جلست في سيارة تابعة لوزارة الدفاع السورية، في طريقي من دمشق الى بيروت، ووجدت على المقعد قربي رشاشاً. وقال السائق انه سينقل الرشاش الى المقعد المجاور له في المقدمة، إلا أنني رفضت فالرشاش يمنحني شعوراً بالقوة لا يعرفه المتزوج عادة. ومع أنني تركت لبنان سنة 1975 ولم أكسب بالتالي أي خبرة قتالية خلال الحرب الملعونة، فإن عندي معرفة عميقة بالرشاشات، فقبل سنوات زار لبنان الأمير خالد بن سلطان، ورافقته في سياحة بالسيارة. وكنت أحاول أن أشرح له ما حدث، حيث مررنا، فلم استطع من المقعد الخلفي. واقترحت ان انتقل الى المقعد الأمامي فأجلس في مكان المرافق، لأشرح ما أرى أمامي. وهكذا كان، وتبادلت والمرافق المقعدين، وفوجئت الى يساري في المقعد الأمامي بوجود رشاش الى جانبي، رفضت تسليمه الى المرافق على اعتبار انني "قدّها وقدود". وهكذا، ومن رشاش الأمير خالد الى رشاش العماد أول مصطفى طلاس، فقد جلست في السيارة، في طريقي الى بيروت، وأنا انتظر من يجرؤ ان يسابقنا على الطريق أو يوقفنا على الحدود. إلا أن ربنا سلّم، فلم نتوقف، لأننا استخدمنا المرور العسكري، وانقذت أرواح عديدة من الموت الزؤام بيدي، أو على وجه الدقة باصبعي على الزناد. وصلت الى بيروت بعد الظهر، وحضرت مساء مع أصدقاء من سورية ولبنان ومصر حفلة مغني الأوبرا العظيم لوتشيانو بافاروتي بحضور 17 ألف متفرج. "الحياة" نشرت ما يكفي عن الغناء، فلا أزيد سوى انني تمتعت بالاستراحة. كنت جلست في الصف الثاني، وأمامي في الصف الأول كبار المسؤولين اللبنانيين، من حاليين وسابقين. ولم أتردد خلال الاستراحة عن محادثة "المتهمين"، من المسؤولين السابقين، فهم في الصحف هذه الأيام لأسباب لا يتمناها الواحد لعدو. بل انني عانقت بعضهم لاقتناعي بنزاهتهم قناعة كاملة، وهو ما لا استطيع قوله عن بافاروتي، فمصلحتا الضرائب الايطالية والانكليزية تطاردانه، وزوجته الأولى أدوا تطالبه بسبعين مليون جنيه بعد أن تركها ليتزوج سكرتيرته الشابة نيكوليتا. حضر الحفلة الرئيس السابق الياس الهراوي الذي بدا متعباً، ومعه السيدة منى الهراوي التي زاد شعوري نحوها منذ أصبحت السيدة الأولى سابقاً، فهي تستاهل. كما كان هناك رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، برشاقته المكتسبة بعد أن خسر من وزنه 25 كيلوغراماً، فلعل النائب نجاح واكيم يطلع علينا غداً بواحد من تصريحاته الهمايونية المعروفة، ويتهم رئيس الوزراء السابق بإخفاء "الأدلة". اما السيدة نازك الحريري فكانت في أحسن حالاتها، وهي صاحبة فكرة الحفلة الراقية، تابعتُ جهدها الكبير وراءها منذ السنة الماضية حتى جاءت بشكل يليق بالبلد وأهله. ووجدت بسرعة خلال الاستراحة ان شعوري بالقوة المستمد من الرشاش قد تبخر، فالحاضرون لم يعاملوني بأي شكل خاص والرشاش في طريق العودة الى دمشق، وكان بعضهم، في بحثه عن الناس المهمين ينظر عبري، ولا يراني، حتى بت واثقاً من أن هؤلاء الناس من المتسلقين اجتماعياً يتمتع بنظر "إكس راي"، تماماً مثل جرسونية المطاعم الذين ينظر الواحد منهم الى زبون يلوح بيديه كغريق ولا يراه. في غياب الرشاش، وقفت بين أجمل سيدتين في الحفلة، واحدة من دمشق، والأخرى من حلب ليس ذنبي ان أجمل الجميلات سوريات، وارتفعت مكانتي الاجتماعية بسرعة، فقد أقبل عليّ ناس لم أرهم منذ عشر سنوات، وقال "مرحباً"، ناس لم أسمعهم منذ 20 سنة. لم أطلب من السيدتين الشابتين شيئاً سوى ألا تنادياني بلقب "عمّو". وقلت انه إذا فعلت واحدة، فسأشهّر بها في الجريدة، وأزعم ان جمالها وراءه 25 عملية تجميل في ثلاث قارات. هما لم تفعلا، وخرجت من حفلة بافاروتي مودعاً بما لم استقبل به، وانتهى حوالى عشرين من الأصدقاء في ناد كان الغناء فيه عربياً لمسح آثار العدوان الثقافي، أو الأوبرا، عن جلودنا. أمضيت ربع قرن في لندن، وقد أمضي فيها ربع قرن آخر، ولا شكوى لي سوى أنها ليست بلدي، وأنني لست بين أهلي، وليلة واحدة في دمشق أو بيروت مع من أحب تعادل سنوات العمر الضائع في الغرب، فأردد مع الشاعر المهجري شفيق المعلوف قوله "أنا لو لم يغشَ عيني يأسي/ لم أفضل على الشروق الغيابا". نحن من بلاد تشرق فيها الشمس.