الانتقامية الاسرائيلية الجديدة. فقبل ثلاثة ايام، اي في 16 و17 أيلول، ودائماً "انتقاماً لميونيخ"، وربما أيضاً لبروكسل، اطلقت اسرائيل جيشها في عملية اجتياح سريعة، وإنما دموية، لجنوب لبنان. وتبيانا لعنف الاعمال الانتقامية التي مورست آنذاك، نذكر ان مخيم النبطية مسح بالأرض تقريباً. حتى ان دبابة اسرائيلية سحقت على مدخل بلدة جوبا سيارة بركابها السبعة، وهي كانت توقفت اساساً على حاجز اقامه الجنود الاسرائيليون. وأياً يكن الأمر، فإن عملنا في الألعاب الاولمبية في ميونيخ، اضافة الى محاولة الاغتيال التي استهدفت "الموساد" في بروكسل، والعملية الاخرى التي لم تكن من اعداد مجموعتنا ضد المستشار الاقتصادي الاسرائيلي في لندن - كل ذلك كان كثيرا مما ينفذ في ايام قليلة. فبنقلنا الصراع الى اوروبا، عبر المجموعات كلها، اوجدنا ارض معركة حيث امكننا، لمرة على الاقل، انتزاع المبادرة من الاسرائيليين. وابعد من الرغبة في الانتقام لميونيخ، اعتقد ان تزامن عملياتنا هذه مع الاعمال الانتقامية، القليلة الفاعلية نسبيا، التي مورست ضد شعبنا، هو ما كان في اساس حملة الاغتيالات التي اطلقها قادة الدولة الصهيونية في ذلك الخريف ضد كل من استطاعوا ان يطالوه من جماعتنا. وبرهاني على ذلك اخيرا الاهداف التي حددت ل"فريق التصفية" التابع ل"الموساد". فالضحية الاولى كانت وائل زعيتر ممثلنا في ايطاليا الذي اغتيل في 16 تشرين الاول اكتوبر باثنتي عشرة طلقة مسدس فيما كان يدخل المصعد الى شقته المتواضعة في روما. وهو لم تكن له أي علاقة بعملية ميونيخ سوى انه في الاسابيع التالية صرح للصحافة الايطالية ان الاسرائيليين قد تدبروا الأمر كي يقتل الرهائن ويحققوا بذلك بعض المكاسب السياسية. هذا التصريح وحده كان كافيا كي يحكم عليه بالموت... اما الضحية التالية فكان محمود همشري ممثلنا في باريس الذي اصيب بجروح بالغة في 8 كانون الاول ديسمبر اثر انفجار هاتفه المفخخ، فاقتلعت ساقه ثم توفي في 9 كانون الثاني يناير التالي في احد مستشفيات باريس. وفي كانون الثاني هذا ادى تفجير جهاز مماثل بواسطة اشارات لاسلكية هذه المرة، الى مقتل مندوبنا في قبرص حسين بشير ابو الخير احد القريبين من ابو يوسف النجار. وفي هذه الاثناء تسببت رسالتان مفخختان مرسلتان من بلغراد في اصابة ممثلينا في الجزائر ابو خليل وفي ليبيا مصطفى عوض زيد بجروح بالغة، متسببة لهما في اعاقات دائمة. بالاجمال ان هذه الاغتيالات تذكر بنوع خاص بتلك التي ذهب ضحيتها في تموز يوليو مثقفون فلسطينيون هم غسان كنفاني وبسام ابو شريف وانيس صايغ. جرى الأمر اذن كأن اجهزة المخابرات الاسرائيلية التي عجزت عن قتل رؤساء "عمليين" في فتح مثل أبو يوسف وأبو جهاد وأبو اياد وحتى وديع حداد من الجبهة الشعبية، راحت تفتك، بانتظار الأفضل، بجميع الذين كانوا مكلفين شرح سياسة منظمة التحرير ويقيمون علاقات مستمرة مع حكومات أجنبية. وبما انه كان على "الموساد" ان يبرر اغتيالاته هذه، فهو اتهم، في ما بعد هؤلاء الرجال بالتورط في عملية ميونيخ بشكل أو بآخر. وللمفارقة، وفيما بدأت "حرب خفية" حقيقية بيننا وبين الاسرائيليين، شرع الالمان، من جهتهم، بمحادثات سرية مع بعض قادتنا. اما دافعهم الى ذلك فهو انهم كانوا يفتشون عن وسيلة للتخلص من الفدائيين الثلاثة الناجين في ميونيخ والمحتجزين لديهم، وهم يعتمدون في ذلك علينا. هذا على الاقل ما سارع الى اخباري به كمال عدوان عضو اللجنة المركزية الذي تقرّبوا منه عند عودتي الى بيروت في أواخر ايلول بعد العطلة التي امضيتها مع عائلتي في سورية. لم تكن مبادرة الالمان لتفاجئني. فرفاقنا الثلاثة كانوا سيخضعون للمحاكمة التي يمكن ان تضيء بعض الجوانب، ومن جديد ستعود الى الواجهة اخطاء الالمان في المأساة السابقة. وفهم الالمان من جهة اخرى، اننا لن ننتظر طويلاً كي نحاول القيام بشيء ما لتحرير رجالنا، خصوصاً أنه قبل فترة اعتقد احد مسؤولي دائرة الاعلام في حركة فتح انه مخول الكلام باسم "أيلول الاسود" إلى صحافي في مجلة "كويك" الصادرة في ميونيخ، فاطلق تهديدات جديدة معلناً: "ان لنا اصدقاء مناهضين للصهيونية في العالم اجمع، ونحن قادرون على التصرف في أي وقت كان. والاجواء مليئة بالطائرات الالمانية...". وهذا يعني بشكل واضح انه اذا لم تعجل المانيا في اطلاق الناجين الثلاثة من فدائيي ميونيخ، فإن "أيلول الاسود" ستهاجم طائرات شركة لوفتهانزا. أما انا فلم تعجبني تلك التصريحات، اذ كنا نعترض في مجموعتنا، كما ذكرت، على خطف الطائرات، اضافة الى انه لا شأن لحركة فتح في ذلك. ففي دمشق كنت قد اتفقت مع ابو مازن وابو اياد على ان ننتظر شفاء الفدائيين الثلاثة المحتجزين في السجون البافارية كليا من جروحهم كي نقوم بأي عمل. وعلى كل حال يبدو ان الالمان صدموا بالانذار المنشور في مجلة "كويك" وعندها، على ما اعتقد، حضر الي كمال عدوان حاملاً رسالة لم يحدد ان كانت صادرة عن سفارة المانيا الغربية في بيروت او عن شركة لوفتهانز! انبأني قائلا: لقد تقدم الالمان بعرض. فهم مستعدون لأن يدفعوا فورا تسعة ملايين دولار، اضافة الى مبلغ سنوي يمكن تحديده، شرط ان تقبلوا العمل وفق سيناريو، يقضي بتنفيذ عملية خطف مدبرة على احدى طائراتهم، فيسارعون هم الى اطلاق السجناء الثلاثة. فقاطعته رافضاً ان اسمع منه المزيد: ماذا يعتبروننا؟ انت تعرف ان خطف طائرات الركاب، سواء اكانت المانية ام غيرها، هو ضد مبادئنا. وحتى لو تظاهرنا بذلك، فإن كل أموالهم لا تكفي لتعويض الخسارة التي ستمنى بها صورتنا والقضية الفلسطينية. فبعكس بعض ابناء شعبنا، نحن لسنا قراصنة. وسألني كمال مصراً: ولكن ماذا تفعل برجالك المعتقلين في المانيا؟ - نعرف كيف نحررهم في الوقت المناسب. - ألا تخشى حتى ذلك الوقت ان يفشي احدهم مثلا باسمك الى الالمان؟ فقد سمح اخيراً للمحامي عمار بن تومي نقيب المحامين الجزائريين بأن يتحدث اليهم، ويبدو انهم يلقون معاملة سيئة في سجونهم. فأجبته مطمئناً: اطمئن يا كمال، فمهما قالوا لم يكن هناك ابو داود في ميونيخ! وفي الواقع كنت قد قلّبت الموضوع غير مرة في رأسي. فعندما عرض الالمان صور الناجين الثلاثة، عرفت بينهم الفدائي الشاب الذي ناداني باسمي عندما كنت اساعد رجالنا على تسلق السياج المحيط بالقرية الاولمبية. طبعاً اعطى السجناء الثلاثة المحققين الالمان اسماء وهمية، أضف انني انا نفسي كنت اجهل اسماءهم جميعاً عندما قابلتهم في ميونيخ. وعندما علمت بعد ذلك بقليل الهوية الحقيقية لهذا الشاب فهمت لماذا بدا ان ابراهيم هذا يعرفني، فهو كان ينتمي الى ميليشياتنا في لبنان، وبالتأكيد رآني هناك من قبل. لكنني لم اعبأ كثيراً للأمر، فعلى افتراض انه، تحت ضغط التعذيب، كشف للشرطة الالمانية الغربية ان احد المدعوين ابو داود قد ساعدهم، فإن هذا الاسم لا يظهر على اي سجل في فنادق ميونيخ. كما ان أياً من السجناء الثلاثة لم يكن يعرف في اي فندق نزلت، ولا بأي هوية كنت اقيم في المدينة. ولهذا السبب ايضاً لم اقلق كثيراً عندما قرأت، في أواخر أيلول أيضاً، في احدى الصحف اللبنانية ان الالمان يشتبهون بأن شخصاً غامضاً يدعى سعد الدين ولي كان على ارتباط بالفدائيين، وانه يحمل جواز سفر عراقياً وقد نزل في فندق "ايدن فولف". فأي علاقة لذلك "بابو داود"؟ رفضت اذن العرض الالماني الذي نقله كمال عدوان، وقد ايّدني في قراري هذا ابو اياد حين ابلغته به، وهو في الخارج مع عائلته. ولكن يبدو ان فلسطينيين آخرين دخلوا اللعبة التي عرضها الالمان، اذ بعد شهر في 29 تشرين الاول، علمت، مثل الجميع، ان فدائيين خطفوا طائرة "بوينغ 727" تابعة لشركة لوفتهانزا وهي تقوم برحلة بين دمشق وفرنكفورت وتمت الموافقة فوراً على اطلاق بعض رفاقهم. كان في ذلك الكثير من النفاق. فالطائرة التي توقفت في بيروت لم تكن تنقل اي راكب الى دمشق، وصعد على متنها في العاصمة اللبنانية ثلاثة عشر فقط لم يكن بينهم أي امرأة او طفل. وبعد اقلاعها بقليل ترك اثنان منهم مقعديهما واستوليا على اجهزة الاتصال ليعلنا عن مطالبهما القاضية باطلاق فدائيينا الثلاثة المحتجزين في المانيا وإلا فجّرا الطائرة في الجو! وبعد بضع ساعات اقلعت من ميونيخ طائرة بمحركين تابعة لشركة لوفتهانزا وعلى متنها رفاقنا الثلاثة وتوجهت الى زغرب حيث كانت البوينغ المخطوفة تنتظرها في اجوائها. حطّت الطائرتان، الواحدة تلو الاخرى، في مطار زغرب ثم صعد رجالنا المحررون على متن البوينغ 727 لتقلع بهم من جديد باتجاه ليبيا. وقد وصلوا الى العاصمة الليبية حوالى التاسعة مساء، فتسلم مسؤول من فتح الفدائيين الناجين فيما هرع سفير الجمهورية الاتحادية الى سلم الطائرة ليعتذر باسم شركة لوفتهانزا الى الركاب الرهائن الاحد عشر وليهنئ طاقم القيادة. وقد تمت العملية بأكملها في اقل من خمس عشرة ساعة! فَمَن كان هؤلاء القراصنة؟ في البداية لم يكن الأمر واضحاً، إذ صباح اليوم نفسه وضعت منظمة مجهولة وقتها، تطلق على نفسها تسمية "الشبيبة الوطنية العربية لتحرير فلسطين"، بياناً بمطالبها في صندوق بريد "وكالة الصحافة الفرنسية" في بيروت. ولكن على ما يبدو لم يكن خاطفو البوينغ على علاقة بها، إذ أنهم بحسب الالمان اشاروا مرات عدة بواسطة جهاز الاتصال في الطائرة الى انهم ينتمون الى منظمة "أيلول الاسود". أما الصحف الاسرائيلية فقد ادعت، من جهتها، انهم قريبون من سلامة. وفي المناسبة حمل الاسرائيلين، وللمرة الأولى ابو الحسن مسؤولية خطف الرياضيين الاسرائيليين في العاب ميونيخ، زاعمين ان معلوماتهم أكيدة . وفي رأيي يتحمّل علي حسن جزءا من المسؤولية في ذلك. فكلما التقيته في بيروت كان يبادرني بالقول: "لقد صنعت التاريخ في ميونيخ. وسيتذكرون ذلك في كل اولمبياد...". ولكنه كان يبادر امام الآخرين، وليس بوجودي طبعاً، انه هو "العقل المدبر" لعملية ميونيخ. وفي العاصمة اللبنانية الكثير من الآذان التي تتنصت، وبنوع خاص "الموساد" أو العملاء الاميركيين... ولكي اختم الحديث عن عملية الخطف "المدبّرة" التي ادت الى تحرير الناجين الثلاثة من فدائيينا، علمت نهائياً من نظّمها وقبض بعدها المال الذي وعد به الالمان، فهو لم يكن سوى وديع حداد قائد العمليات الخاصة في الجبهة الشعبية. والحقيقة انه بعد فترة روى لي كل ما يتعلق بهذا الموضوع مسؤول بارز في تنظيمه هو ابو عصام الذي كان احد مساعدي حين كنت على رأس الميليشيات في الاردن. فازاء رفضنا التعاون معهم، قرر الالمان، وهم على عجلة من امرهم، ان يدقوا باب وديع. والواقع انهم كانوا يعرفون الرجل منذ شهر شباط عندما ابتز منهم فدية بقيمة خمسة ملايين دولار في عملية خطف، حقيقية هذه المرة، لإحدى طائراتهم فوق عدن، وذلك باسم منظمة مزعومة انشئت في المناسبة وتدعى "منظمة ضحايا العدوان الصهيوني". وأياً يكن الأمر، لم نكن في وارد اظهار استيائنا بعدما حرّر رجالنا، ولكن ان اهنئ وديع حداد، فهذا ما صعب عليّ. ففي تشرين الثاني أو كانون الاول من تلك السنة بالضبط اتاحت لي الظروف ان اتعرف إليه، إذ زرت في الواقع مركز الجبهة الشعبية في بيروت لاجراء محادثات سياسية مع جورج حبش، بصفتي عضوا في المجلس الثوري في فتح. وعندما علم انني هناك، اتى وديع حداد لمقابلتي. وعلى الفور حاول ان يعرب لي عن وده قائلاً: أنا فخور بان اضع يدي في يد الرجل الذي قام بعملية ميونيخ. فهل كان يأمل ان اشكره بدوري على مساهمته في تحرير فدائيينا؟ بادلته التحية بالتأكيد، احتراماً لمضيفيّ، ولكنني تظاهرت بأنني اجهل الخدمة التي قدمها الينا. واذكر أيضاً انه بالنسبة اليّ، بات كل ما يتعلق بميونيخ من ذكريات الماضي، ومسألة منتهية، وقد كنت منهمكاً في عمليات اخرى. خلال شهر تشرين الاول، اضطررت للعودة الى صوفيا في بلغاريا، كي استعيد المرسيدس التي تركتها هناك في شهر آب اغسطس مع الأسلحة الخاصة التي قدمنا بها طلبا الى شركة "كينتكس". فقد انتهت الاشغال لاعداد مخابئ خاصة في السيارة من أجل اخفائها. وتعلمت كيف اصل الى هذه المخابئ، ثم قدت السيارة وحمولتها الثمينة الى مرفأ بورغاس قرب فارنا على البحر الاسود. واخيرا في 13 تشرين الاول، شحنت المرسيدس على سفينة شحن بلغارية، اسمها "كريستو سميرنيفسكي" باتجاه لبنان. وفي اواخر الشهر قام عاطف بسيسو بما هو لازم لتسلمها في مرفأ بيروت. من كتاب "فلسطين: من القدس إلى ميونيخ". الحلقة الثامنة السبت المقبل.