هناك أفلام في تاريخ السينما تكون علامات كبيرة في هذا التاريخ، من دون أن تكون أفلاماً من النوع الذي يسمّى «أعظم الأفلام في التاريخ»، ولا هي تنهل قيمتها كذلك من كونها عرفت كيف تحقق مداخيل تجارية هائلة. كل ما في الأمر أنها بعد فترة من عروضها الأولى التي قد لا تكون موفقة، وبعد فترة من تجاهل النقاد لها، تصبح بصورة شديدة الغموض محلَّ اهتمام أنواع معينة من جمهور محبي السينما وذات مكانة في تاريخ علاقة هؤلاء بالفن السابع. في الحقيقة، يمكننا تسمية مئات الأفلام من هذا النوع، وقد يكون بينها أفلام رديئة أيضاً –مثل أفلام الأميركي إد وود التي تعتبر مع هذا «أسوأ أفلام حُقّقت في تاريخ السينما»!-، غير أننا سنتوقف هنا عند واحد من هذه الأفلام من دون أن يعني هذا أننا لا نعتبره فيلماً كبيراً، مع الإشارة إلى تبنّي الجمهور له ليصبح واحداً من أعظم الأفلام «الثانوية» في تاريخ هذا الفن. ونعني بهذا فيلم «الممتثل»، للسينمائي الإيطالي برناردو برتولوتشي، الذي قد يحلو للبعض اعتباره فيلماً بوليسياً أو سياسياً أو حكاية عاطفية أو فيلماً عن مسيرة إنسان خلال العصور المضطربة، أو عن الحب والخيانة والصداقة في آن معاً. ثم كيف لا يكون هذا كله فيلماً مقتبساً عن رواية لألبرتو مورافيا؟ مهما يكن من أمر، فإن «الممتثل» فيلم متعدد المعاني، وهو في الوقت نفسه واحد من تلك الأفلام الذكية القوية والعميقة التي اعتاد المخرجون الإيطاليون الكبار تحقيقها بين الحين والآخر لتخدمهم في فضح الفاشية التي هيمنت على بلادهم عشرات السنين. غير أن هذا الفيلم يرسم لنا في الوقت نفسه صورة لتحوُّل مثقف عاش ضياعاً منذ طفولته، عميلاً سرياً ينفذ أوامر رؤسائه من دون أي منطق أو تفكير أو اعتراض، كما هو حال هذا النوع من المخبرين، الذين عادة ما يجدون أنفسهم ضالعين في خدمة السلطات الفاشية. ومن هنا، اعتُبر الفيلم دائماً صورة سيكولوجية لذهنية العميل، ورسماً تاريخياً لجزء من الأسباب التي تجعل إنساناً عادياً نموذجاً فاشياً، ومن هنا أيضاً أهمية الفيلم في تاريخ هذا النوع من السينما... بل ربما أهميته أيضاً لناحية كونه يحلل بشكل علمي شخصية الفاشي. عند بداية الفيلم، نجدنا ليس في أول الأحداث التي يرويها، بل في بداية نهايتها: ففي هذا القسم، نرى مارتشيلو كليريتشي وهو يجهز لقتل أستاذه في الكلية البروفسور لوكا كوادري. ولهذا نجدنا متنقلين معه في باريس بين مشاهد من الحياة اليومية، ومارتشيلو وزوجته يجولان في المدينة إبان الحرب العالمية الثانية، ثم ننتقل الى داخل سيارة يقودها شخص من الواضح مدى دمويته، وإلى جانبه مارتشيلو... ومن الواضح هنا أن هذه السيارة وراكبيها يطاردون البروفسور وزوجته في سيارتهما. وخلال ذلك ننتقل إلى مجموعة كبيرة من فصول ماضية حدث بعضها قبل عقود وبعضها قبل مطاردة السيارة بفترة وجيزة. والحقيقة أن هذه المشاهد الاسترجاعية تبدو من التعقيد والتراكم الزمني بحيث أن كثراً من مشاهدي الفيلم أعلنوا أنهم لم يفهموا شيئاً عند مشاهدتهم الفيلم للمرة الأولى، فما هو هذا الشيء الذي لم يبد لهم واضحاً؟ إنه بكل بساطة حكاية مارتشيلو نفسه: مرة نراه يتناقش مع صديق له أعمى حول مشروع للاقتران بفتاة يحبها، ومرة ثانية نراه يحاول الانضمام إلى الحزب الفاشي الإيطالي، ومرة نراه في شرخ شبابه يزور أمه مدمنة المخدرات في الفيلا العريقة التي تقيم فيها كابنة لطبقة اجتماعية عليا منهارة. ثم يزور أباه في مأوى للمجانين. إن هذه المشاهد جميعاً تقول لنا ما الذي كانت تبدو عليه حياة مارتشيلو بين سنوات مراهقته وزمن الأحداث الحاضرة، وهي –المشاهد– تقودنا إلى طفولة هذا الشخص خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كانت أسرته لا تزال ثرية ومترفعة، لذلك تسعى دائماً إلى إبعاده عن مجتمعات الآخرين خوفاً عليه. غير أن السائق الأرعن لينو سرعان ما يستميله بدعوى أنه سيريه مسدساً. وحين يحاول لينو الاعتداء على الصبي، يلتقط هذا المسدس ويطلق النار على السائق الذي يسقط مضرجاً بدمائه، بحيث نعتقد –ويعتقد مارتشيلو معنا– أنه قد مات. ثم في مشهد لاحق وقد أضحى الفتى شاباً، نراه -إذ يبدو واضحاً أن هذه الجريمة تعذب ضميره- يتناقش مع خطيبته حول ضرورة الاعتراف بالجريمة كي يستطيعا الاقتران براحة ضمير. يعترف مارتشيلو اذاً أمام الكاهن، لكن ذنوبه تبدو في الاعترافات أكثر كثيراً من مجرد قتله لينو. في البداية يقلق الكاهن، لكنه ما إن يعرف أن مارتشيلو انضم إلى البوليس السري الفاشي، حتى يهدأ ويعطيه الغفران! هكذا إذاً، بعد أن بيّن لنا الفيلم العلاقة بين الدين والفاشية والجنس –المثلي خاصة–، صار يمكنه أن يتابع أحداثه، فنعود إلى الزمن الحاضر، حيث يكلّف مارتشيلو وقد صار متزوجاً، بأن يساهم في باريس بمؤامرة أُعدّت لاغتيال أستاذه السابق الذي يعتبر من أخطر معارضي الفاشية، الذين يحاربونها انطلاقاً من منفاه في العاصمة الفرنسية. وهكذا يأخذ مارتشيلو زوجته ويتوجهان معاً إلى باريس. وخلال تلك الرحلة، نستعرض حياة الزوجين وعلاقتهما حتى اللحظة التي يلتقيان فيها البروفسور كوادري وزوجته الحسناء. وكوادري طبعاً لن يثور لديه أي شك يتعلق بما يخطط له مارتشيلو. بالنسبة إليه هو لقاء عائلي مع تلميذ له قديم. وإذ يمضي الثنائيان أوقاتاً مرحة وودية معاً، يكون العملاء الفاشيون، ودائماً بالتعاون مع مارتشيلو، يسعون إلى تنفيذ الخطة التي فحواها استدراج كوادري إلى غابة خارج باريس، للتمكّن من قتله هناك بعيداً من الأعين. بيد أن الذي يحدث هنا هو أنه خلال أيام الرفقة بين كوادري وزوجته من ناحية، ومارتشيلو وزوجته من ناحية أخرى، يغرم مارتشيلو بزوجة أستاذه، التي في الوقت نفسه تستميل زوجة مارتشيلو لتمارس معه علاقة شاذة، فيما يبقى البروفسور في منأى من معرفة أي شيء عن هذا كله. أما المؤامرة فتواصل طريقها، ويتمكن مارتشيلو بالفعل من استدراج كوادري إلى حيث سوف يقتل، لكنه في الوقت نفسه يرجو آنا، زوجة البروفسور، من دون أن يوضح لها السبب، ألا ترافق زوجها في تلك الجولة بالسيارة في الغابة، لكن آنا لا تصغي إلى ما طلبه منها مارتشيلو، بل ترافق كوادري. وهناك، وسط غابة مهجورة، وإذ تتوقف سيارة البروفسور لبرهة، ينزل العملاء الفاشيون من سياراتهم ويطلقون الرصاص بغزارة على البروفسور. أما آنا، فإنها حين تدرك ما الذي يحدث، تلتفت لتشاهد مارتشيلو في سيارته، فتهرع إليه طالبة الحماية خابطة على زجاج السيارة، لكنه يتجاهلها تماماً حتى يصل الفاشيون ويردونها قتيلة. وإذ يتوقف الفيلم بهذه الأحداث القاتلة عند هذا المشهد، ينتقل بنا الى زمن لاحق: إلى العام الذي انتهى فيه الدكتاتور موسوليني وحزبه الفاشي، الآن صار مارتشيلو رب عائلة له طفل صغير ويعيش حياة شديدة التقليدية. وذاتَ لحظة، يتصل به صديقه الأعمى الذي كان فاشياً في السابق، طالباً منه أن يلتقيه في الشارع حيث تدور تظاهرات عنيفة تعبّر عن فرح الشعب الإيطالي بالتخلص من الفاشية. وإذ يلتقيان ويبدأ بينهما نقاش هادئ حول الأوضاع الراهنة، يشاهد مارتشيلو شخصين يتجادلان، وسرعان ما يتعرف في أحدهما على لينو، السائق الذي كان قد خيّل إليه أنه قتله في الماضي. على الفور ينتفض مارتشيلو، إذ رأى الناس يبحثون عن الفاشيين للثأر منهم، فيشير إلى لينو صارخا بملء فمه أن هذا الرجل فاشي ولوطي وأنه قد اشترك في اغتيال البروفسور كوادري وزوجته... فلا يكون من جميع الناس إلا أن يهجموا على لينو ويضربوه، في الوقت الذي يجد مارتشيلو نفسه، وبشكل غير واع، يشي كذلك بصديقه الأعمى ايتالو.. فيقتاده المتظاهرون بدوره، فيما يواصل مارتشيلو طريقه وكأن شيئاً لم يكن. منذ عُرض هذا الفيلم حقق شعبية كبيرة، وأعاد إلى الحياة كذلك رواية ألبرتو مورافيا التي كانت منسية بعض الشيء. أما بالنسبة إلى مخرجه برتولوتشي، فإنه حقق له مكانة إضافية كبيرة بين كبار معلمي السينما الإيطالية، علماً بأن الفيلم من بطولة جان–لوي ترنتينيان والفاتنة دومنيك ساندا. ومن الطبيعي ان نضيف إلى هذا كله أن فيلم «الممتثل» حين عرض عام 1970، للمرة الأولى، أعاد بسرعة فتح ملف الفاشية الإيطالية –والفاشية بشكل عام– كحالة مرضية ترتبط بالجنس والدين أكثر منها حالة سياسية. [email protected]