جاء تعيين الفرنسي برنار كوشنير رئيساً للإدارة المدنية في اقليم كوسوفو، يحمل معه أمرين مهمين، أولهما انتصاره على منافسين أقوياء له في تبوء المنصب، منهم الرئيس الفلندي مارتي اهتيساري الذي أظهر كفاءة في اخماد لهيب حرب البلقان الأخيرة، وزعيم الحزب الديموقراطي الليبرالي البريطاني بادي اشداون صاحب الخبرتين العسكرية والسياسية. ويبدو أن الحظ حالف كوشنير 59 سنة أكثر من المؤهلات الذاتية للمنصب، التي تنحصر في ولوجه "المجالات الإنسانية" التي منها تأسيس منظمة طوعية فرنسية عام 1971 بإسم "أطباء بلا حدود" التي ابتعد عنها عام 1980 ليؤسس منظمة "أطباء العالم" التي قادها لمدة ثماني سنوات، وهو متزروج من صحافية فرنسية لامعة هي كريستين لوكران. وعرف عن كوشنير، أنه يملك صلابة الرأي في التدخل بما يعتبره شخصياً حقاً له، وبرز أثناء المشاكل الإنسانية في أميركا الوسطى وشمال العراق ولبنان وتشاد وأريتريا وفيتنام وكمبوديا والبوسنة وأفغانستان والصومال ويوغوسلافيا، حيث حظي باهتمام كبير، تناسب مع تهافته للظهور أمام عدسات وكاميرات التصوير وكتابات الصحف، ما جعل الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي يطلق عليه "صاروخ من دون سيطرة". واللافت أن هذا الطبيب اليهودي، الذي بدأ مشواره السياسي في الحزب الراديكالي اليساري، استطاع أن يحظى بدعم الرئيس اليميني جاك شيراك ورئيس الحكومة الاشتراكي ليونيل جوسبان اللذين عرضا اسمه على الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان أثناء زيارته فرنسا في حزيران يونيو الماضي. دخل كوشنير المسرح الحكومي لأول مرة عام 1988 في حكومة ميشال روكار الاشتراكية وزير دولة للشؤون الاجتماعية ومن ثم وزير دولة للأعمال الإنسانية، وخرج من الحكومة ليعود اليها في 1997 في حكومة جوسبان الحالية وزيراً للصحة. ويجمع المراقبون في منطقة البلقان على أن كوشنير سيواجه مشاكل صعبة في تحقيق الأهداف الآنية التي أعلن عنها لتحقيق "السلام والمصالحة" بين السكان، وحسب مصادر مطلعة في بريشتينا فإن أولى العقبات التي سيصطدم بها تتمثل في "كبح جماح نزعة الانتقام التي لا يريد الألبان التخلي عنها". وظهر هذا الانتقام يوم الجمعة 2 تموز - يوليو الجاري بعدما وقع المسؤول السياسي لجيش تحرير كوسوفو هاشم تاتشي مع قادة الصرب في الاقليم بإشراف المسؤولين الدوليين المدنيين والعسكريين اتفاقا ثم، قاد تظاهرة احتفالية في بريشتينا بمناسبة الذكرى التاسعة "لاستقلال جمهورية كوسوفو" الذي أعلنه الألبان من جانب واحد، ووصفها المراقبون بأنها "أعنف ما شهدته بريشتينا بعد انسحاب القوات الصربية منها". وأسفرت التظاهرة عن تحطيم التماثيل واحراق المنازل ومهاجمة مباني البنوك والدوائر الحكومية الصربية السابقة ما أدى الى مقتل شخصين البانيين مسلحين وجرح اثنين آخرين على يد الجنود البريطانيين أعلن جيش تحرير كوسوفو أنهم من مقاتليه. وحسب قائد قوات حفظ السلام في كوسوفو الجنرال مايكل جاكسون فإن قوات الحلف الأطلسي عاجزة عن فرض سيطرتها الأمنية على الإقليم "لأن عددها لا يتناسب مع المسؤولية الملقاة على عاتقها". ومعلوم أن الدول الخمس الرئيسية في الحلف، الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا، كانت عرضت تقديم 43 ألفاً و500 جندي، إلا أن ما وصل منها لا يتجاوز نصف العدد الموعود به، في حين أن الأممالمتحدة لم تستطع توفير سوى 1600 شرطي لقوة الشرطة الدولية التي أرادت أن يكون قوامها ثلاثة آلاف فرد. وبحسب الأممالمتحدة، التي عينت كوشنير، فإن "من غير المحتمل أن يكون هذا العدد قادراً على المحافظة على النظام، إذا كانت القوات الدولية في المنطقة الآن، التي يبلغ عدد أفرادها 24 ألف جندي، عاجزة عن أن تفعل هذا". ويواجه كوشنير، الذي ينبغي أن يشكل ادارة مدنية، وجود ثلاث حكومات في الإقليم، اثنتين البانيتين، واحدة برئاسة بونار بوكوشي ويدعمها الزعيم المعتدل ابراهيم روغوفا ودول أوروبية، والثانية برئاسة هاشم تاتشي المعتمدة على جيش تحرير كوسوفو والإدارة الأميركية، والحكومة الثالثة شكلها الصرب برئاسة زوران انجيلكوفيتش وتضم ممثلين لمختلف أعراق الإقليم. وفي مجال الانقسامات العرقية، سيجد وضعاً يتسم بنزوح جماعات الأقلية الى أماكن الأكثرية من عرقها. فقد تكونت قرى متجاورة من قومية واحدة، كما هي حال انقسام مدن مثل بريشتينا العاصمة وميتروفيتسا في شمال غرب الإقليم، وتجمعات سكانية في منطقة أورشيفاتس في جنوب وسط الإقليم،. وهو ما وصفته صحيفة "فاكتي" الألبانية الصادرة في مقدونيا بأنه "تكوين مدن الصرب والغجر في مقابل مدن الألبان". وستكون مسألة العملة المتداولة في الاقليم مشكلة ينبغي أن يجد كوشنير مخرجاً لها، إذ يرفض الألبان التعامل ب"دينارا" اليوغوسلافية، اضافة الى أنه عملياً ليس ممكناً ربط كوسوفو التي تدار دولياً بعملة الاقتصاد اليوغوسلافي الذي يعاني من مصاعب خانقة، وهو ما أفرز احتمالات سك عملة خاصة، أو أن يتم التعامل مؤقتاً في الاقليم بالمارك الألماني أو اليورو الأوروبي، لكن ذلك سيثير تساؤلات حول السيادة في اقليم كوسوفو الذي لا يزال من ناحية الشرعية الدولية جزءاً من يوغوسلافيا. وقد أكد كوشنير ان "توفير حياة آمنة ومريحة للاجئين العائدين الى ديارهم ستكون في صدارة أولوياته" إلا أن الأممالمتحدة أوضحت أن ما لديها من أموال للمجالات الإنسانية تفرض العيش على الرمق وأن الدول "تحجم عن المساعدة الكافية بالأموال". وتبقى قضية التنسيق المطلوب مع حكومة بلغراد فيما قيادتها مدعوة للمثول أمام محكمة جرائم الحرب في لاهاي. فهل ستغض المحكمة ودول غربية الطرف عن اتصالات مسؤول كوسوفو مع مرتكبي المجازر في الاقليم رغم ما في ذلك من تجاوز على العدالة؟ كما أن بلغراد نفسها أبدت عدم ارتياحها لتعيين كوشنير، الذي وصفته بأنه "مؤيد خطير لعدوان الحلف الأطلسي على يوغوسلافيا". وبعد كل هذا يظل السؤال الى أن يأتي الحواب: "هل يستطيع طبيب فرنسي تضميد جروح الألبان والصرب في كوسوفو".