قد يكون من الجائز القول ان عبارة "سفيرة لبنان الى النجوم" التي اخترعها شاعر حالم في ليلة حماس، لا تعني شيئاً على الاطلاق، ولكن من المؤكد ان فيروز، وأحياناً الى جانب وردة وميادة الحناوي، هي كل ما تبقى من عصر ذهبي للغناء العربي. وثمة من يضعها، على حق، الى جانب ام كلثوم، عربياً، وجوان باز، عالمياً. فإذا كانت فيروز هذا كله، يصح ان نتساءل: لماذا اذن كل هذا الخروج عن تاريخها، تمارسه شريطاً بعد شريط وأغنية بعد أغنية، منذ ما لا يقل عن عشرين عاماً. وبشكل أكثر تحديداً: منذ رحيل عاصي الرحباني؟ هل معنى هذا ان فيروز صارت جزءاً من الماضي، وان أجمل ما غنته وأبدعته صار وراءها؟ هل هو عامل السن؟ هل هو الظرف الاجتماعي الطارئ على المستمعين العرب، جمهور فيروز الأساسي؟ ان حيوية صوت فيروز لا تزال هي هي، تكشف عن هذا لحظة من هنا وأداء اغنية من هناك وهذا من شأنه ان يلغي الاحتمال الأول. اما الاحتمال الثاني فيلغيه ان جمهور فيروز العريض لا يزال موجوداً يجلها ولكنه يفضل ان يستمع اليها في اغانيها القديمة، ولا سيما في اغاني عاصي ومنصور الرحباني. فهل معنى هذا ان على فيروز، لكي تنبعث من جديد، ان تعثر على عاصي جديد؟ هذا هو بالتحديد ما قد يخطر في بال المرء في كل مرة يستمع فيها الى عمل جديد لفيروز، لحنه لها ابنها الفنان زياد الرحباني، وراح يقارنه بما كان عاصي ومنصور يقدمان لها، او - بالتحديد - عبرها. والحال ان هذا يضعنا أمام فرضية جديدة - مغرية الى حد كبير - تقول ان فيروز لم تكن ابداً سوى ظاهرة "رحبانية". وانها حين خرجت عن الرحبانيين الكبيرين، لم تعد هي ذاتها، وتضاءلت أهمية ما تقدمه. نقول هذا ونستثني ربما الحان فيلمون وهبي لها، ونستثني خاصة بعض اجمل الألحان التي كتبها لها محمد عبدالوهاب. ولكن، أفلم يكن وهبي وعبدالوهاب، مع فيروز، رحبانيين تيار عاصي وربما اكثر من الرحبانيين انفسهما؟ يقينا ان عاصي الرحباني لأنه كان اكثر مسؤولية عن الألحان من أخيه منصور الذي كان اكثر مسؤولية عن الكلمات، فهم صوت فيروز وامكانياته، ولذلك خصه بألحان ملائمة كانت هي ما ابدع الظاهرة الفيروزية. فهل معنى هذا ان زياد الرحباني، ملحنها "الخاص" منذ نحو عقدين من السنين، لا يفهم صوت امه كما كان يفهمه عاصي - الأب؟ من المؤكد ان موهبة زياد الرحباني كبيرة. ومن المؤكد ان موسيقياً مثله لا يمكنه ان يجهل صوت فيروز وامكاناته، ولا يمكنه ان يجهل تاريخها. ومن هنا يثور سؤال قلق حول ما اذا كان، أغنية بعد أغنية وشريطاً بعد شريط، يتعمد قتل فيروز القديمة، ليخلق واحدة جديدة على مقاسه. وهذه "الجديدة" لا يميزها، بكل صراحة، عن القديمة، سوى تاريخها. فهل يمكن لفنان ان يعيش طويلاً عالة على تاريخه؟ ترى، كلمة "قتل" هنا، أفلا تضعنا مباشرة في قلب العالم الشكسبيري، وتدفعنا الى التفكير في تلك المسرحية الخالدة التي يريد فيها الابن، امير الدانمرك، ان يقتل أمه، مدفوعاً الى ذلك بشبح ابيه الذي يطارده ويحضه على الانتقام؟ يقينا ان هذه الصورة تبدو فضفاضة هنا. ولكن، حين يؤكد النقاد ان زياد انما يريد ان يوصل فيروز الى الاجيال الشابة، كما فعل محمد عبدالوهاب مع ام كلثوم يوم لحن لها "انت عمري" وما بعدها، ألا يحق لنا ان نقول ان كل الناس ليسوا عبدالوهاب، وان كل المبدعات لسن ام كلثوم؟