منذ أن كنا تلاميذ في المدارس تقدمت لنا صورة لمارون عبود، رجلاً وكاتباً، لم تتغيّر مع انقضاء السنوات. لقد أبقيناه حيث هو، في تلك الصورة، فيما شعراء وكتاب آخرون، من أعلام المدارس أيضاً، تقدّمت معرفتنا بهم وصرنا نراهم في صور أخرى. طه حسين، مثلاً، المصري، تطلب منا اعادة قراءة ثانية بدا فيها دوره وأدبه أقرب الى عالم الكبار منه الى عالم التلاميذ. جبران خليل جبران ألحّ علينا شيء أحاط بإسمه لنقرأه قراءة ثانية، لم نقم بها تماماً على أي حال. ميخائيل نعيمه أهملناه لسبب يتعلق بالمزاج الشخصي أكثر مما يتعلّق بالمزاج الأدبي، لكنه دائماً كان هناك، اسماً ينبغي علينا أن نعرفه بما يتعدى القراءة المدرسية. أما مارون عبود فبقي هناك، حيث تركناه. في السنوات اللاحقة لتعلقنا بالأدب لم تكن نقاشاتنا تزدحم عند شيء فيه، بل انها ربما لم تصل اليه. أي اننا لم نرسم حتى ملمحاً أو خطاً نبدأ به تأليف نسخته الجديدة. وكنا بذلك كأننا نقصيه عن دائرة أولئك الذين، في سنوات انشغالنا بالأدب، لم يتوقفوا عن إذكاء نزعتي الخيال والحماسة فينا. كأننا نسينا مارون عبود في غمرة ميلنا الى توسيع حدود مجالنا عبر حقنه، مرة بعد مرة، بالجديد والغريب. ذاك أننا سرعان ما اكتشفنا أن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي لم يقرّره المدرسيون لنا، بل ذلك الذي نذهب نحن اليه، باحثين ساعين، هكذا على نحو ما يحدث في الانتقال من علاقات القرابة الى علاقات الصداقة. في تلك الفترة الأولى من جنوحنا نحو الأدب كنا نكافح معروف الرصافي، الموجود في الكتاب المدرسي، ببدر شاكر السياب، المقيم في خارجه. كما كنا نكافح شعراءالكلاسيكية والرومنطيقية العرب بأدونيس، ومحمد عبدالحليم عبدالله بغوغول مثلاً أو بتورجنيف. تلك كانت المرحلة الأولى من الخروج، أو من الابتعاد الأدبي. مارون عبود كان قريباً في غاية القرب. وهو بدا لنا، اضافة الى ذلك، قابلاً لأن يُحبس في صورة واحدة هي صورة فكاهته التي كنا نحسب أنها فكاهة الكهول. كنا في مرحلة التشريق والتغريب فيما مارون عبود قابع في ذلك القرب. كان أديب القرية التي خلّفناها وراءنا جاعلين وجهتنا المدنية التي آنذاك، لم تكن مدينة واحدة بل مركز التقاء نوازع مدنيّة متخالفة. أي أننا، شأن ما كنا نصنّف الأدباء، كنا نصنف المدن أيضاً فيعجبنا منها ما التبس واتسع وما استحق منها أن يكون محطّ الرغبات. أي أننا، بقياس الكتاب المدرسي الذي اعتمدناه أعلاه، كانت عمّان، مثلاً، مدينة مدرسية، بينما باريس، أو ليننغراد ان أُخذت كما كانت في القرن التاسع عشر زمن أدباء الروس، أو حتى سانتياغو، مدناً مواكبة للنزوع نحو الابتعاد الموصوف أعلاه. ولا ريب أن جيل مارون عبود، الذي سبق تفتحه الأدبي تفتحنا بمدة تزيد عن نصف قرن، كان يرى الى المدن وتصنيفاتها بعين مختلفة مغايرة. بل وأحسب، لشدة ما سخر مارون عبود من المدينة وبشرها، أن حبَّ المدينة هو اختراع متأخّر بدأناه نحن في أيامنا. من بقايا الجيل الذي سبقَنَا ذاك، ما زلت أذكر كتاباً قرأته منذ نحو عشرين سنة، لكاتبه سمير الحاج شاهين كما أذكر، بدا النزول الى المدينة فيه نزولاً الى الفوضى والوسخ والدناسة. كان هذا موضوع الكتاب، أو رسالته. في الكتابات المبكرة للروائي فؤاد كنعان، وقد قدّم مارون عبود لأولها وهو كتاب "قرف" الدال اسمه على الموقف من مجاله، المدينة آنذاك، يظهر بشر المدينة أكثر وساخة، بالمعنيين المادي والمعنوي، وأكثر استدعاء للسخط المباشر، من أي من الكتّاب الشاتمين المدن. كان ذلك وقتاً رفعت نخبته لواء كراهية المدينة والقرف منها والقيء عليها. وأحسب أن قاصاً مثل جورج شامي، وهو من جيل تأخر نحو عقد أو عقدين عن فؤادكنعان، حوّل ذينك الكراهية والسخط الى نوع من العبث والحنكة المرة لا يحتاج واحدنا الى أن يعثر على اسم المدينة في النص، حتى يعرف أنها ماثلة، كموضوع كتابي أول، مِنه. أما مارون عبود، المختلف عن أولئك الذين تتالوا من بعده في نوع الموقف الرافض للمدينة، فكان أقرب الى الهزء منها والى الكاريكاتورية من بشرها. ثم أنه آثر أن يأخذها مجانبةً، لا مباشرة وبدق الرأس كم فعل الساخطون من بعده. روايتاه "فارس آغا" و"الأمير الأحمر" روايتان عن الريف بشخصيات ريفية وإن ازدحمت في الإطار المكاني لأولاهما نظم حكم ووصاية أشد تعقيداً مما هو معلوم حتى عن المدن المشتركة في تقاسمها أطراف حكم كثيرة. إنها، فارس آغا، رواية عن القرية وبالتحديد عن "عين كفاع"، قرية الكاتب الذي لم يجد أن كتاباً واحداً يكفي لطي صفحتها. "الأمير الأحمر" رواية عن عين كفاع كذلك، وإن اختلفت نبرة الكتابة فيها وتحوّلت اللغة الهازئة الساخرة، التي تميز كتابات مارون عبود، القصصية وغير القصصية، الى نوع من كلام نضالي لم يصمد في نضاليته طويلاً على أي حال. ذاك ان الرواية التي جرى التقدم بها، في فصولها الأولى، كأنما لتكون رواية المجابهة بين الأمير بشير الظالم الطاغي وبين المقهورين تحت سلطته، لم تلبث أن تراخت عن شدتها وتحولت المواجهة الأخيرة بين الأمير وخصمه الثائر الى موقف كأنه مستمد من حيل الزجل اللبناني ومن ألاعيبه. لم يستطع مارون عبود أن يستمرّ في نفس النضالية والمواجهة حتى نهاية الرواية. بل يبدو الأمر وكأن المقدمات الصامتة للرواية، المتحفزة، التي لا تذكر لجديتها بأعماله الأخرى، كأنها مما لا يطيقه كتبها ومما لا يرتاح اليه. في رواية "الأمير الأحمر" هذه أقام الثائر "الشدياق سركيس" ما يشبه أن يكون مسرحية قروية تنكّر فيها الثوار بأزياء جوقة النَوَر ليكون عرضهم المسرحي باباً للمصالحة مع الأمير. في هذه الرواية لم تتفق المقدمات مع الخاتمة. فشاعر الغضب المتوعد التي أنبنت عليها ركائز الرواية ما لبثت أن انهارت، أو طاشت، أو انفرطت، في نهايتها. هكذا من دون حجة روائية أو سبب منطقي معلوم. ذلك يشبه سمت جدٍّ اتخذه رجل ثم سريعاً ما بدا كاذباً إذ سرعان ما غلبته صورته الحقيقية التي هو فيها ضعيف وقاصر وقليل الرجولة. وأحسب أن رواية فارس آغا أيضاً قد انحرفت الانحراف نفسه، في متنها وقلبها وليس فقط في نهايتها. منذ أن بدأ قرياقوس بالظهور تفرغت الرواية له فصار كأنه بطلها البديل عن فارس آغا. ثم أن حنة "الهركولة" تظهر في حوالي منتصف الرواية تبدو كأنها تتأهل لتكون بطلة بديلة عن الرجلين، فيجري يعيينها ووصف شغلها في القبالة، ثم حركتها بين البيوت ومزاجها وتفردها بشخصيتها عن نساء القرية. هذا التقديم القوي، الذي يعني في الرواية وفي السينما من بعدها ان لهذه الشخصية دوراً حاسماً قادماً، يتوقف عند حدِّه ولا تصير الهركولة كما وُعدنا بها أن تكون. لا تعود الرواية الى ذكرها إلا عرضاً تاركة دورها لشخصية رابعة هي الخوري الذي يملأ فصول الرواية الأخيرة، هكذا، من دون أن يكون قد هُيّىء لذلك. هؤلاء الثلاثة، الرجال، يتنازعون على بطولة الرواية تنازعاً تبدو يد مارون عبود قاصرة عن ادارته. وهو، في ما أظنه حيرته إزاء تنازعهم، اختتم روايته بنوع من التوازن والتساوي بينهم، حيث أمات واحداً منهم هو قرياقوس "محترقاً في غرفة أسكنه بها دائنه"، وأمات الثاني وهو الخوري بالزنطاري، حيث دفن في بيته "دفنة غير مكرّمة"، وأمات الثالث فارس آغا مشرداً بعدما ضاع أثره. هذه الميتات الثلاث، التي أنهت الرواية مساوية بين رجالها المتزاحمين عليها، ليست بحال من نوع الميتات التي تختتم بها الرواية. إن كانت الروايات تعمل على متابعة المصائر الى آخرها، فإن الحتوف التي ألمت بالثلاثة تبدو كأنها طالعة من كلام الهزء والشماتة الذي يتداوله أهل القرى. الخوري مات بالرنطاري، وهذا أشبه بمسبّة منه الى اختتام رواية. وهي مسبة أيضاً لكونها أعلنت في الكتاب ذي الى 276 صفحة في سطور ثلاثة أو أربعة فقط. ولم يزد عنها اعلان ميتة قرياقوس على أي حال إذ اكتفى مارون عبود بسطرين ونصف السطر ليُجمل حالة الرجل التي أزرى بها الدهر ازراء شامتاً فخرب بيته وأضاع ماله وأسكنه في غرفة دائنه ثم أماته محترقاً، وكل ذلك في السطرين ونصف السطر. ذلك يشبه المهارة التي كانت للشعراء العرب ومنهم بشار بن برد الذي، في بيت شعر واحد، أجمل نهاية المعركة بقوله عن الأعداء: فراحوا فريق في الإسار ومثله قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه. وهذا الشبه بين الشعر العربي ومواضع كثيرة في نثر مارون لا تخفى إشاراته في كل ما كتب من قصص وغير القصص. تحوُّل رواية الأمير الأحمر عن مقصدها وتراخي عصبها الذي كان شديداً قبل نهايتها، هذا التراخي الذي نجده في مصالحة العدوين بما يشبه حفلة زجل، لم يقطع الرواية عن خاتمتها فقط لكنه أظهر لنا ضعف "الشعور الطبقي" عند مارون عبود وعدم قدرته على الوصول به الى نهايته. كان ينبغي أن يكون هناك منتصر ومهزوم في ذلك الصراع بين الرجلين اللذين يمثلان اتجاهي مواجهة في المجتمع كله. وإذ أنهى مارون عبود ما بينهما بحنكة الشدياق على المصالحة وقبول الأمير بشير بها، فهذا يعني أن روائيّنا ترك المجابهة على حالها بين الإقطاعيين والشعب، أي أنه أدار ظهره وانسحب منفرداً من المواجهة التي أذكى نارها وأججها. هذا من تراخي عصب الرواية، بل أنه من تراخي عصب مارون عبود نفسه ما دام أن رواية فارس آغا، هي أيضاً، تساوي بين الظالم والمظلوم حيث الأول بطاش جشع فارس آغا والثاني قرياقوس كثير الجلبة ومفتعل مشاكل. في نهاية الرواية هذه يظهر موت الرجلين، الظالم والمظلوم، ومعهما الرجل الثالث الخوري الذي هو منهما في منزلة بين المنزلتين، يظهر موت الثلاثة إذن كأنه تعبير عن رغبة الكاتب في التخلص مما يزعج راحة عين كفاع وأمنها. أي أنه ألقى بمثيري القلائل جميعاً في النار غير مفرّق بين موقع واحدهم عن موقع سواه. كما لو أن مارون عبود يعاني من غياب الحس الطبقي، ذلك الذي حرك أواره بنفسه في مطلع كل من الروايتين. أو كما لو أنه يعاني من غياب الحس العدالي. قرياقوس، المتمرد على سلطة الآغا، أضيفت الى شخصه خصال تبدو، لقارىء الرواية، كأنها لُفّقت له تلفقياً. كان أكولا شرهاً وكان وعراً يحافظ على ملكه محافظة الجشع، ثم أنه تحدى فارس آغا غير آبه معتمداً في ذلك على فطرته الجاهلة. انها صفات جعلت قارئي الرواية يترددون في موقفهم إزاءه وذلك حتى الوقت الذي صار موته والخلاص منه مقبولاً. تحويل ما يمكن أن يكون بطلاً شعبياً ضد الإقطاع الى مجرد مشاغب أهوج يأكل ثلاث دجاجات في الوجبة الواحدة يبدي مارون عبود منقطع الصلة بالمعايير الأدبية والسياسية التي كانت سائدة في زمانه. وهو لم يكن يحتاج الى أن يسبق عصره أو يتقدّمه ليبلغ هذه المعايير، فالروايتان كتبتا في السنوات ما بين 1948 و1959، أي في أوج ما كانت أفكار مناهضة قوى القهر والاستغلال تفعل فعلها بالمثقفين اللبنانيين. في أول كل من الروايتين أقام مارون عبود ديكوراً كاملاً، عزّزه بالأرقام حيناً وبما يشبه المسح الجغرافي حيناً آخر، لواقع الظلم اللاحق بالعباد. ثم إنه، كما هو وارد أعلاه، انحرف عن ذلك في ما تلا من فصول الروايتين متجهاً الى وجهة أخرى، هكذا، كأنه في لحظة ما خضع لعقل آخر استفاق فيه. وهنا أحسب أن ما كان يدفع بعصب مارون عبود الى الارتخاء هو غياب النازع العقائدي عنده، وغياب غضبية هذا النازع على وجه الخصوص. في مرحلته المبكرة كانت الكراهية المصمِّمة لرجال الدين والإقطاعيين هي الطاقة الحيوية الصانعة لأدب جبران خليل جبران. وفي سيرته الروائية التي حملت اسم "كتاب خالد" بدا أمين الريحاني مدركاً، في كراهيته لرجال الدين والإقطاعيين النافذين في بلده، أن الأدب إنما تصنعه المشاعر العنيفة الذاهبة في السخط الى آخره. انه عصب الكراهية المشدود. العصب وقد تحوّل عقيدة وموقفاً من العالم المحيط بل ومن الوجود كله. هذان الكاتبان اللذان عاصرا مارون عبود وجايلاه كانا يعلمان أن نسغ الكتابة الأدبية، أو دمها، هو في طاقة الغضب والاحتجاج، وقد أدرك ذلك كتّاب أتوا بعد مارون عبود قامت كتاباتهم على رفع موجة الأدب، بالانفعال والاصطناع، الى درجة مبالِغَة. شيء ما عند مارون عبود جعله قليل الغضبية وقليل العصبية وقليل العقائدية بالتالي. في مقالة له بعنوان "روادنا والقصة" يذكر مارون عبود ان جبران هو أول من "حاول تأليف القصة وفقاً لأصولها الحديثة". وهو يذكر، في معرض كلامه على جبران، الرائد، أن "مواضيع أقاصيصه كانت اجتماعية تحارب تقاليد يقدِّسا المجتمع". وجبران، بدلاً من أن يكون انتقادياً واقعياً، غالى في إعمال خياله مما أخرج فكرته الاجتماعية بقالب خيالي "يبعدها كثيراً عن الواقع، ولعل هذا هو عيبها الصارخ". مارون عبود كان مدركاً إذا لما سمي في ما بعد "ثورة جبران" لكنه لم يجارها. لقد ظلّ محايداً، قليل "الخيال"، بحسب ما عناه بهذه العبارة. شيء ما أوقفه عن ذلك. هل هو ميله الجارف الى الفكاهة؟ هل هو ذهابه مع الأفكار التي يولدها أو يناسلها؟ هل هو عدم قدرته على الصمت عن فكرة أتته وإن في غير موقعها؟ بمناسبة إنعقاد الموسم الثقافي اللبناني في معهد العالم العربي بباريس، يصدر المعهد، بالإشتراك مع منشورات "سيرسي"، كتاباً بعنوان "لبنان: وجوه معاصرة". أعدّ الكتاب فاروق مردم وشارك في نصوصه التي تناولت وجوهاً أدبية وفنية وفكرية من لبنان، كتّاب لبنانيون وفرنسيون. سوياً مع صدور الكتاب، بالفرنسية، ننشر هذا النص حول مارون عبود القاص والناقد والروائي.