وصف ابو داود في الحلقة الخامسة من مذكراته اللحظات الاخيرة التي سبقت تنفيذ العملية فتحدث عن وصول المجموعة الفدائية واسلوب استقبالها وتوزيعها على فندقين، بانتظار التعليمات النهائية التي اكدت على سلمية الهجوم. فالقصد من العملية هو أسر البعثة الرياضية الاسرائيلية وليس قتلها لأن الهدف مبادلتهم بالمعتقلين في السجون. ويروي بدقة كل الخطوات والتفاصيل التي سبقت الاقتحام من شراء بدلات رياضية الى توزيع المهمات الى تحديد كل الاحتمالات واسلوب الرد عليها واخيراً الى طريقة الخروج من المأزق في حال اصطدمت المفاوضات بحاجز الرفض الاسرائيلي. كانت الساعة قاربت الرابعة صباحاً. وجهي ملصقٌ الى الشباك، أميّز رجالنا بصعوبة في ظلال الليل، لكنني استدللت عليهم بصيحات الاميركيين الذين يتوجهون الى شققهم وهم يتابعون ثرثرتهم الصاخبة، ورأىت فدائيينا ينفصلون عنهم شيئاً فشيئاً، ويتّجهون بشكل مفاجئ نحو اليمين. قلت في نفسي: جيّد، بعد بضع دقائق يبدأون. أما انا فابتعدت بسرعة. عدت الى احدى الطرق الرئيسية المحيطة بالحديقة الاولمبية، اوقفت سيارة تكسي وبعد بضع دقائق كنت في فندق "متروبول". امام البواب الليلي، لعبت دور السكران بما ان الوقت كان متأخراً جداً. أردت ان اعطيه انطباعاً بأنني آتٍ من أحد الملاهي وبأنني شربت كثيراً. ونجحت على نحو جعله يسارع الى مرافقتي الى الطبقات العليا حيث غرفتي خوفاً عليّ ألاّ أجدها، فأدخل المفتاح بنفسه في القفل وفتح لي: - لقد وصلنا، "هرّ راجي"، هذه غرفتك. وقلت خالطاً الأمر: دعنا نرى... آه... غرفة... آه... رقم اربعة - صفر - ستة؟ اربعة - صفر - ستة، اجل "هرّ راجي"! تفضّل... أكملت المهزلة الى آخرها، وألقيت بنفسي على الفور مسترخياً على السرير. في تلك الساعة، الرابعة والنصف صباحاً، لا بد ان الفدائيين شرعوا في عمليتهم بالتأكيد، وانهم كسروا باب المدخل الرئيسي الزجاجي للمبنى 31 حيث يقيم الاسرائيليون، في حال كان مقفلاً بالمفتاح. لم تكن تقلقني القرقعة التي سُمِعت على الارجح في كل ارجاء المبنى. فأنا أعلم ان رجالنا، وفي أقل من دقيقة، سيصلون الى باب الشقة مباشرة الى يسار القاعة، ويكسرونه ايضاً ويدخلون. ولكن كيف حدثت الأمور بعد هذا؟ في غرفتي، لم اتمكن من النوم، كنت من وقت الى آخر ادير الراديو الذي قرب سريري، احاول الاستماع اذا كان هناك من نشرات اخبار. التقطت محطات عدة باللغة الانكليزية - هناك العديد منها موجهة الى العسكريين الاميركيين المتمركزين في المانيا الاتحادية. ولكن لم يكن هناك سوى الموسيقى. قضيت هكذا ساعة، ثم ساعتين. وفي اخبار الساعة السابعة، لم يكن هناك من اخبار عن عمليتنا بعد. هل يمكن ان يكون فدائيونا قد فشلوا؟ كنت قد اتفقت مع تشي ومحمد مصالحة على انني في جميع الحالات، سأذهب باكراً في الصباح، بين الساعة الثامنة والتاسعة، الى المحطة مع جوازات سفر الجميع، حتى اذا فشلت العملية وتمكنوا من الخروج من القرية الاولمبية، ينتظرونني هناك، فأحاول عندها اخراجهم من البلاد. الا انه في اخبار الساعة الثامنة، ورد الخبر: خمسة رجال مسلحين - من الفلسطينيين، كما حدّد الخبر - اقتحموا قبل الفجر بقليل شقق البعثة الاولمبية الاسرائيلية. وقد قتل اسرائيلي واحتجز ثلاثة عشر آخرون. وقد هدد الفدائيون، في بلاغ الى السلطات الالمانية، بقتل الرهائن اذا لم يفرج عن عدد من المعتقلين الفلسطينيين في اسرائيل وعن اشخاص آخرين. قلت في نفسي: لقد قضي الأمر، عملية "برعم وعكرت" قد انطلقت. إلاّ انني لم أعد اطيق البقاء في مكاني بعد سماعي مقتطفات الاخبار هذه، وقد اثارت حيرتي ثلاثة عناصر فيها. اولاً، بدا لي عدد الاسرائيليين المحتجزين قليلاً: ثلاثة عشر وهو اقل من نصف ما كنت اتوقعه ثم هناك الرجل الذي قتل: لماذا؟ وفي أي ظروف؟ اخيراً، جرى الكلام عن مجموعة من خمسة فلسطينيين، وليس ثمانية. هل اخطأت الشرطة الالمانية في تقديراتها؟ ام وجد ثلاثة من رجالنا انفسهم، في حمى المعركة، مفصولين عن بقية الفدائيين؟ أخذت دشاً، حلقت ذقني، وأسرعت الى المحطة. لعلّ الرفاق الثلاثة المعنيين بالأمر ينتظرونني هناك. إلاّ انني لم أرَ أحداً في المحطّة. وفكّرت قائلاً: جيّد، لا بد ان يكون الرجال معاً في الواقع، والشرطة تجهل قوّة مجموعتنا الحقيقية. كانت الساعة عندها قد تخطت التاسعة. لم أكن اشكّ في ان الفدائيين قد اعطوا المهلة الاضافية المتّفق عليها حتى الظهر بعد انتهاء المهلة المحدّدة في انذارنا. ولكن كيف لي أن أتتبّع الاخبار حيث كنت؟ أسرعت اذاً الى اقرب متجر وإشتريت راديو ترانزيستور صغيراً. عند أخبار الساعة العاشرة، استمعت الى ال "بي بي سي". يبدو ان الامور كانت تحدث وفق السيناريو الذي تخيّلناه. فقد مدّدت المهلة المحدّدة الى الظهر. وقامت بعثة مؤلفّة من وزراء بافاريين ومصري من اعضاء اللجنة الاولمبية، كما أُوْضِحَ، بالمثول امام المبنى حيث تحصّن رجالنا مع أسراهم والتقوا أحد مسؤولي الفدائيين. وكان الاخير على إتصال دائم مع السلطات الالمانية عبر شرطية مترجمة تتولى الحراسة عند اسفل المبنى. إلاّ ان عدد الاسرى الاسرائيليين لم يكن سوى عشرة - وليس ثلاثة عشر كما أذيع في السابق. اذ تمكّن اثنان منهم من الفرار. من جهة أخرى، تأكّدت وفاة أحد الاسرائيليين. وأعطت الاذاعات اسمه عند الحادية عشرة: موشيه واينبرغ، مدرّب فريق المصارعة. لكنها لم تذكر اي شيء عن الظروف التي قتل فيها. امّا أنا فكنت مقتنعاً تماماً بأنه لم يُقتل عمداً من دون سبب. فهو من هؤلاء الرياضيين الذين، حتى مجرّدين من السلاح، يستطيعون عرقلة الفدائيين. وبحسب رأيي، لم يتمّ قتله إلاّ لأنه حاول القيام بشيء ما عرّض رجالنا للخطر الشديد. وقد ازداد اقتناعي هذا مع اقتراب انتهاء فترة قبل الظهر. كنت لا ازال في شارع المحطة. جالساً إلى طاولة في أحد المقاهي حيث يوجد تلفزيون، وشاهدت مثل بعض الآخرين ما كانت تبثّه عن كلّ هذه الاحداث المحطات الالمانية. كانت تبثّ وتكرّر صور المبنى 31 ومحيطه. هكذا رأينا رياضيين مزيّفين ممدّدين على سطوح المباني المجاورة أو منتقلين من شرفة الى أخرى، ببذلات التدريب يحملون بنادق بنظّارات مقرّبة: إنهم قنّاصة الشرطة الالمانية. كذلك تبث صوراً مؤثّرة تظهر محمد مصالحة - عرفته من قبّعة الشاطئ وبذلته من نوع السافاري - وهو يتكّلم مع الشرطية المترجمة امام مدخل المبنى 31 الرئيسي. لاحظت في هذا الشأن ان رجالنا لم يحتاجوا إلى كسر باب المدخل الزجاجي بغية دخول القاعة. لأنه لم يقفل بالمفتاح في الليلة السابقة. أخيراً اجرى بعض الصحافيين مقابلات مع شهود على الاحداث قبل سبع أو ثماني ساعات - هذا على الاقلّ ما أوضحه لي أحدهم كان حول الطاولة المجاورة، بعدما سألته، لأن كلّ هؤلاء الشهود كانوا يتكلمون الالمانية، ولا افهم ما يقولونه. عند هذا، أُجري حديث مع أحد الاسرائيليين الذين تمكنوا من الفرار من فدائيينا. وكان يمنيّ الأصل - استنتجت هذا من لهجته - وأجاب عن الاسئلة بالأنكليزية مما سمح لي بفهم تصريحاته. وأكدّ حديثه ما كنت أفكّر فيه: لحظة نجاحه في الهرب من بين مجموعة من الاسرى - كلهّم من رافعي الاثقال أو المصارعين - أثناء قيام رجالنا بنقلهم الى الشقة عند زاوية المبنى، كان موشيه واينبرغ بينهم. ولم يصب الا في خدّه. بحسب شهادة هذا الاسرائيلي، تأكدت أنّه لا بدّ أن يكون حصل بعد ذلك حادث خطير بشكل كافٍ ليجبر فدائيينا على قتل ذلك الاسير. في هذا الوقت، انتهت مدّة المهلة الثانية، المحدّدة ظهراً. كان التلفزيون، قبل قليل، عرض صوراً لبعثة جديدة حضرت الى اسفل المبنى الذي يحتلّه رجالنا. وأخذت بالإستماع الى الراديو، من اجل مزيدٍ من التفاصيل. تقول التقارير ان محمد الخطيب، وهو مصري مدير مكتب الجامعة العربية في بونّ، يرافق البعثة هذه المرّة. وقد نقل عرضاً إلى الفدائيين "بفدية غير محدودة" وبمبادلة الرهائن بشخصيات المانية رفيعة المستوى تأتي لتحلّ محلّهم. لم أتفاجأ حين علمت ان رجالنا رفضوا هذا العرض. وأُشيرَ أيضاً الى انّ مجلس الوزراء الاسرائيلي عقد اجتماعاً في الصباح، ولكن السيدة غولدا مئير، في خطاب ألقته بعدها بقليل أمام الكنيست، لم تأتِ على اي ذكر لإطلاق محتمل للمعتقلين، كما طلب الفدائيون. الوضع كان متأزماً إذن. ومع هذا اعطى رجالنا مهلة اخيرة لساعة بادئ الامر، ثم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. قرّرت عند هذا الذهاب الى الحديقة الاولمبية. اخذت المترو وفوجئت لرؤيتي محطة اولمبيا زنتروم الضخمة تضيق بعشرات الوف الزوّار. كانت الالعاب مستمرّة كأن شيئاً لم يكن. وقد أقيمت مباراة بالكرة الطائرة صباحاً بين المانيا الاتحادية واليابان، في مكان لا يكاد يبعد 200 متر عن كونوليشتراسيّه، وكانت الصالة تغصّ بالناس! امّا بعد الظهر فكانت ضمن البرنامج لقاءات بكرة اليد، ثم في الساعة الخامسة في المدرج الكبير الذي يسع ثمانين ألف مقعد، تقام مباراة في كرة القدم بين المانيا الغربية والمجر، وهي مباراة من الدور نصف النهائي للدورة الاولمبية. في المقابل، كانت القرية الاولمبية ومحيطها تحت الحصار. وفي اقرب نقطة من المدخل الغربي، حيث في الليل الفائت أدخلت الفدائيين في عداد مجموعة من الرياضيين الاميركيين، كان الصحافيون يتسلقّون اي شيء، بعض الكراسي المختلسة أو الصناديق، بغية تسليط عدساتهم على مؤخّر المبنى 31. وتجمّعت ايضاً جمهرة من المتسكعين على ربوة يمكن منها رؤية مبنى البعثة الاسرائىلية. فأندسست بين هؤلاء. كثيرون كانوا يسمعون الاخبار مثلي على الترانزيستور. وفوق رؤوسنا، لم تكن الطوافات تكفّ عن الدوران. لكن الجوّ كان بعيداً عن التوتر. بالطبع تردّدت بقوّة إحدى الشائعات التي، بحسبها، وقعت ضحية ثانية بين الاسرائيليين الاسرى، وأنه لم يبق منهم سوى تسعة. إلاّ أن الخبر لم يؤكد في نشرات أخبار الساعة الثالثة بعد الظهر، بل على العكس أعلنت الاذاعات ان طعاماً أوصل الى الرهائن وأن المهلة النهائية التي حدّدها فدائيونا قد مُدِّدت الى الساعة الخامسة بعد الظهر. من ناحية اخرى تمكّنت من التقاط اذاعة القاهرة. وكانت نشرات أخبارها مليئة بالاعجاب "بمأثرة فدائيي أيلول الاسود". ولاحظت في هذا الخصوص ان أياً من المحطات التي استمعت اليها منذ الصباح لم تأتِ على ذكر اي كلمة من بلاغ منظمّتنا الذي سبق أن وُزِّعَ نهاراً على وكالات الانباء في العواصم العربية والذي يوضح اسباب عمليتنا في ميونيخ. في موقعي حيث كنت، قلت في نفسي: هناك إنطباع بأن تسويةً قد تحصل بين السلطات الالمانية والفدائيين - على رغم اننا نسمع على الراديو انه، "بحسب المصادر الموثوقة"، رفضت الحكومة الاسرائيلية رفضاً قاطعاً الموافقة على ايّ اطلاق للمعتقلين. إلاّ أن هذا الانطباع انعكس فجأة منتصف بعد الظهر، إذ تأكد بادئ الأمر سقوط ضحية ثانية من بين الاسرائيليين المحتجزين في المبنى 31. وقد اعطي اسم الضحية: جوزف رومانو، رافع أثقال. عند سماعي الخبر، كنت متأكداً انه هو أيضاً قتل في الظروف نفسها مثل مدرب المصارعة موشيه واينبرغ، اي بمعنى آخر، انه لم يقتل عمداً من دون سبب. الا ان المصادر التي ذكرها المراسلون الصحافيون لم تعط اي توضيح لظروف مقتله الحقيقية، تحسباً منها على ما يبدو كما لو انه يجب تحضير النفوس لفكرة عدم بقاء اي حل آخر سوى الهجوم؟ يبقى اننا كنا نقترب ايضاً من موعد انتهاء المهلة الاخيرة التي حددها رجالنا. هكذا، رأيت عند الساعة الرابعة والنصف المصفحات المزودة الرشاشات تدخل القرية. وبعد نحو 15 دقيقة، حصلت تحركات سريعة جامحة لرجال شرطة يلبسون سترات واقية من الرصاص حول المبنى 31. كانت تأتي ايضا مروحيات تلامس اعالي المباني المجاورة. وبين المتسكعين من حولي، هذا المتمسك بمنظاره وذاك بالترانزيستور. راجت الفكرة، باننا هذه المرة لم نعد سوى على بعد بضع دقائق، لا بل بضع ثوان من خاتمة مأسوية... لكن لا، اذ تخطى الوقت حدود الخامسة ولم تسمع اي طلقة. واعلنت النشرات الاذاعية ان وزير داخلية المانيا الغربية هانس ديتريش غينشر كان يتفاوض مع الفدائيين، حتى انه تمكن من التحادث مع أحد الرهائن. بعد قليل علمنا انه رأى الرهائن التسعة كلهم. في الخامسة والنصف خفت حدة اجراءات الشرطة، واخذ بعض المروحيات يحط بالقرب من القرية. وبعد نصف ساعة، بدأوا للمرة الاولى بذكر التحضيرات لرحيل الفدائيين مع رهائنهم على متن طائرة من شركة لوفتهانزا. بالنسبة الي، كان واضحا بعد ذلك ان رجالنا ربحوا مواجهتهم. لم يكن مهماً ان الحكومة الاسرائيلية لم تتخذ بعد اي تعهد بتلبية طلباتنا. المهم بالنسبة الى الفدائيين رحيلهم من المانيا مع اسراهم. في هذا الوقت، اعلن عن تأجيل مباراة المانيا الاتحادية والمجر بكرة القدم الى الغد. ومع افول بعد الظهر، ومن الربوة حيث كنت اقف، استطعت رؤية عشرات الوف المتفرجين يغادرون ال"اولمبيا - ستاديون". كان مشهد تدفق هذه الجماهير مؤثّراً وهي تتوجه بصمت كبير نحو محطة المترو. في القرية الاولمبية ايضاً، انخفض التوتر. فقررت عندها الانضمام الى الجمهرة المتجهة نحو مخرج الحديقة والعودة الى المدينة. في الواقع، كان يجب ان احجز لي مكانا على احدى رحلات اليوم التالي الى تونس عبر روما، قبل ان تقفل مكاتب شركات الطيران. "يقترب نادلان يلبسان سترتين بيضاوين من المبنى 31 وهما يحملان طبقين كبيرين مليئين بالطعام. فتحت نافذة في الطبقة الاولى. ينحني فدائي مغطى الرأس ويشير اليهما بأن يتوقفا في مكانهما، وهما على بعد عشرة امتار من مدخل المبنى. ويشير الفدائي بطقطقة اصابعه الى النادل الاقرب بالتقدم. يفهم النادل، يتقدم من الدرجات، يتسلقها ويدخل القاعة. يظهر عندها فدائي آخر ويأخذ الطبق من يديه. يخرج النادل الاول. ويأتي دور الثاني ليدخل ويسلم طبقه.... كنت اسمع على الترانزيستور اخبار التاسعة مساء: لقد قدم الطعام مجددا، بعد الثامنة بقليل، الى المحتجزين مع رجالنا. شخصيا كنت تناولت ايضا وجبة سريعة في مطعم غير بعيد عن فندقي المعتاد "الادن والف"، الذي رجعت اليه في اول المساء. لم يطرح علي احد عند الاستقبال اي سؤال عن سبب عدم عودتي لأنام الليلة الماضية. لعلهم ببساطة لم ينتبهوا الى الأمر، او ربما نسوه بسبب كل تلك الاحداث... مهما يكن من امر، طلبت من البواب، فور عودتي، تحضير الحساب لأنني انوي الرحيل في الصباح الباكر الى ايطاليا، ثم ذهبت في الحال لتناول العشاء. توقفت عند اول مطعم فيه تلفزيون. تمكنت هكذا من رؤية المستشار فيلي برانت يوجه خطاباً مباشراً الى الأمة. لكنني لم افهم شيئاً من خطبته، لأنه بالطبع كان يتكلم بالالمانية. عجلت في العودة الى الفندق كي استمع الى الاذاعات الناطقة الانكليزية في غرفتي. "ميونيخ في حالة حصار"، هذا ما سمعته على جهاز الترانزيستور بعدما تركت المطعم بقليل. لكنني تأملت جيداً حولي، اثناء عودتي الى "الادن والف"، من دون ان أرى اي شيء من هذا القبيل. ففكرت قائلاً: يا لهذه الاذاعات! لا تعلم ماذا تخترع كي تخلق شعوراً بالغم! في الفندق، وفي بهو صغير قرب مكتب الاستقبال، كان بعض الزبائن يشاهدون التلفزيون. فبقيت برفقتهم بعض الوقت قبل ان اعود الى غرفتي. بحسب ما كانت تعرضه المحطات الالمانية، كانت التحضيرات من اجل رحيل رجالنا مع رهائنهم تسير على قدم وساق. المخططات تظهر المروحيات التي ستنقلهم الى المطار، والباص الذي سيقلهم اولا الى المروحيات. وبعض الكاميرات مسلطة على مدخل المبنى 31 وواجهته التي تنيرها اضواء الشرطة الكاشفة. وفي احدى اللحظات، رأينا حتى الرهائن التسع يظهرون على احدى النوافذ، ثم يتقدمون الى احدى الشرفات. كانت ايديهم موثقة خلف ظهورهم، لكنهم يلبسون بذلات مدنية. وكلهم يرتدون سترات. عندما رأيت كل هذه الصور، لم اكن اتخيل ابداً ان السلطات كانت تتظاهر بلعب ورقة الاقلاع الى مصر - او اي بلد آخر يحدده الفدائيون عند وصولهم الى المطار - بغية تحضير افضل للفخ الذي كانت تنصبه لرجالنا. بالطبع، لم يزل شعوري بالحذر، لكن عندما سيرى رجال الشرطة الاسرى يخرجون من المبنى وهم مقيدون الواحد الى الآخر - كما تكلمنا مساء امس في ما بيننا - ورفاقنا الثمانية - وليس الخمسة كما كان يعتقد الالمان في تلك الساعة - ملتصقين بهم، مشكلين هكذا مجموعة متراصة، لم اكن اشك للحظة في انهم سيستنتجون انه بات من المستحيل الايقاع بهم الا اذا كانوا يريدون قتل الجميع، وهذا ليس له معنى! صعدت إذاً الى غرفتي وعدت الى الاستماع الى محطات الاذاعة. لم تكن الساعة قد تجاوزت العاشرة مساءً بعد، ومع هذا لم أعد استطيع مقاومة اغماض عيني. في الحقيقة اخذ النعاس يدبّ فيَّ شيئاً فشيئاً. غسلت وجهي بالماء في محاولة للبقاء مستيقظاً، ولو لبضع دقائق اكثر، ولكن عبثاً. فالتوتّر من جرّاء الانتظار طوال النهار، وكلّ تلك الساعات التي قضيتها استمع الى الاخبار، وعدم نومي في الليلة السابقة، وتنقّلاتي العديدة بين مختلف الاماكن في اليوم السابق - كلّ هذا التعب المتراكم بدأ يوثّر فيّ. تركت الترانزيستور مفتوحاً وسمعت هكذا نشرة الساعة العاشرة تقول أن الفدائيين وأسراهم صعدوا في الباص، لكنني لم اسمع الملحق بعد نصف ساعة ينبئ بمغادرتهم القرية الاولمبية على متن مروحيتين. ولا ملحقات الساعة الحادية عشرة وما بعدها، التي ذكرت اولى الاشتباكات النارية في مطار فورشتنفلد بروك العسكري، على مسافة 25 كيلو متراً من ميونيخ، حيث كان من المفترض ان يقلع رجالنا وأسراهم على متن طائرة لوفتهانزا بإتجاه القاهرة. كنت نائماً... كانت الساعة الخامسة أو السادسة صباحاً عندما استيقظت مذعوراً. لا أذكر إذا كنت استمع الى اذاعة اميركية في المانيا ام الى ال "بي بي سي." لكنهم كانوا يتكلمون، يتكلمون... والكلام مرعبٌ: كلّ الرهائن قتلوا، كذلك خمسة من رجالنا الثمانية، إضافةً الى شرطي وقائد مروحية المانيين! وهذه مخالفةً للاتفاق الذي تمّ التوصل اليه قبل بضع ساعات وتداولته كلّ الاذاعات. فقد كان هناك فخٌ منصوب في مطار فورشتنفلد بروك. وقد اذاعوا التفاصيل: ما إن هبطت المروحيتان حتى بدأ اطلاق النار. في النهاية إستمرّت المعركة ثلاث ساعات. ليس هناك أدنى شك حول من كان المبادر الى فتح النار: قناصة الجيش الالماني. كما اعترف الدكتور برونو ميرك وزير داخلية مقاطعة بافاريا، من دون مواربة، عندما استصرحه الصحافيون في الصباح الباكر. وذكّى كلامه نظيره في الحكومة الاتحادية هانز ديتريش غينشر قائلاً: "لم يكن امامنا خيار آخر". في النهاية، ولسوء حظّ الرهائن التسعة الاسرائيليين ورفاقنا الخمسة، أذعنت السلطات الالمانية لأوامر السيدة غولدا مئير... لكنّه لم يعد لديّ وقت للإستماع الى المزيد. عليّ مغادرة الفندق في اسرع ما يمكن. كنت اجهل هوّية الناجين الثلاثة من فدائيينا الذين أصيبوا بجروح وأوقفوا، فإذا كان بينهم تشي ومحمد مصالحة ونجحت الشرطة الالمانية في إجبارهم على الكلام، بعد تعذيبهم بشتّى الطرق، فقد كنت أخشى ان يأتوا للقبض عليّ في كل لحظة في "الإدن والف". بعد ساعة، كنت في مطار "ميونيخ - رايم"، لكنني كنت خائفاً. إذ أحمل في حقيبتي جوازات سفر الفدائيين الثمانية وأخشى ان يتم تفتيشي بحسب الاصول. فهناك الكثير من رجال الشرطة في المطار، وتخيّلت كل الاحتمالات: لربّما مرّ محقّقون على الفندق وعلموا بمجيئي الى المطار. كنت أخشى فوق كلّ شيء لحظة التدقيق في جواز سفري قبل دخولي صالة المسافرين. في الواقع كان على جواز سفري الاسم الذي نزلت به في "الإدن والف" في الغرفة 330: سعد الدين والي. لكن لا، لم تحدث اي عرقلة عندما وصلت اللحظة المقدَّرة. ومثل مرّات عديدة في الشهر الفائت، لم يلاحظ أحد أنني مدّدت بنفسي مهلة انتهاء صلاحية تأشيرتي. إلاّ انني عندما تخطيت هذا العائق، وكنت أنتظر في غرفة المسافرين مناداة الراحلين الى روما، لم أحاول حتى الاستماع الى أي أخبار اخرى على الترانزيستور الصغير، كي لا ألفت الانتباه. ما هو شعوري أخيراً عندما صعدت الى الطائرة؟ كنت حانقاً لخبث الالمان. كانوا قد اعطوا كلمتهم ثم نكثوا بها. تلك المجزرة على مطار فورشتنفلد بروك، ليست ما كنا نريد. والبرهان الوافي على ذلك موقف رجالنا الذين كانوا دائماً يؤجلون موعد انتهاء المهلة التحذيرية الى وقتٍ لاحق بهدف المحافظة على حياة رهائنهم الى أبعد حدٍ ممكن. كنت فعلاً متألماً للقتلى من الطرفين: للإسرائيليين التسعة كما لرفاقنا الذين قاتلوا حتى النهاية. وفي قرارة نفسي، كنت أحيّي أيضاً شجاعة الاسرائيليين الأخرَيْن اللذين قتلا لمقاومتهما اليائسة لرجالنا في صباح 5 أيلول سبتمبر بعد إقتحام شقق الفريق الاسرائيلي بقليل. لكنني في الوقت نفسه، كنت أشعر بالأعتزاز. فحتى الآن، وعلى رغم بسالة الفدائيين وروح التضحية عندهم - وهذا ما أظهرته معركة الكرامة، ولكن من كان يتذكّرها؟ - لم يكن يعترف أحد للفلسطينيين بشجاعتهم في القتال. في شهر أيار مايو، لم يؤخَذ رجال علي حسن سلامه على محمل الجدّ بعد قضية "السابينا" عندما "تلاعب" بهم دايان. وأيضاً في اللّد، وفي الشهر نفسه أيار، لجأ رجال وديع حدّاد الى الحيلة، مثل دايان، إذ استخدموا يابانيين. وقد وُصفوا بالجبناء. امّا في ميونيخ فقد كان فدائيونا صلبين. في ذلك الصباح 6 أيلول كنت لا ازال أجهل في الحقيقة، إن كان رجالنا، أم الالمان، هم الذين قتلوا الرهائن الاسرائيليين على مدرج مطار فورشتنفلد بروك، لكنني كنت معتزاً لتحقّقي من ان الحكومة الالمانية لم تنجح في قتل الفدائيين من دون ان تتسبب في مقتل الرياضيين الاسرائيليين. لربّما اعتقدوا انه يكفي ان يقتلوا بعض العرب كي يستسلم الباقون من دون قتال. حساب خاطئ! نسي الالمان بكلّ بساطة عنصراً أساسياً، هو اننا تعلّمنا الدرس من خصومنا، فهم منتصرون أينما كان منذ سنوات عديدة. الاسرائيليون شجعان، يعرفون كيف يموتون، وكيف يقتلون أيضاً، ولكنهم فوق كل شيء لا يتراجعون. فلماذا نتراجع نحن إذن؟ * من كتاب "فلسطين: من القدس الى ميونيخ". ** الحلقة السابعة الخميس المقبل.