من الطبيعي ان يختلف النقاد حول فيلم، خصوصاً اذا ما كان مخرجه واحداً من صنف برناردو برتولوتشي، شق طريقه بسينما ملتزمة و"تحمل تأثيرات الموجة الفرنسية الجديدة"، كما اعترف ذات مرة، ثم انتقل منها الى سينما ذات سطوع عالمي وصولاً الى مرحلة جديدة يختار فيها بين ما يريد من اعمال. لكن المثير للإهتمام تلك المقارنة التي عقدها بعض النقاد في الغرب بين فيلم برتولوتشي الاخير "محاصرة" وأفلامه السابقة. هنا في اميركا على الأقل، اعتبر الفيلم عودة الى سينما برتولوتشي الأولى وقورن تحديداً بفيلمه "استراتيجية العنكبوت" 1969 و"الممتثل" 1970. وهناك من عمد الى التبسيط فنسج من حقيقة ان "محاصرة" قصة عاطفية تقع بين فردين يعيشان معاً في بيت واحد، رابطاً هذا الفيلم ب"آخر تانغو في باريس" الذي أثار رد فعل كبيراً بين اوساط المثقفين والمحافظين حين خروجه قبل سبع وعشرين سنة. لكن "محاصرة" عن رواية للإنكليزي جيمس لاسدن كتب لها السيناريو برتولوتشي وكلير ببلو، لا يصل إلى أي من هذه القمم السابقة. واذا ما كانت هناك مقارنة واحدة تجوز فهي في النظر الى ما تحول اليه برتولوتشي خلال السنوات التي تلت، تحديداً، الفيلم التالي ل"آخر تانغو في باريس"، وهو "1900" 1976. في العام 1979 اخرج برتولوتشي الدراما النفسية المسطحة "القمر" وأتبعه بالكوميديا التي اخفقت على اكثر من صعيد "مأساة رجل سخيف" 1981، ثم انتقل الى الصين ليحقق فيها احد انجازاته الافضل في السنوات الخمس عشرة الأخيرة وهو "الأمبراطور الاخير" 1987، قبل ان ينتقل الى افريقيا وتحت إبطه رواية بول باولز "السماء الساترة" 1990 فينجز واحداً من أضعف اعماله. اقل قيمة من الرواية. في العام 1994 قدم فيلمه الفقير "بوذا الصغير" وأتبعه في العام 1996 بفيلم جميل الصورة والعادي في محصلته النهائية "جمال خاطف". المشكلة التي تواجه أفلام برتولوتشي ربما تكون في انهيار جزء من المواد الأساسية التي كونت سينماه الأولى: المعتقد السياسي. حتى انهيار الشرق وتبلور العالم تحت جناح الراية الواحدة، كان برتولوتشي ماركسياً معروفاً. اما هذا وما انه كان متنكراً جيداً. لكن مهما كان، فإن "الممتثل" و"استراتيجية العنكبوت" و"1900" عكست مضامينه اليسارية التي وجدت في تلك الحقب اهتماماً شديداً بين الليبراليين، وليس فقط اليساريين. اختار ما يعكس العقيدة التي تبناها بوضوح. هذه الأفلام الثلاثة هي ضد الفاشية ومع اليسار الايطالي، وتتلاءم مع وضع الشارع الثقافي بعد ثورة 1968 الفرنسية والانتفاضات الشابة في اميركا وايطاليا وبريطانيا التي اتخذت من حرب فييتنام ذريعة لمواجهة نظام الوضع الاجتماعي والسياسي القائم. والأهم انها اذ نبعت من يقينه، او ما بدا انه كذلك، تميزت بأسلوب عمل مخلص لجهة ابتكار اللغة الخاصة. الفصل الأخير من مشاهد "الممتثل" هو صعود اللغة المروية لدى برتولوتشي لتبلور نهاية رحلة بطله الفاشي جان - لوي ترينتنيان ومأزقه. وهو مأزق مزدوج اذ على المخرج ان يبرر سر اهتمامه ببطل فاشي في فيلم معاد للفاشية، وهو نجح في التبرير لكن لذلك موضوع آخر. لكن برتولوتشي مع "الأمبراطور الأخير" وجد عالماً مختلفاً. الى ان اقدم على تحقيق "بوذا الصغير" كانت عقيدته الجديدة البوذية اكتملت في ذاته. انها الرد على الديانات التقليدية الثلاث التي رفضها اصلاً عندما كان ماركسياً. هذا كله كان يمكن ان يبقى شأناً خاصاً به لولا ان برتولوتشي فقط، في غمرة متغيراته، سبباً آخر غير مجرد صنع الأفلام يدفعه لتحقيق ما يريد تحقيقه. "محاصرة" افضل مثال على ذلك. يبدأ بمشهد تقع احداثه في افريقيا: امرأة ثاندي نيوتون في طريقها الترابي في بلدة صغيرة لزيارة زوجها الذي يعلم في المدرسة القريبة. انه يشرح للطلاب الفرق بين الزعيم والرئيس، عندما يقتحم المدرسة جنود الديكتاتور الجديد الذي استلم الحكم ويقودونه الى "الجيب" التي تبتعد به امام ناظري زوجته المرتاعة. بعد فترة غير محددة نرى الزوجة، واسمها شاندو راي، اصبحت في روما. انها تعيش في غرفة صغيرة في بيت كبير يسكنه موسيقار بريطاني اسمه جاسون كينسكي ديفيد ثيوليس حيث تعمل خادمة وتدرس الطب في ساعات الفراغ. بعد قليل يصارحها جاسون بأنه يحبها ومستعد لأن يفعل اي شيء من اجل الزواج بها. هنا تكشف له، وهي تصده بنجاح، بأنها متزوجة وزوجها في السجن. يكتفي الموسيقار بهذا القدر وتأخذ القصة "غطّة" في تفاصيل حياة ليست أساسية، الى ان تلاحظ شاندوراي ان هناك تقلباً في حياة الموسيقار الذي بدأ يبيع أثاث البيت بما في ذلك البيانو الذي يعمل عليه. لكن قبل ان يأتي من سيحمل البيانو بعيداً، يقيم حفل للأولاد الذين كان جاسون يدرسهم يعزف فيها مقطوعته الجديدة التي مزج فيها بين الموسيقى الأوروبية وتلك الافريقية ولو ان فكرتها داهمته على ايقاع آلة الهوفر بينما كانت شاندوراي تنظف الشقة كما يكشف احد المشاهد. وينجح جاسون في جمع المال لإطلاق سراح الزوج وتستلم الزوجة خطاباً منه بموعد وصوله الى روما. في تلك الليلة تقرر الزوجة التي صبرت سنوات على بعد زوجها وامتنعت عن حب اي مخلوق آخر، ان تمنح ديفيد حبها الدفين فتدخل غرفته وتفرض نفسها عليه وهو نائم. في الصباح يصل الزوج. يضغط على الجرس، يدق على الباب، لا احد يرد، تستيقظ الزوجة المستلقية الى جانب جاسون. لا تتحرك لفتح الباب. يمضي الزوج حاملاً حقائبه، بالتأكيد مندون ان يفهم ما حدث. منذ البداية هناك كل تلك المنافذ التي كان يمكن لبرتولوتشي النفاذ فيها الى المضمون السياسي. الفصل الأفريقي من الأحداث بدا واعداً: الحرية تقضي عليها الدكتاتورية والبريء إلا من عقيدته السياسية، يقاد الى السجن بسبب فكره. لكن برتولوتشي يكتفي من الفصل المذكور بالتقديم. لاحقاً، تتاح فرصة المقارنة بين الديكتاتور والموسيقار تحلم الزوجة بتلك المقارنة لكن المخرج يكتفي غير مكترث لمد الخيط المتولد ولو قليلاً لكي ينشئ عليه موقفاً ذا دلالة. في اكثر من موقع هناك نوافذ مغلقة في الفيلم كان يمكن ان تطل على الحياة في عصرنا. ان تنتقد او تدين، اذا شاءت، غياب الموقف السياسي لدى الشخصيات، او تدافع عنه اذا ارادت، لكن المخرج لا يفعل شيئاً على الاطلاق لتعميق فكرة او لفتح نافذة. الأكثر ان الدافع، لتحرير الأفريقي، عاطفي، لدى الموسيقار، ومبهم لدى المبشر الأسود في الكنيسة الافريقية القريبة. هذا الاخير يبدو موجوداً للفرجة. لا توجد كلمة واحدة تعكس قدراً من اهتمامه كما لو ان جمع المال لتحرير المساجين هو عمل كل يوم منذ مولده. من جانب آخر، فان شاندوراي، التي تؤديها نيوتون في عذوبة، تبدو امرأة تثير التعاطف حيناً وامرأة يمكن ان تبيعنا التعاطف لأن لديها الكثير منه. الموقف غير متجانس مطلقاً: من نظر المشاهدين هي امرأة من المفترض ان تكون ضحية الحكم الديكتاتوري وظروف الهجرة الصعبة هنك مشهد لا تتم فيه الموافقة على مد اقامتها لكن القضية انتهت عند ذلك الحد من دون استكمال، اما من نظرها، هي، فإن الموسيقار هو من يستحق التعاطف. على ان ديفيد ثيوليس، الذي تعرفنا عليه لأول مرة بشكل مميز في فيلم مايك لي "عار"، ممثل لا يمكن له ان يعكس مواصفات الضحية، وبالتالي الشعور معه في مأزقه العاطفي لا يقع. كذلك لا يقع أي تفهم لقرار الزوجة، في الليلة الاخيرة، النوم مع الموسيقار، علماً بأن الرجل الذي انتظرته طيلة هذه الفترة خرج من السجن وسيصل بعد ساعات. وقرارها عدم فتح الباب أسوأ وكل ما ذكرناه يكشف عن هروب المخرج من بلورة طروحات مرمية في طريق الفيلم في شكل ديكورات صغيرة.