يبدو مارون عبود، فيما هو يكتب، كأنه يضاحك نفسه أو يضاحك آخرين متحلقين حوله، أو حول طاولته التي يجلس اليها، كاتباً. في أحيان كثيرة يبدو لقارئيه مضحّياً بسياق ما يكتبه كرمى لخاطر عبارة فكهة أتت، ضارباً بعرض الحائط النصيحة التي قدمها الأميركي وليم فوكنر لكاتب الرواية: أقتل جملك التي تأتيك مثل حسناوات غاويات. بل انه في كتابه "أحاديث القرية" الذي يجمع "أقاصيص وذكريات" كما هو وارد في العنوان، يبدو أدبه أقرب الى أدب المجالس منه الى أدب الكتب. كأنه حكى ما كتبه حكياً. ولا يتعلّق ذلك بسرعة تأليف الكلام وإجرائه بل أيضاً بنازعه الديواني والمجالسي. لم تسلم روايتاه فارس آغا والسلطان الأحمر تماماً من ذلك النازع فهو، في أي حال، لم يقم مسافة تتطلبها الكتابة عن موضوعه. الشخصية التي تبدأ بها رواية السلطان الأحمر فصلها الثاني، وهي شخصية الراهب المتصوف "حبيس مار عبد الحرش"، تكاد تكون الشخصية الغامضة الوحيدة في أدب مارون عبود كله. منذ بداية وصفه في الرواية وحتى انكشاف هويته أحد مطارنة الجبل المعروفين، ظل الراهب الحبيس محاطاً بالصمت وبالحركة القليلة فبدا لقارئيه كأنه في مشاهد سينمائية تُرى من بعد. بل أضفى هذا الصمت وذلك الخفاءالذي يلازمه نوعاً من دبيب تخيّلي سرى في تلك الصفحات من السرد. تلك الصفحات التي ربما بلغت الثلاثين ألّفت مناخاً من تتابع السرد والوصف فبدا مارون عبود به كأنه انتقل من زمن كتابي قديم الى زمن كتابي حديث. لكن تلك، في ما قرأت من أدب مارون عبود القصصي، كانت هي المرة الوحيدة التي يتولّد فيها مناخ مُتخيّل من النص. أحداث الروايتين وكذلك شخصياتهما الأخرى لا تبتعد قيد أنملة عن الوصف الجسماني الفيزيائي الذي يعطى لها. وهي، الى ذلك، لا تحتمل التأويل. إنها أحداث وشخصيات خالية من أي إيحاء إذ هي لم تتألف بالكتابة وطرقها بل بآليات الكلام الشفهي ومراوغاته وحيله الشائعة والسهلة الانكشاف. في الصفحات التي تصف المشاهد الأولى للراهب الحبيس، الاستثنائية في أدب مارون عبود القصصي، نرى كيف أن وتيرة السرد قد أُبطئت مفسحة المجال لتشكيل ما يشبه الديكورات في العمل المسرحي، تلك التي كان مارون عبود لا يعيرها اهتماماً في أعماله. حتى أن اللغة التي كتب بها هذا الفصل تبدو نازعة الى أن تفعل جُملُها ما تفعله فنون الاستعارة في العادة. في سائر كتاباته الأخرى، سلك مارون عبود، في تعاطيه اللغوي، مسلكاً لا يُعرف له أصل إلا في النوادر والنكات الأدبية التي كان يتداولها مثقفو المجالس ومتأدبوها. أولئك كانوا مأخوذين بالمحاورات القصيرة، التي تتألف من جملتين في الغالب، من سؤال يطلقه سائل ليكون بمثابة الكرة وقد رُميت عالياً لضاربها، في جملة إجابته، وهي الجملة الثانية. "ما بال حمارتك على ثلاث تدسّ" قال المتأدب المسيحي للمتأدب المسلم بعد أن شاهده راكباً حمارة عرجاء. "كمثل دينكم، اب وابن وروح قدس"، أجابه المسلم الجواب الذي سينتشر بين المسلمين، من فور سماعه، انتشار النار في الهشيم. وسيكون ذلك علامة على نصر كلامي حققه هؤلاء على أولئك. اللغة العربية الفصحى، الباقية حاملة ذلك الإرث الثقافي القديم كله، كانت تستعمل في شاكلة ما ورد أعلاه. بذلك تبدو الفصاحة أو البلاغة اللذان كانا، في زمانهما، يضفيان معنى وغاية لشؤون الحياة ومجرياتها، كأنهما فقدا ذلك الدور الجليل الذي كان لهما وانحدرا الى المستوى الذي تحولا فيه ألعاباً للّعب. في مجموعته القصصية "وجوه وحكايا" خصوصاً يبدو مارون عبود كأنه أنشأ القصص فقط من أجل أن يمارس عبرها هوايته، أو تمرينه، في تحويل اللغة العربية، والصعب من مفرداتها الموغل بالقدم على وجه الخصوص، الى عبارات تؤدي دوراً فكِهاً حيث تحلّ. ولمارون عبود في ذلك فنون لا تُحصى. فتارة يُدخل اللفظ الغريب، الحامل ثقل غرابته، في مجرى الكلام العامي الركيك، وتارة تكون الكلمة الفصيحة هي الكلمة الصحيحة التي تناسب هنا المعنى الذي استخدمت له، لكن هذا يقع موقعاً فكها برغم ذلك، وتارة يوقع قارئه فيحيّره: هل هذه الكلمة من أصل العربية الفصيحة أم أنها من متداولات أهل القرى؟ في أكثر كتبه وليس في "وجوه وحكايات" فقط، غالباً ما يتبدى مارون عبود لقارئيه لاهياً بالكلام عابثاً به ومعابثاً إياه. أما ما يمكّنه من ذلك فمعرفة واسعة بكل من اللغتين، لغة العرب الفصحى ولغة أهل القرى. في كل سطر من سطوره القصصية نجد نموذجاً لذلك اللعب اللغوي حيث، في كل مرة، يعجب القارىء كيف أن هذه الثقافة الواسعة ارتضت بأن يكون هذا شكل ظهورها. المرور على ذكر شاعر هنا، أو ناثر هناك، أو موقف عبّر عنه بيت أو بيتان من الشعر هنالك لا يتوقف تتاليه في القصص. يكاد يشعر المرء فيما هو يقرأ أن ذلك ليس إلا ثقافة ومعرفة أسيء استخدامهما. في كتاباته النقدية، التي يصبغها أسلوبها التعليمي بصبغته، لم تعرف العربية شاعراً أو ناثراً، على وجه التقريب طبعاً، إلا وخصّه مارون عبود بفصل أو أكثر كتبه عنه. وإلى الكتّاب العرب هؤلاء، الممتد زمانهم من العصر الجاهلي الى آخر عصر الانحطاط فالنهضة، لم يظهر كاتب لبناني واحد، وصولاً الى جيل معاصريه، إلا وتناوله بكتابته. أما عن ثقافة القرى بأمثالها وأزجالها واحتفالاتها ومصادر لغاتها فكتب أيضاً فصولاً وأبواباً ضمّنها كتبه. وفي الثقافة والأدب الفرنسيين كانت له صولة وإن لم تبلغ شأو مثيلتها في الأدب العربي. في مقابل أربعين مرة، مثلاً، يشير فيها، في مجريات قصصه، إلى أعلام وكتابات من الأدب العربي، يذكر ما عرفه من الأدب الفرنسي مرّتين. وأحسب أن هواه الثقافي كان هناك، في الأدب العربي الذي استطاع أن يتشبعه ويتمثله حتى إدارته على لسانه دوران الكلام الهاذر العادي. أو أنه تمكّن من إنزاله، في كلامه، منزلة الأمثال الشعبية التلقائية التداول على ألسنة أهل القرى. ومن الأمثلة على أن هواه كان هناك، في الأدب العربي، مخاطبته أعلامه في حواريات متخيّلة كان أقربها الى قريحته تلك التي أنشأها بينه وبين الجاحظ الذي قدم الى منامه، زائراً، ذات ليل. الجاحظ الذي هو نظيره في الولع بالفكاهة والتنكيت حتى أن مارون عبود يقول له: "ويحك ما أمر نكتتك، ألا تتركها حتى في النار..؟"، أما ما دار بين الرجلين في لقائهما المتخيّل فهنا فاصل منه: "وامتد بنا السخر والتهكم والمزاح حتى تجرأت عليه، وقمت أعلق في جيبه منديلاً يقي صدره من اللعاب السائل. فضحك وقال: ذاك كان في دنياكم، أو ما تراني غير ما سمعت بي؟ فضحكنا وقعدت استعط. فما رأى علبتي حتى انقضّ عليها بمخالبه الخمس كأنه يأخذ ملحاً لقدر هريسة، ثم غيّب العاطوس في أنفه ولم يعطس لكنه تجلّى وفرح، ثم فرك أنفه وقال ان عاطوسنا أفعل من هذا وستفرح كثيراً يوم تصير الى جنتنا ذات اللهب، فنظراؤك كثر هناك، إن حققهم الذهبية ملأى من العطوس الروماني... انه أطيب من هذا". ص 633 في المجلد الثاني من مجموعته الكاملة الصادرة عن دار مارون عبود ودار الثقافة. لا يكاد قارىء مارون عبود يقع على صفحات عنده أكثر فكاهة من صفحات حواريته هذه. لقد خلط بينها بين الميت والحي وجهنم والجنة والعرب والرومان والأصابع بالمخالب والعطوس بالطعام فكان كأنه أعطي الحرية الكاملة، أو الحرية حتى الهذيان، لإجراء نكاته. ثم إنه، الى خلطاته تلك، خلط نفسه بنفس كاتبه القريب اليه أبي عثمان قرباً جعل من لقائهما لقاء الفكاهة بالفكاهة أو لقاء السخرية بالسخرية أو الهزء بالهزء: "وانقضّ الجاحظ على الطعام بالسكين والشوكة فقلت: كأنك ابن زماننا يا أبا عثمان! قال: نعم ولا فخر، قد علمني فولتير آداب سفرتكم". فولتير الذي أقام الجاحظ معه في جهنم ذات المراتب والدرجات حيث يرفع الله من يشاء... "الى أسفل". لم يكن مارون عبود هازئاً بقدر ما كان في لقائه الجاحظ. كان حراً في هذا اللقاء أليس هو من مختلقات المنام على أي حال؟ مستعملاً لتوليد هزئه وتنكيته أضخم الأشياء جهنم ذات السعير واللهب وأصغر الأشياء العطوس الذي في العلبة الصغيرة. ثم ان لقاء كهذا هو ما ينتظره ماون عبود ويتوق اليه. النكات التي كانت تطلع من تحويل البشر الى رسوم كاريكاتورية في "وجوه وحكايات" هم في حال من يُشاهدون أو يُراقبون بعيني مراقب متعال ساخر. أما الجاحظ، كموضوع لإجراء الفكاهة، فغاية مارون عبود منه هو التواصل به على السوية نفسها. أو التماهي به أو معه. ذاك أن الرجلين، حين يلتقيان، يروحان يتبارزان ب"الظرف" وهي الصفة التي أطلقها نقاد العرب على أدب الجاحظ. ثم جعلا يتبارزان بتعيين كل منهما مواضع قبح الآخر وهذا ما ليس يُشهد به لمارون عبود، أما إن كان أراده لنفسه فلرغبة عنده في التماهي بالجاحظ حتى في قباحته وسوء خلقته. كما أنهما، كلاهما، ناثران وهذا ما جعلهما يستذكران أبا الفرج الأصبهاني، كاتب سير أدب العرب، بكونه اهتم للشعر وأدار ظهره للنثر إلخ... مع أن اللقاء بين الرجلين كان متخيّلاً أو هو من أعمال المنامات إلا أن بهجة مارون عبود لمقابلته قرينه لا تخفى. لقد أعدّ له استعداده كله وظرفه كله وهو، في أي حال، لم يشبع نهمه منه فأعقب لقاءه ذاك به بلقاء تال أعطاه عنوان "أبو عثمان وأبو علي" لكن كان الحوار فيه مونولوجا هذه المرة، إذ كان الجاحظ قد عاد الى حيث يقيم، في جهنم. * * * ربما سبق وجود مارون عبود الزمن الذي حلَّ فيه المتثقِّف بالأدب والثقافة العربيين في المرتبة الثانية. في المجلد الثاني من مجموعته الكاملة، المختص بالدراسات، تناول مارون عبود نحو سبعين شخصية أدبية وفكرية، عربية ولبنانية، في مقابل ثلاثة أسماء أجنبية أحدها كارنيليوس فان دايك الذي استحضر الى الكتابة لإجراء المقارنة بينه، مصلحاً، وبين لويس شيخو. أحد الآخرين هو الأب هنري لامنس ذو الصلة الوثيقة بالثقافة العربية، أما ثاني الإثنين أو ثالث الثلاثة، فهو فيكتور هيغو الذي استُحضر، هو الآخر، ليقارَن بكاتب عربي هو أحمد فارس الشدياق. ويبدو أن عنايته بالآداب غير العربية، والفرنسي منها على وجه الخصوص، لم تتجاوز حدَّ الإلمام، بحسب التعبير الدال على المعرفة بالشيء من دون الغوص فيه. وهو، في سعيه الدائب الى الإلمام بكل ما كان يدور في فلك زمنه المتعدد مصادر الرياح، اهتم أيضاً بشعراء العامية اللبنانية، الحديثين المعاصرين له من أمثال أسعد سابا وميشال طراد. هناك رافدان إذن، لغويان بالدرجة الأولى، صنعا أدب مارون عبود ونقده هما العربية والعامية القروية. في أعماله القصصية بدا بهما كأنه يوسع المجال الزمني للغة الكتابة فيمدها ألفاً وخمسمائة سنة الى الوراء وينزل بها بعد ذلك الى حدّ العامية الأخير، ذاك الذي يتبدى كأنه حاضر اللغة المتطرّف. الكتاب المعاصرون له، بل وحتى الذين أتوا من بعده، كانوا يرون للغة زمناً واحداً هو زمن تشكلها الشائع الأخير. مارون عبود كان مخالفاً لهم. لقد خلط بين أزمنة تعبيرية خلطاً بدا، لشدة ولعه به، كأنه احتل النصيب الأعظم من أعماله القصصية. في "وجوه وحكايات" يكاد الأشخاص يتراوحون بين كونهم مخلوقات حقيقية أو مخلوقات من صنع اللغة. وفي مواضع كثيرة يبدو مارون عبود، في رسمه لهم، فاعلاً الشيء نفسه الذي يفعله في ما هو يرمي مفردة في غير سياقها كأنه يمازحها أو يمازح بها. أما واحدنا الذي يقرأ مارون عبود فيأخذه العجب من عدم أخذ الكاتب ثقافته مأخذ التأمل وحملها على استبطان النفس. كأن كاتبنا، ليحول دون بلوغ البؤر المعتمة في داخل نفسه، كما في داخل كل منا، نصب علامات تحذير، كتلك التي تثبت في الشوارع لتشير الى مواقع الخطر، تقول، مثلاً، هنا الحدّ الأخير، لا تتخطاه. ارتضى مارون عبود بأن يقف عند عمق ما، هو عمق سطحي في أي حال. لكن، برغم محاولتي الإيضاح هذه، يظل السؤال قائماً: كيف يمكن لكاتب أن يعرض ثقافته الواسعة كأنها أداة لهو أو ممازحة؟ أو: كيف أبقى هذه الثقافة في حدِّ الأداة ولم يترك لها أن تخترقه فتشف عن باطنه. مارون عبود، لقارئيه، يظهر كاتباً بلا باطن. شخصيات رواياته وقصصه ليست نتفاً أو أجزاء من نفسه، كما يحدث لشخصيات الروايات أن تكون في العادة، بل هم بعيدون عنه بعد معلم عن تلاميذه الأولاد أو بعد رجل عن قوم أقام بينهم لتسلية نفسه فقط وتزجية أوقاتها. الكتّاب الذين تتالوا بعد مارون عبود اشتركوا، على الاختلافات بينهم، في شيء واحد هو اعتقادهم أن الكتابة هي ما يذهب الى الداخل، أو ما يظن أنه ذهاب الى الداخل. والكتابة، في اعتقادهم أيضاً، مجالها التراجيديا، بحسب التصنيف الأليزابيثي الذي، في قرارته، هو أيضاً، أحلَّ الكوميديا في مرتبة أدنى. في اعتقاد من توالوا بعد مارون عبود لم تخلق الكتابة للتسلية والإضحاك، لذلك راحوا، في كتابتهم، يسيرون في طريق معاكسة لطريقه أي مديرين ظهورهم إليه. وكلما تقدم الزمن بهم الى أمامه ازدادوا يقيناً بمسلكهم ذاك وتعصّباً له. الزمن الذاهب بهم دائماً الى الأمام، الى ما هو أمامهم وليس ما هم فيه. أيّ أنهم قلما يلتفتون، في ذهابهم الحثيث ذاك، الى الوراء. مارون عبود تُرك هناك، في القراءة المدرسية، الابتدائية أو التكميلية، ولم يرجع الصغار، بعد أن كبروا، إليه ليروه في هيئة ثانية. بعض الآخرين حظوا بما لم يحظ به مارون عبود. لكن العودة اليهم لم تذهب الى أبعد من تصحيح الصورة، أو وضعها في الإطار الملائم لها. لم يذهب بهم رجوعهم لأدبائهم الى أبعد من ذلك. دائماً كان هؤلاء يتميّزون بنقص يصعب تعويضه في أصالتهم التراجيدية. بالنسبة لأخلافهم، الكتابة هي هناك، في الأمام، الأمام غير المرئي الذي، برغم ذلك، يسعون اليه.