اعتاد جمهور دمشق أن ينتظر بلهفة بالغة عروض المعهد العالي للفنون المسرحية، التي تقدم في ختام الربيع، لأنها تعتبر عادة مسك الختام للموسم المسرحي، وللتعرف كذلك على الوجوه التي ستظهر قريباً على خشبات المسارح المحترفة وعلى الشاشتين الكبيرة والصغيرة، ونظراً أيضاً للتساؤلات الفنية الكثيرة التي تثيرها هذه العروض، حيال التعامل مع فن التمثيل والنص والفضاء المسرحي. وقبل أيام انتهى عرض "الحيوانات الزجاجية" للأميركي تينسي ويليامز، وبدأ عرض "الموت والعذراء" لآرييل دورفمان من تشيلي، وكلاهما من اعداد وإخراج رياض عصمت. ان ما يقارب بين النصين المعروضين هو واقعيتهما التي تجنح نحو الطبيعية على صعيد تفاصيل الحياة اليومية وكثافة الشحنة النفسية لدى معظم الشخصيات، والنابعة من الشعور بالخذلان والانكسار الداخلي، على الصعيد الفردي العاطفي في "الحيوانات الزجاجية" وعلى الصعيد النفسي السياسي في "الموت والعذراء". هذه الشخصيات لدى ويليامز مأخوذة من بيئة اجتماعية على مشارف الفقر في الأربعينات في مدينة سان لويس، ولدى دورفمان من ضحايا الإرهاب السياسي لانقلاب الجنرال بينوشيه ضد أليندي في تشيلي. وفي عرضيه على المسرح الدائري قدم المخرج النصين في بيئتيهما الأصليتين من حيث تفاصيل الديكور والأغراض، لكن الأغاني والمقطوعات التي اختارها كخلفية موسيقية في "الحيوانات الزجاجية" تعود الى فترة الستينات والسبعينات، دون أي مبرر درامي، سوى ربما النوستالجيا الذاتية. كما أبقى الأسماء الأجنبية في العملين على حالها، لكنه جعلها تتكلم بالعامية الشامية، لأنها - حسب رأيه - "أكثر واقعية، ولأن الشخصيات في الأصل لا تتكلم بالفصحى". سبق للمخرج عصمت أن قدم لويليامز "ترامواي الرغبة" المسرح القومي، وحينها نقل أجواء العمل الى دمشق الخمسينات وأعطى الشخصيات بالتالي أسماء محلية، فتكاملت بيئة العمل الجديدة مع العامية الشامية، وعندها كان استخدام المخرج لمصطلح "إعداد" مبرراً. أما استخدامه المصطلح نفسه في العرضين الجديدين ليشمل فقط الترجمة وبعض الحذوفات في النص الثاني، فليس مبرراً. يقول المخرج في كراس عرض "الحيوانات الزجاجية" انه يقدم العرض "كتحية لذكرى الستينات، في إضاءة مختلفة لهذا النص الكلاسيكي الحديث". ونتساءل بدورنا: إذا كان أول عرض للنص يعود الى عام 1944 في شيكاغو، فما هي المبررات الدرامية لإحياء ذكرى الستينات تحديداً؟ وهل الإضاءة المختلفة لهذا النص تتلخص في إقحام بعض المؤثرات الكوميدية عن طريق التلاعب اللفظي بالأسماء؟ الأم أماندا وينغفيلد نسيمة الضاهر - خريجة مخضرمة ممزقة بين ذكريات صباها المرفه. في جنوبالولاياتالمتحدة، حيث كانت محاطة بالمعجبين، وبين واقعها في الشمال، فقيرة ومهجورة من قبل زوجها عامل الهاتف الذي تخلى عنها منذ سنوات. وهي تعيش من دخل ابنها توم قصي الخولي الذي يعمل في مستودع للأحذية، ومنه تنفق على ابنتها الصبية لورا رغداء شعراني التي تعرج قليلاً نتيجة مرض أصابها في طفولتها. وأماندا متشددة في تربيتها لأولادها ومفجوعة بالنتائج، إذ أن توم غير طموح، يدخن ويشرب ويكتب الشعر ويرتاد السينما كثيراً، ولا يهتم بأمور البيت المستأجر، ولورا تتغيب عت دروس الآلة الكاتبة ولا تصادق أحداً سوى حيواناتها الزجاجية السريعة العطب مثلها. آفاق المستقبل إذاً غامضة. وعندما يُحضر توم - تحت الحاح أمه - صديقه جيم أوكونر باسل خياط كمشروع خطيب للورا لضمان مستقبلها، يتبين بعد التعب والعشاء المكلف أن جيم مرتبط، فتنهار الآمال، وتحمِّل أماندا توم ذنب ما حدث، فيغادر البيت على خطا أبيه وفي مخيلته دائماً صورة لورا. هذه الأحداث القليلة تدور في غرفة المعيشة في شقة وينغفيلد المؤثثة ببعض قطع الموبيليا البسيطة والنظيفة الموزعة في أركان الغرفة التي استخدم المخرج جدارها الخلفي كشرفة تبدو عبر نافذتها أضواء نيونات ملونة لمحلات الشارع الخلفي. وعلى هذه الشرفة في مطلع ونهاية العرض فقط يظهر توم الراوي وهو يستعيد ذكرياته التي ستتجسد أمامنا عبر حركة الممثلين بواقعية مفرطة، في حين ساعدت الإضاءة على اضفاء مسحة توحي بأن الأجواء مستعادة وليست راهنة. وقد امتلأ جانبا جدار الشرفة بصور مكبرة لمشاهير نجوم هوليود. قدمت نسيمة الضاهر جانبي شخصية أماندا، المهيمن ظاهرياً والمنكسر داخلياً، بشفافية مرهفة، وبتلوينات في طبقة صوتها تغني الحالات النفسية المختلفة التي تمر بها بشكل لافت للانتباه، لكنها عندما ظهرت في ثوب صباها الباذخ العتيق لتستقبل جيم، تجلى الشرخ واضحاً بين الصورة المفترضة لإمرأة جنوبية وبين لهجتها الشامية، فتصدع الإيحاء المرغوب من المشهد. ولو رأى ويليامز رغداء شعراني في دور لورا لامتلأت نفسه بالرضا ولاطمأن على الصورة التي رسمها لصبية جميلة خجولة هشة ومنطوية على نفسها، ذات حوار مقتضب متقطع، بصوت خافت مع نبرة شديدة الوضوح، وحركة رشيقة رغم عرجها. عطوفة متفهمة تجاه أخيها، ومستكينة مندهشة تجاه أمها، ومنفتحة بتمهل خجول تجاه جيم. أما قصي الخولي فقد استمد سمات أدائه الداخلية والخارجية لشخصية توم من طابع الشاب الشرقي المتأفف المدلل الناقم من ضيق واقعه والحالم الهارب الى عوالم السينما والشعر. وقد ظهر هذا جلياً في علاقته بأمه وسلوكه اليومي تجاهها، في تملصه من تأنيبها وتهربه من إلحاحها. لقد اجتهد قصي على دوره ونجح في أداء فهمه الشخصي له. لكنه لم يكن شاباً أميركياً، بل ظهر كشاب من بيئتنا، فانسجم مع العامية الشامية التي أسعفته في صياغة سلوكه وأفعاله، والتي ولّدت أحياناً أثراً كوميدياً، ليس من أصل الشخصية. على نقيض وصف ويليامز المسهب للشخصيات الثلاث الأولى، نجده يصف جيم باقتضاب قائلاً: "شاب لطيف عادي". لكن دوره في النصف الثاني من المسرحية كبير وفاعل، وقد تم تسريب المعلومات عنه قبل ظهوره من قبل توم ولورا، ثم اكتملت صورته عبر حواره مع لورا. كان في المدرسة مع لورا رياضياً ومغنياً ومحط إعجاب الفتيات، وهو يعمل الأن مع توم ويدرس الخطابة مساءً. انه واقعي مستقر، يحسب خطواته نحو المستقبل دون تهويمات، ومنها خطوبته المبكرة. وهو الشاب الوحيد الذي أعجبت به لورا منذ أيام المدرسة وحتى الآن، دون أن تدري أنه صديق أخيها. وهو بدوره يجهل أنها أخت توم ولا يعرف سبب دعوته الى العشاء. لقد بذل باسل خياط جهداً ملحوظاً في تجسيد دور هذا الشاب الأميركي "اللطيف العادي" من حيث الشكل الخارجي والأفعال، لكنه لم يكن مقنعاً تماماً، لتمزقه الواضح بين بيئة جيم الأميركية ولغة باسل الشامية، خصوصاً وأن حواراته طويلة نسبياً. وفي جزء طويل من مشهده مع لورا، عندما يجلسان على الأرض بين الأريكة والمدفأة، لم ينتبه المخرج عند رسم الحركة أن المشاهدين على جانبي المدرج شبه الدائري لم يروا شيئاً بسبب الأريكة من اليسار والمدفأة العالية من اليمين. ورغم طول مدة العرض 105 دقائق تمكن المخرج والممثلون من الحفاظ على الإيقاع الخارجي والداخلي منضبطين حسب ضرورة الحالة. في عرض "الموت والعذراء" يتمحور الحدث حول باولينا سلافة معمار التي ما زالت تعاني من وطأة انتهاكها واغتصابها في المعتقل السياسي، على رغم مرور سنوات على الإفراج عنها بسبب تبدل الظروف السياسية. وزوجها المحامي جيراردو عروة نيربية مكلف من طرف رئيس الحكومة بفتح ملف التحقيق في جرائم العهد السابق. عندما يحضر الطبيب روبرتو مروان أبو شاهين ليعيد لزوجها دولاب السيارة المعطوب وتسمع صوته من دون أن تراه تشك بأنه هو الطبيب الذي كان يغتصبها في المعتقل على موسيقى شوبرت، فتعتقله رغم معارضة زوجها، وتطالبه تحت تهديد المسدس بالاعتراف كي تتحرر نفسياً، وإذا فعل فإنها لن تقتله. وتتفق مع زوجها على لعبة لاستدراج الطبيب للاعتراف بحيث تتأكد من هويته. وعندما تجابهه بحقيقته ينفي الاعتراف، فتهدده بالموت، عندها لا يقر بأفعاله فحسب، بل وبأنه ما زال يتلذذ بتذكرها، فتطلق عليه النار وتقتله. تقع الأحداث خلال يوم وليلة في جو مأزوم متوتر ومشحون بانفعالات صارخة. فباولينا عثرت أخيراً على سبب أزمتها المباشر وتتردد بين الانتقام السريع للوصول الى الخلاص وبين أن تسلمه للعدالة. والطبيب مذعور من الانتقام وخائف من الفضيحة. والمحامي المكلف بالتحقيق يناور ليتجنب الانتقام الفردي ويذعن لمشيئة باولينا بإجراء لعبة التحقيق الفخ. سبق للمخرج الشهير رومان بولانسكي أن حوّل المسرحية الى فيلم، تبين من خلاله أيضاً أن النص يحتاج الى طاقات تمثيلية عالية للسيطرة على الانفعالات النفسية المتضاربة وتجسيدها بمعادل أدائي مقنع ومؤثر. ورغم أن عصمت قد أفرد في كراس عرضه حيزاً كبيراً للحديث عن الجنرال بينوشيه وجرائم نظامه الى جانب مقطع من رواية "بيت الأرواح" لأيزابيل اليندي، فإن ذكر دولة تشيلي أو بينوشيه لا يرد في العرض اطلاقاً، وبالتالي فإن من لم يقرأ الكراس سيتوه بين الأسماء اللاتينية الإسبانية وبين العامية الشامية. أضف الى ذلك أن الديكور الذي صممه زهير العربي - كما في العرض الأول - والذي يمثل غرفة المعيشة في مستديرة المسرح وغرفة النوم في الطابق الثاني من الجدار الخلفي فوق مدخل المنزل لا يحمل أي سمة بيئية أو لمسة شخصية تحيلنا الى مكان محدد أو مواصفات ما لقاطني هذا المنزل، ولا حتى على صعيد الأزياء، وبالتالي فإن احتمالات التعميم مفتوحة، ولكن هل هي مقصودة؟ خلال مدة العرض 85 دقيقة وزع المخرج حركة ممثليه بين غرفة المعيشة وغرفة النوم مع تركيز على الأولى حيث يتواجد الطبيب طيلة الوقت مقيداً الى كرسي خيزران بشريط لاصق، في حين اقتصرت مهمة الإضاءة على التقطيع الزمني للمشاهد. عندما ينصاع الطبيب لضرورة الاعتراف أمام المسجلة حسب رغبة باولينا، نجده فجأة وحده في غرفة النوم جالساً على السرير يدلي باعترافه في مونولوج طويل موجه الى الجمهور، مع غياب باولينا وجيراردو عن المشهد، فما تفسير هذه الحركة؟ يبدو أن المخرج لم يولِ هذا العرض نفس درجة الاهتمام التي أولاها للعرض الأول. ومع ذلك فقد تبين بوضوح أن سنوات الدراسة الأربع قد صقلت أدوات التعبير الفنية لدى المجموعة بكاملها، والزمن وحده هو الذي سيزود الشباب بالخبرات الحياتية والفنية ليجعل منهم محترفين مقتدرين.