يصعب الحديث عن عهد جديد في سورية وأشهر شعار في البلد هو "حافظ الأسد رئيسنا الى الأبد"، ولكن يمكن القول ان العهد يجدد نفسه، وان العملية التي بدأت بطيئة في بداية العقد، تسير بخطوات متسارعة في نهايته. التجديد يحمل بصمات الدكتور بشّار الأسد وحلقة ضيقة من المستشارين الشبان حوله. وكما ان النمر لا يستطيع تغيير خطوط فروته، كما تقول العبارة الانكليزية، فإن عهد الرئيس الأسد لا يستطيع تغيير جلده، كما كانت ستقول العبارة العربية المرادفة لو وجدت، فثمة ثوابت سياسية باقية محفورة في شعارات حزب البعث العربي، ومعها طلب السلام كخيار استراتيجي، ولكن يقابل هذه الثوابت متغيرات اقتصادية لتدخل سورية القرية العالمية وتتنافس مع الذين سبقوها، على قدم المساواة، ما أمكن ذلك. ليس سراً ان الدكتو بشّار الأسد خطا خطوات جريئة في محاربة الفساد، وايقاف الهدر، وأثبت النظام انه لا يوجد "رأس كبير" في الحملة الدائرة على الفساد. الا ان الدكتور بشّار اول من يعترف بأن القضاء نهائياً على الفساد غير ممكن، فهو وجد منذ وجد الناس، وانما المهم حصره في أضيق نطاق ممكن، وإشعار الفاسدين والمفسدين بأن هناك محاسبة شديدة. وربما عبّرنا عن هذا الوضع بكلمات اخرى، فالنظام في سورية يتمتع بهيبة امنية كبيرة، واذا استطاع المصلحون الشبان نشر نوع من الهيبة الاقتصادية تكون البلاد خطت عملياً اولى خطوات الاصلاح الاقتصادي المنشود. وبصراحة، فالكلام اسهل من التنفيذ، والدكتور بشّار الأسد يقول ان محاسبة الفاسدين ووقف الهدر خطوة اولى، الا انها ليست هدفاً بذاتها، وانما وسيلة للوصول الى غاية هي تطوير مؤسسات الدولة وتحديث الادارة للنهوض باقتصاد جديد. غير ان الكلام يظل اسهل من التنفيذ فثمة حاجة الى كوادر مؤهلة لشغل المناصب القيادية في المؤسسات المحدّثة، او المستحدثة، والنهوض بأعباء الاقتصاد، مع قطاع خاص يتجاوز التاجر التقليدي الذي يستورد من الخارج ويبيع محلياً ليضم صناعيين يبيعون في الخارج الانتاج المحلي. بمنتهى الصراحة، هذه الكوادر غير موجودة في سورية اليوم، واذا شئنا التفاؤل، حتى لا نقول المسايرة، فهي موجودة بأعداد قليلة لا تكفي للمهمة الكبيرة المطروحة. وعندي مثل حديث العهد: وصلت الى دمشق الاسبوع الماضي من جدة حيث ألقيت كلمة عن متاعب الصحافة امام عدد من رجال الاعمال السعوديين الشبان يضمهم فرع منظمة عالمية لرجال الاعمال دون التاسعة والاربعين، ووجدت امامي شباناً من الأسر التجارية المعروفة في المملكة العربية السعودية، اكثرهم درس في الخارج، ان لم يكونوا كلهم. وتابعت النقاش الاقتصادي بينهم، وسمعت آراءهم ووجدت انهم على معرفة، عميقة بأمور بلدهم، مع بعد خارجي واضح. هذا الجيل الشاب غير موجود في سورية بأعداد كافية، بعد سنوات من الانغلاق والإنكفاء، وبصراحة مرة اخرى، والاشتراكية العرجاء. وسورية والمملكة العربية السعودية تتساويان تقريباً في عدد السكان، الا ان عدد رجال الاعمال والصناعيين الشبان في الاولى اقل منه كثيراً في الثانية التي ارسلت موجات ضمت ألوفاً من الطلاب كل سنة الى الخارج للتحصيل العالي. الدكتور بشّار الأسد يعرف جيداً ان تغيير القوانين او تعديلها او تطويرها، لا يكفي اذا لم يوجد جيل قادر على ادارة المؤسسات الحديثة، مع توافر تكنولوجيا عصرية لهذه الادارة، فهل يعقل ان سورية والعراق وحدهما من الدول العربية تفتقران الى الهاتف النقّال، او الانترنت. يكاد اسم الدكتور بشّار، وهو طبيب عيون درس في انكلترا، مرادفاً للمعلوماتية في سورية، فهو يريد نشر احدث تكنولوجيا ممكنة في البلاد، الا انه يصطدم مع كل خطوة على الطريق بعقبات لا بد ان تكون كبيرة اذا كان ابن الرئيس يجد صعوبة في حلّها. يقول المثل "كل عقدة ولها حلاّل"، وعلى الأقل فهم في سورية يعرفون المشكلة ويعترفون بوجودها، وهذا لا بد ان يسبق الحل، فمشكلة دول عربية كثيرة انها لا تعترف بمشاكلها، ولا تستطيع بالتالي حل مشاكل غير موجودة. هل يستطيع جيل بشّار الأسد ان يطلق الاقتصاد السوري من عقاله؟ أكاد أقول ان المهمة مستحيلة، لأنها من نوع اصلاح سيارة قديمة، وهي سائرة في الطريق، فتطوير مؤسسات الدولة ونشر تكنولوجيا العصر، واصلاح القوانين المكبلة، لم يكد يبدأ ومع ذلك فاقتصاد سورية يواجه دوره في منطقة التجارة العربية الحرّة، حسب قرار قمة 1996، فترفع الضرائب تدريجياً، وبدءاً من هذه السنة، بمعدل 10 في المئة كل سنة لتزول خلال عشر سنوات، وفي تحرير التجارة حسب اتفاق مع لبنان فترفع الرسوم بمعدل 25 في المئة كل سنة، بدءاً من هذه السنة ايضاً لتزول خلال اربع سنوات، ومع هذا اتفاق الغات الذي حرر التجارة العالمية ومفاوضات الشراكة مع اوروبا ومؤتمر برشلونة لقيام منطقة تجارة حرّة في حوض البحر الابيض المتوسط. هل تستطيع الصناعة السورية المنافسة في مثل هذا الوضع المفتوح بعد ثلاثة عقود من الحماية؟ لم أسأل لأسمع جواباً، وانما لأقول ان المهمة تكاد تكون مستحيلة، وزمن المعجزات ولّى، فيجب ان تبقى التوقعات واقعية. والبقية غداً.