قدر غريب هذا الذي حصل مع الدكتاتور التشيلي بينوشيه. زار بريطانيامرات ولم يسأل عما جنت يداه، بعد الانقلاب الذي قاده على الرئيس الشرعي سلفادور الليندي في الشهر التاسع من العام 1973. وها هو بعد ما يقارب الربع قرن على مذابحه الشهيرة، يوضع تحت الإقامة الجبرية في مستشفى بريطاني!، ليس من غرابة أن يتم التحقيق مع مجرم حرب أو طاغية، ولكن، مصادفة غريبة حدثت، تشبه القدر المكتوب، كأنما تنبأت بما هو آت. يتلخص الحدث بأن احتفالاً باسم مؤسسة جارا، أقيم في لندن في أيلول سبتمبر الماضي في ذكرى رحيل جارا، الشاعر والفنان التشيلي على يد العسكريين الذين قاموا بالانقلاب، بحضور زوجته البريطانية جوان وابنتيه مانويلا وأماندا. قبل ذلك كانت الصحف أشارت الى اعتزام الممثلة البريطانية إيما تومسون، كتابة سيناريو فيلم يتكئ على المذكرات التي نشرتها زوجته في الثمانينات تحت عنوان "أغنية غير مكتملة". خبر مبهج، إذ لا زال هناك من يتذكر جارا وصحبه بعد الصخب والمتغيرات العالمية التي تشوش الذاكرة. الاحتفال والسيناريو مهّدا لفتح الملف. هل هي صدفة القدر أن بينوشيه وضع تحت الإقامة الجبرية يوم السادس عشر من تشرين الأول اكتوبر، بعد خمسة أسابيع من الاحتفال المشار اليه، كأن روح فنان الشعب انطلقت من قمقمها بعد سنوات، لتصيب بلعنتها السفاح الذي أمر بتكسير العظام وتقطيع الأوصال ومنع جنازات الحزن - هذا الوصف حسب شهادة جوان جارا في مقابلة مع "التايمز". تقول جوان "الحمد لله أننا كنا متزوجين، لولا ذلك لم يكن ليسمح لي حتى أن ألملم بقايا جثته". وحسب رواية صديق زوجها، الطبيب الذي نجا من المذبحة الجماعية التي جرت في الاستاذ الرياضي، أن أحد جلاديه قال لجارا مستهزئاً "سنقطع ذراعيك، لنرى كيف ستعزف على "غيتارك"!. تعرفت جوان على جثة زوجها من بين ركام طابور من الجثث المشوهة. مشهد يذكر بفيلم "مفقود" للمخرج اليوناني غافراس أوائل الثمانينات، عندما ذهب الأب الأميركي الى تشيلي للبحث مع زوجة ابنه عن جثة ابنه الصحافي، وكان الأخير جاء في مهمة لتغطية أخبار الانقلاب. ويذكر أن قصة الفيلم في الأساس، مأخوذة عن رواية واقعية بالعنوان نفسه. ربما أن الجلاد بينوشيه عاش فترة أطول بكثير من ضحيته، أو ضحاياه، ربما تمتع بأيام أطول. أنجب ورأى أحفاده، تمتع بالنظام الديموقراطي الجديد الذي انقلب عليه، فبقى رئيساً للجيش حتى فترة قريبة، وحصل على مقعد دائم في المجلس النيابي. قابل سياسيين مشاهير، وشرب الشاي مع الليدي ثاتشر!. لكن لحظة اعتقاله كانت فرحة كبيرة لكثيرين من كل أنحاء العالم. تمنى العديد مع ممثلة منظمة حقوق الانسان، في حديثها التلفزيوني أن يمر صدام يوماً على عاصمة الضباب، بل أن يمر كل ديكتاتور آخر. هناك يوم للطغاة ولن يفلتوا منه ببساطة! بهذا الشكل، يظل البشر مؤمنين بالعدالة والحق والقيم الأخرى النبيلة. ها هو ديكتاتور تشيلي وقد ناهز الثمانين، مجرم استدرجته روح ضحيته نحو حتف محتمل، حتى ولو كان هذا الحتف معنوياً. قد لا يحاكم، وقد لا يتعرض لعقوبة. تكفيه كل هذه الهزة الإعلامية!. عاش بينوشيه سنوات أطول من ضحاياه، لكنه سيموت بلقب الديكتاتور المجرم، بينما واحد مثل جارا مات شاباً - قبل بلوغه الأربعين باثني عشر يوماً - ولا تزال روحه تلهم الكثيرين، حياً هو في قلوب شعبه كفنان عظيم. جوان الآن في الحادية والسبعين من عمرها. تميل الى الكآبة، ويؤلمها أن زوجها لم يقل لهم وداعاً. يؤلمها أنه لم ير إبنتيه تكبران. ويؤلمها أكثر أن الجلادين لم يطلبوا يوماً المغفرة من أحد، ولا أبدوا الندم عما فعلوه. يحيلنا كلامها الى الفيلم التشيلي الشهير "فقدان الذاكرة"، الذي يطرح تساؤلاً، إن كان يجب أن نقتل الجلاد، أو ننسى ونتركه يعيش عاره. الأمر الآن أهم من حلول عاطفية تطرحها شعوب العالم الثالث. محاكمة الطغاة قضائياً هي الحل، كي نضمن مجتمعاً ديموقراطياً، بدل أن ندخل في تداعيات الدماء مرة أخرى. * كاتبة سورية مقيمة في لندن