تلقى الحزب الاشتراكي الديموقراطي وحزب الخضر في المانيا صفعة قوية جداً على وجهيهما في الانتخابات الأوروبية والبلدية التي جرت الاحد الماضي. واعتبر العديد من المراقبين ان النتيجة تمثل تصويتاً واضحاً ضد حكومة شرودر الحالية. من بون كتب اسكندر الديك: المفاجآت تتوالى في المانيا بشكل لم تعد معاهد استفتاء الرأي قادرة على اللحاق بها والتبشير بها مسبقاً. صحيح ان حكومة المستشار غيرهارد شرودر كانت تتوقع حدوث تراجع في شعبيتها، لكن الذي حدث فاق كل التوقعات، اذ ان الحزب الاشتراكي الديموقراطي خسر 13 في المئة تقريباً من أصواته بالمقارنة مع الانتخابات النيابية قبل تسعة شهور وحزب اتحاد التسعين - الخضر أكثر من أربعة في المئة بالمقارنة مع الانتخابات الأوروبية الماضية. وكان المراقبون يتوقعون ان يؤدي نجاح السياسة الخارجية لحكومة شرودر، خاصة تمكنها من ايجاد حل سياسي لحرب كوسوفو، وفوز الاشتراكيين الديموقراطيين الساحق في انتخابات ولاية بريمن المحلية قبل اسبوعين، الى اقناع غالبية كبيرة من الناخبين بضرورة التصويت لها. لكن الذي جرى كان على العكس من ذلك تماماً. فقد حصل الاشتراكيون على 30.7 في الأصوات بينما حصد الاتحاد المسيحي المعارض الحزب الديموقراطي المسيحي والحزب الديموقراطي الاجتماعي البافاري 48.7 في المئة منها. ورأى مراقبون ان الفوز الساحق للمعارضة هو بمثابة ثأر لهزيمتها الشنيعة قبل تسعة شهور. ولم تكن نتائج الانتخابات البلدية في ست ولايات المانيا غربية وشرقية أفضل نتيجة، اذ حقق الحزب الديموقراطي المسيحي وثبة غير متوقعة الى الأمام ليتجاوز الحزب الاشتراكي الديموقراطي حتى في الولايات المعروفة بأنها حمراء تقليدياً مثل ولاية السار التي يعيش فيها اوسكار لافونتين رئيس الحزب ووزير المالية السابق المستقيل بعد خلافات قوية مع شرودر وقيادة حزبه. وفي بعض الولاياتالشرقية تراجع الحزب ليحتل المرتبة الثالثة بعد الديموقراطي المسيحي وحزب الاشتراكية الديموقراطية الشيوعي الاصلاحي الذي تمكن في الانتخابات الأوروبية ايضاً من خرق حاجز الخمسة في المئة للتمثل لأول مرة في البرلمان الأوروبي بحصوله على 5.8 في المئة من الأصوات بينما فشل الحزب الليبرالي في ذلك للمرة الثانية فاقداً نصف الأصوات التي حصل عليها المرة الماضية. وتدل التحليلات التي جرت اثر الزلزال الانتخابي الذي حدث ان القضايا الأوروبية والخارجية لم تلعب إلا دوراً بسيطاً جداً نسبته 12 في المئة في تحديد خيار الناخب الالماني الذي صوت بكثافة تبعاً للمواضيع الداخلية المختلف عليها والتي تندرج في اطار السياسة الاقتصادية والضريبية لحكومة شرودر حيث يعم نوع من المماحكة والتناقض داخل حزبي الائتلاف الاشتراكي - الأخضر. ويعترف الجميع بأن التصويت كان على النهج السياسي - الاقتصادي الداخلي لا على الشعارات الأوروبية العامة، وان الناخب يصوت أولاً وأخيراً انطلاقاً من محتوى محفظة نقوده. ويجمع المراقبون ايضاً على ان فضل المعارضة في هزيمة الحكومة ليس بكبير في الواقع، اذ أنها لم تتمكن حتى الآن من صياغة بدائل واضحة للمشاكل الاقتصادية والضريبية والبنيوية التي تعاني منها البلاد، كما أنها لم تتمكن من ممارسة دور المعارضة بمعناه التقليدي لأنها كانت لا تزال تعاني ايضاً من اثار هزيمتها النكراء في الانتخابات النيابية العامة الأخيرة. فما الذي حدث إذن في انتخابات الأحد الماضي وما الذي يفسر هذه السقطة المهولة للحكومة؟ إذا نظرنا الى الوجه الآخر من ميدالية الانتخابات نرى أجوبة عدة قد لا تبدو كلها سوداء في حق الحزب الاشتراكي الديموقراطي وحزب الخضر. فعلى الرغم من كل أجواء الانتصار التي يعيشها الاتحاد المسيحي هذه الأيام لا بد من الإشارة الى عوامل خاصة بهذه الانتخابات لا يمكن تجاهلها في أي تحليل موضوعي. فللمرة الأولى تنخفض نسبة المقترعين في الانتخابات الأوروبية في المانيا الى حد كبير حيث بلغت نسبة الاقتراع 45 في المئة فقط مقابل 61 في المئة في المرة الماضية. وتظهر التحليلات ان قسماً كبيراً من الفارق البالغ 16 في المئة محسوب على الناخبين التقليديين للحزب الاشتراكي الديموقراطي الذين لم يذهبوا الى صناديق الاقتراع هذه المرة عن سابق تصور وتصميم لأنهم غير راضين حالياً عن عمل الحكومة العشوائي في عدد غير قليل من الأمور الداخلية. يضاف الى ذلك ان استقالة لافونتين جعل قسماً من التيار اليساري التقليدي في الحزب ينكفئ على نفسه احتجاجاً على جنوح الحزب نحو اليمين. ويرى المراقبون ان هذه الكتلة من الناخبين التقليديين التي بقيت في منازلها احتجاجاً ستبقى احتياطاً للحزب يعتمد عليه في الانتخابات اللاحقة. وفي المقابل جمع الاتحاد المسيحي كامل قوته الانتخابية تقريباً وتمكن من زجها في صناديق الاقتراع، ومن هنا فإن فوزه الساحق لا يعكس الصورة الحقيقية للتركيبة الانتخابية الفعلية في البلاد على رغم ان جزءاً كبيراً من ناخبي الوسط عاد وصوت لصالح الاتحاد المسيحي هذه المرة. اما بالنسبة الى الخضر فإن الخلافات الداخلية العنيفة بين الأصوليين اليساريين والواقعيين المحدثين الممثلين الآن في الحكومة حول مسائل عدة أهمها اتهام التيار الاصولي للتيار الواقعي بتراجعه عن مبادئ بيئية اساسية وبتأييده لحرب كوسوفو وحلف الناتو أوصلت الحزب الى حافة الانقسام ودفعت بالعديد من الاعضاء للاستقالة من الحزب. وعلى رغم خسارتهم لأكثر من 40 في المئة من الاصوات تنفس الخضر الصعداء بعد حصولهم على 6.4 في المئة، الا أنه من الواضح للجميع خروجهم متضعضعين على عكس ما حصل في فرنسا حيث تمكن حزب الخضر بقيادة الثائر الطلابي السابق الالماني - الفرنسي دانيال كوهين - بنديت من تحقيق انتصار مشهود لأول مرة في تاريخ البلاد. وفي الوقت الذي تكبد الاشتراكيون في كل الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي الخسائر سار الحزب الاشتراكي الفرنسي في عكس التيار محققاً نجاحاً مهماً. وتحدث مراقبون هنا بسخرية مشيرين الى ان توني بلير وغيرهارد شرودر حاولا قبل يومين من الانتخابات تلقين ليونيل جوسبان درساً في تحديث الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية وفتحها على الفكر النيوليبرالي من خلال اعلانهما شخصياً في لندن عن ورقة استراتيجية مشتركة في هذا الصدد رفض جوسبان الموافقة عليها. لكن الذي حدث ان الانفتاح النيوليبرالي لم يساعد الاثنين على الاطلاق فخسرا انتخابياً على عكس جوسبان. وفي كل الأحوال فإن المستشار شرودر اعترف بالهزيمة وأعلن ان رسالة الناخب وصلت اليه وانه فهمها معلناً ان حكومته ستبدأ مرحلة جديدة تحقق فيها نجاحاً في سياستها الداخلية كما حققت ذلك في سياستها الخارجية. لكن السؤال يبقى: هل سيتمكن شرودر من ذلك وبالتحالف مع من؟ وهل ستصمد حكومته الائتلافية مع رياح التغيير النيوليبرالية التي يعلنها داخل حزبه وداخل حزب الخضر؟ أمر من الصعب الإجابة عنه الآن، لكن لا بد من الاعتراف بأن الرئاسة الالمانية للاتحاد الأوروبي استنزفت طاقات الحكومة التي لم يكن قد مضى على تشكيلها ثلاثة اشهر والتي لم يعرف وزراؤها الحكم منذ 16 سنة. اما بعد الآن فلن تبقى أية حجة أمام شرودر وطاقمه لتبرير عجز الحكومة اللاحق عن معالجة القضايا السياسية والاقتصادية والمالية الداخلية الحساسة للمواطنين، خاصة وانه لا يزال أمامه أكثر من ثلاث سنوات من الحكم.