يردد الناس منذ أمد طويل الحديث عن الاخطار التي تتهدد الحضارة الانسانية. فمن قائل إنها تتمثل في العولمة التي ستضحي بثمانين في المئة من أفراد الشعوب لمصلحة عشرين في المئة من كبار رجال المال والاعمال والاذكياء واسعي الحيلة، ومن قائل إنها تتمثل في تلوث البيئة، أو في الانفجار السكاني وعجز الموارد عن توفير القوت للأفواه المتزايدة، أو في هيمنة الولاياتالمتحدة وحلف الاطلسي على مقدّرات العالم هيمنة تفرض على سائر الدول الانصياع والطاعة والرضوخ لمتطلبات مصلحتها الذاتية. وعندي أن الخطر الأكبر الذي يواجه حضارتنا لن يكون من خارجنا، وإنما هو من داخل أنفسنا، وهو خطر يتهدد عقولنا اكثر مما يهدد تلوث البيئة صحتنا، أو الحروب أرواحنا، أو المجاعات بطوننا فقد انتجت حضارتنا الحديثة سموماً عدة، أبشعها هو ما قد يبدو للوهلة الاولى أنه خال من الضرر، ولا يدعو الى القلق، ألا وهو التكالب على الملذات، والإصرار على اجتناء المتع، مع تشوه المفهوم عن الاوقات السعيدة. وما من اعتراض عندي على اجتناء الملذات والمتع وقضاء الاوقات السعيدة، فهما من حق البشرية ومن حق كل إنسان وإنما اعتراضي هو على المفهوم الزائف الخاطئ الذي بات سائداً الآن عن طبيعة الأنشطة التي تؤدي الى تحقيقها، وهو مفهوم يجعلني أفضل الف مرة أن أقضي ثماني ساعات في العمل يومياً بوظيفة حكومية، أو في متجر أو مكتب للمحاماة، أو أن أملأ فراغ عمود يومي في جريدة، على أن أخوض غمار تلك المتع والملذات بمفهومها الجديد. وإنما تكمن بشاعة هذه الفكرة الخاطئة عن حقيقة الملذات في أن كل لهو منظم او تسلية سلبية، يتحول تدريجاً الى صنف من صنوف البلاهة والغباء، فقد كان الناس في الماضي في أوقات فراغهم يقبلون على ضروب من اللهو والتسلية تتطلب منهم بذل قدر معين من الجهد الذهني، ومن المشاركة الايجابية. لن أشير الى أبي حنيفة إذ يقول لأصحابه: "لو علم الملوك بما نجده من لذة في طلب العلم لقاتلونا عليه بالسيوف". كما لن أشير الى كيف كان هارون الرشيد يجد في حواراته مع اسحاق الموصلي ومجادلاته مع الأصمعي متعة اكبر بكثير مما يجده وهو في احضان جواريه. غير اني لا بد ذاكر انه ما من عائلة موسرة اومتوسطة الحال في زمن صباي إلا كان في بيتها آلة أو اكثر من الآلات الموسيقية كالبيانو او العود، تعزف الأم أو ابنتها عليها عزفاً هو غالباً ما يكون مصاحباً بالغناء إما لتسلية ضيف، او اصطياد زوج، او لمجرد متعة شخصية وقضاء وقت الفراغ. فلما انتشر في بيوتنا ذلك الاختراع الشيطاني لاديسون، وأعني الفونوغراف والاسطوانات، وذلك الاختراع الشيطاني الآخر لماركوني، وهو الراديو، يذيعان أجمل الموسيقى والاغاني لأشهر العازفين والمطربين، حتى أحست امهاتنا واخواتنا بأنهن عاجزات عن المنافسة، فهجر آلاتهن الموسيقية الى وجوه اخرى من وجوه التسلية وقضاء وقت الفراغ. وما كان الأمر مقصوراً وقتها على الطبقات الغنية والمتوسطة. فعند الفلاحين والفلاحات في اجتماعاتهم مساء للسمر بعد يوم حافل بالعمل، كانت لعبة التحطيب التي هي مزيج رائع من الرياضة والتمثيل ودقة الاداء وجمال الحركة وفنية الحبكة. فإن خلت النسوة الى أنفسهن فسرعان ما تتكون منهن حلقة تتوسطها شابة رشيقة ترقص باسمة الثغر، والحاضرات يصفقن لادائها ويتمايلن ويزغردن، او هن يغنين جماعة، من طاب صوتها ومن لم يطب، او ينخرطن في رقصة جماعية لا تستحي فيها من كان بدنها كبدن الفيل من أن تراقص فتاة كغصن البان. ثم ها هو الراعي يرعى غنمه والناي بين شفتيه، وصاحب الفرس يدرب فرسه وهو على متنها على الرقص على أنغام المزمار، كذلك كان جني المحصول الزراعي يتم دائما مصاحباً بالاغاني، وايضاً عمل عمال البناء والمراكبية في النهر أو البحر. اما اليوم فإني لا أمرّ بفلاحين وفلاحات في جمع لهم في المساء، او أركب مع مراكبي قارباً في النيل، او أعاين عامل بناء اثناء عمله، إلا لمحت على مقربة منهم ذلك الجهاز اللعين المعروف بالراديو الترانزيستور، أداروه بأعلى صوت للاستماع الى أغان مسجلة في استوديوهات اذاعة القاهرة. فهل أدرك محمد عبدالوهاب وام كلثوم بعدما نالا من مجد في تلك الاذاعة، انهما وأمثالهما قضوا على فرص ظهور الآلاف من صاحبات وأصحاب الصوت الحلو، والمواهب الغنية الحقيقية؟ لم يكن هؤلاء وحدهم من ينعمون بملذات راقية المستوى، وبمتع تتطلب منهم مشاركة ايجابية. كان كل من يتمتع بقسط لا بأس به من التعليم والثقافة يمارس ما حبته يد الطبيعة من موهبة في المجالس العائلية أو المحافل العامة، فهو اما ان يكتب لأبنائه تمثيلية يؤدونها امام سائر افراد الأسرة، او يتدخل في المقاهي بارتجال بيتين من الزجل يقاطع بهما انشاد المعروفين بالادباتية، او يعبر على الاقل تعبيراً ذكياً عن مشاعره الفياضة وعن شخصيته وتفرده اثناء قيام الراوي برواية أحداث قصة ابي زيد الهلالي والزناتي خليفة. كانت متعهم وملذاتهم راقية حية، وكانوا هم - بجهدهم الذاتي - خالقي تلك المتع والتسليات. بيد أننا غيرنا من كل ذلك، فبدلاً من كل تلك المتع القديمة التي تتطلب مبادرة ذاتية وموقفاً ايجابياً وإعمالاً للعقل، أقمنا مؤسسات وهيئات مهمتها توفير التسلية الجاهزة لنا، تسلية لا تستدعي من طالب المتعة واللذة اي اسهام شخصي، أو أي نوع من الجهد الذهني. ففي كل مدينة على ظهر الارض شيدت العشرات من دور السينما، تعرض ما هو في تسع وتسعين في المئة من الحالات افلاما غبية غثة، يكتب قصصها وحوارها مؤلفون من الدرجة العاشرة، ويقوم بأداء الأدوار فيها من هم اشبه بالابقار. نعم كان ثمة في الماضي مؤلفون وممثلون خالون من الموهبة، غير أن انتاجهم كان سرعان ما يندثر قبل أن يتعدى حدود المدينة او الدولة التي تحتضنهم، اما في زمننا هذا فإن الفيلم العبيط الذي تنتجه هوليوود في المغرب الأقصى من الولاياتالمتحدة يعرض في الوقت نفسه في لندنوالقاهرة وبرلين واديس ابابا وعمان وكراتشي، وتراقب احداثه البلهاء عشرات الملايين من دون ان تتطلب مشاهدتهم له إعمال فكر او بذل جهد، وما عليهم الا أن يجلسوا في مقاعدهم ويفتحوا أعينهم وهو ما ينطبق بحذافيره على التلفزيون، اكثر وجوه التسلية في عالم اليوم سلبية وخطراً. كان الناس في الماضي إن أرادوا الموسيقى عزفوها او الغناء تغنوا به اما اليوم فما عليهم الا ان يديروا التلفزيون او المذياع او ان ينتقوا الاسطوانة ويديروا "الغراموفون" ثم يجلسوا للاستماع وقد شردت أذهانهم، فتشكل الموسيقى او الاغنية مجرد خلفية لتفكيرهم في مشاكلهم ولا بأس من أن يقطعوا هذا الاستماع إن رن جرس الهاتف، او طرق طارق الباب. كذلك أضحت القراءة عند الغالبية العظمى من الناس، خصوصاً بعد ظهور التلفزيون في حياتهم مقصورة على الصحف والمجلات الصفراء، وكانت مهمة الصحافة في الماضي نقل المعلومات والاخبار، ثم اصبحت اليوم شأن السينما وغيرها، مجرد تسلية تشغل الذهن بفضائح امثال مونيكا لوينسكي وا.ج. سيمبسون من دون أن تقتضي منه أدنى تفكير، واغلب الظن أن يقضي القارئ سنوات طويلة من عمره يقرأ في كل يوم منها صحيفة او صحيفتين، من دون ان يحتم ذلك عليه ان يفكر او ان يفعل اكثر من تحريك عينيه من دون تركيز كبير امام السطور والأعمدة. في احدى الوثائق التي عثر عليها في مدينة كولونيا في المانيا والتي يرجع تاريخها الى العام 1499 بعد اختراع الطباعة. ان الله تعالى بحكمته اللا متناهية مكّن الانسان من اكتشاف ذلك الفن المجيد فن طباعة الكتب، الذي نستطيع بفضله أن ننتج نسخاً منها لا حصر لها، مما يهيئ الفرصة لكل فرد ان يقرأ بنفسه او ان يسمع غيره وهو يقرأ له، عن افضل السبل لنجاة روحه". فماذا لو ان كاتب تلك السطور بعث اليوم من قبره ليرى ما بات ينتجه ذلك الفن المجيد؟ صحيح ان في مجتمع اليوم افراداً يمارسون ألعاباً رياضية، ويدخلون في مباريات غير أن الجمهور الأعظم من الناس يفضلون المشاهدة على الممارسة، بل ويؤثرون احياناً مراقبة المباريات على شاشة التلفزيون وهم جالسون في مقاعدهم على بذل الجهد والتوجه الى الملاعب، فإن ذكر لك احدهم انه يهوى لعبة كرة القدم، فلن تدري ما اذا كان يعني ممارستها ام مراقبتها على الشاشة. وإن قال لك إنه "زملكاوي" أو "اهلاوي" كان اغلب الظن انه لا ينتمي الى هذا الفريق او ذاك، ولا انه عضو في هذا النادي او ذاك، وانما يقصد انه لسبب لا يعلمه الا الله "والأرجح ان يكون هو نفسه جاهلاً بالسبب" يحس بزهو لا مبرر له على الاطلاق، لو ان هذا النادي فاز في مباراة على ذاك. يرقصون؟ نعم ولكن، راقب بالله عليك راقصي هذا الزمان ذوي الأرداف المرحة، والوجوه التي تفيض جهامة وعبوسا، هذه المتع والملذات الجاهزة التي لا تتطلب جهداً او مشاركة، هي ذاتها التي تصادفها اليوم في أنحاء الدنيا كافة، وهي التي تشكل من الخطر على الحضارة الانسانية ما يفوق خطر تلوث البيئة، وثقب الاوزون والعولمة والانفجار السكاني، ذلك أن عملنا اليومي في المصنع او المتجر او المكتب او ماشئت نؤديه في العادة بصورة آلية لا تقتضي منا مبادرة او مجهوداً عقلياً كبيراً ولا تتيح لنا فرصة ممارسة مواهبنا وقدراتنا الذاتية. وها نحن اليوم في اوقات فراغنا نتجه ايضا صوب تسليات لا تقل آلية عن آلية عملنا اليومي، ولا مجال فيها لشحذ ذكاء او اظهار مهارة شخصية. فمتى اذن يتاح لغالبية الناس أن تستخدم عقولها وان تسلي نفسها بنفسها؟ الأرجح ازاء هذا كله، ان يعم السأم والملالة، كما الارجح ان يجد الناس السبيل الى مقاومة هذا السأم وهذه الملالة باقتضاء المزيد من الجنس والتحول الى المزيد من العنف، تماماً كما اقتضى شعب الامبراطورية الرومانية في حقبة أفول مجدها ونجمها، مزيداً من العاب السيرك ومصارعات الجلادين والفتك بالأسود والنمور والدببة أمام ناظرهم، وهم يقضمون طعامهم ويكتمون تثاؤبهم. * كاتب مصري.