Djallal Malti. La Nouvelle Guerre d'Alge'rie. حرب الجزائر الثانية. La De'Couverte, Paris. 1999. 126 Pages. ما قرأت قط كتاباً او مقالاً عن الجزائر الا وفي نفسي توق عظيم الى ان "أفهم". فمنذ عام 1992 والجزائر تعيش حرباً لامفهومة كلفت حتى الآن ما لا يقل عن مئة الف قتيل. والأدهى من ذلك انها مرشحة، ربما لأنها "لامفهومة"، لأن تدوم الى ما لا نهاية. الكتاب الجديد الذي وضعه الصحافي الجزائري "المستقل" جلال ملطي، وكتبت مقدمته التحليلية/ التركيبية الصحافية الفرنسية المختصة بالملف الجزائري جوزيه غارسون، بدا لي، وأنا اطالع بشغف كل سطر من سطوره، وكأنه يقدم "المفتاح" المفقود: فهأنذا قد بدأت "أفهم" ما كان يبدو حتى الآن وكأنه الجنون بعينه. الجنون هو بكل تأكيد صفة الحرب الجزائرية الثانية، من حيث ضراوتها وكلفتها من الارواح البريئة، ولكنه ليس بحال من الاحوال علتها. فعلى صعيد الأسباب العميقة والحقيقية فإن "معقولية" هذه الحرب تامة، او تغدو كذلك بعد مطالعة هذا الكتاب. أول هذه الاسباب هو بلا جدال "اولوية الجيش". فأصحاب القرار في الجزائر هم حصراً، ومنذ نحو ما يقارب الأربعة عقود، قادة المؤسسة العسكرية. وأولوية الجيش هذه ليست بنت اليوم. ففي اثناء حرب التحرير نفسها كان الجيش قد غدا الشكل الوحيد لوجود الدولة، وغداة الاستقلال أمسى هو القيّم الأوحد على سلطة الدولة. ونظراً الى الشروط التاريخية التي تكوّن فيها الجيش الجزائري، وفي مقدمها شرط السرية، غدت المؤسسة العسكرية الجزائرية منذ البداية ذات طابع مغفل وعادم الشفافية. وكما في كل وضعية من انعدام الشفافية فإن الجهاز الامني يغدو هو الجهاز القائد للمؤسسة القائدة. وقد دفع اثنان من اشهر قادة الثورة الجزائرية حياتهما ثمناً لمحاولتهما اقتحام حاجز عدم الشفافية هذا: اولهما عبان رمضان، الموصوف بحق انه "الدماغ المفكر" لجبهة التحرير الجزائرية، الذي لقي مصرعه غيلة عام 1957، لأنه أراد منذ ذلك الوقت المبكر اعطاء الأولوية للسياسة على العسكر. وثانيهما محمد بوضياف الذي استقدمته المؤسسة العسكرية عام 1992 من منفاه المغربي وأجلسته على رأس سلطة الدولة، وهو في الثانية والسبعين من العمر، موكلة اليه مهمة اعادة بناء "الشرعية التاريخية" بعد ان تعرّت السلطة السياسية، ومعها المؤسسة العسكرية، من مشروعية صناديق الاقتراع في العملية الانتخابية التي علقت في مطلع عام 1992. ولكن لم تمض اسابيع على توليته حتى لقي مصرعه هو الآخر غيلة برصاص احد افراد حرسه، وبتوصية - في أرجح الظن - من نفس بارونات النظام الذين استقدموه، وذلك حالما تأكدوا من تصميمه على اعطاء الأولوية في عمله كرئيس للدولة لمكافحة الفساد ولضرب ما بات الجزائريون انفسهم يسمونه ب"المافيا السياسية - المالية" التي احكمت قبضتها على مقادير الدولة والمجتمع معاً في العقدين الاخيرين بصفة خاصة. وككل مؤسسة مغلقة على نفسها، فإن المؤسسة العسكرية الجزائرية - التي باتت تضم 140 جنرالاً مقابل أقل من عشرين قبل عشرين عاماً - تشهد صراعات داخلية بين الفئات والزمر والعصبيات التي تخترقها عمودياً وأفقياً. ولكن هذه الصراعات - مهما بلغ من ضراوتها - لا تتجاوز قط "الخط الاحمر" الذي هو سلامة المؤسسة نفسها واستمرار بقائها واستمرار تحكمها - من وراء ورقة توت مدنية - بالسلطة. وكل تجاوز لهذا الخط الاحمر قد يؤدي الى تصفية جسدية. وهذا ما حدث على سبيل المثال لقاصدي مرباح، الرئيس السابق لجهاز الأمن العسكري في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وأبو بكر بلقايد، الوزير السابق للداخلية "المنظّر الأيديولوجي" لإحدى فصائل النظام. وكما في كل مؤسسة سرية وطفيلية معاً، فإن المؤسسة العسكرية الحاكمة من وراء ستار بحاجة دائمة الى وجود اعداء، والى اختراعهم ان لم يوجدوا. فهم كالماء للسمك. ومن دون اعداء فإنها تفقد مبرر وجودها وأوكسجينه معاً. هذا "العدو" قدمه الاسلاميون للنظام على طبق من ذهب عندما اختاروا الخروج على شرعية الدولة رداً على تعليق العملية الانتخابية التي كادت تضمن لهم الفوز في كانون الثاني يناير 1992. ولكن عندما نتحدث عن "الاسلاميين" في الجزائر فلا بد من التزام قدر كبير من الحذر. فليست جميع عمليات العنف والارهاب التي تعزى الى الاسلاميين هي من صنع الاسلاميين فعلاً. ثم ان الاسلاميين الذين يحاربون اليوم النظام بالعنف المحض ليسوا هم نفس الاسلاميين الذين اتخذوا قرارهم بمحاربته في كانون الثاني 1992. فالجبهة الاسلامية للإنقاذ، منذ ظهورها الكبير على مسرح الاحداث اثناء التظاهرات الشعبية والمصادمات الدامية في تشرين الأول 1988، كانت منظمة سياسية غير متجانسة، وتضم حركات ايديولوجية متنافرة لا يجمع بينها سوى العداء للنظام الذي اثبتت احداث 1988 انه فقد شعبيته فقداناً تاماً منذ ذلك الحين. وبمعنى من المعاني فإن جبهة الانقاذ كانت في الواقع من افراز جبهة التحرير الوطني نفسها. فقد كان النظام اول من بادر الى "تسييس" الاسلام عندما اتخذه اداة للجم المعارضة اليسارية ولاسترداد مشروعيته المتآكلة. وقانون الأسرة الذي اقرته جبهة التحرير الوطني عام 1984 - وهو قانون معاد بشدة للمرأة وللحداثة - كان هو الحاضنة الحقيقية لجبهة الانقاذ. وفي السنوات الأولى كانت الغلبة داخل جبهة الانقاذ للتيار "الاصلاحي" الذي كان يؤمن بإمكان التحويل الاسلامي للدولة عن طريق استقطاب الجماهير الشعبية والطبقات الوسطى المحبطة، ضمن اطار المؤسسات القائمة ومشروعية صناديق الاقتراع. وهذا التيار هو الذي قاد الجبهة الى انتصارها الانتخابي الكبير في كانون الأول 1991. وقد كان هذا التيار يقبل عموماً بمبدأ الديموقراطية ضمن اطار دولة اسلامية حرصاً منه على عدم تنفير العناصر العلمانية في المجتمع الجزائري، وتحسباً في الوقت نفسه من هيمنة التيار الاسلامي الجذري المعارض لمبدأ الديموقراطية بالذات بوصفها "كفراً" والذي كان يتطرف في اخضاع السياسة للدين الى حد المطالبة ب"جمهورية فقهاء" تلغي سيادة الشعب - ولو النظرية - لتستبدلها بالحاكمية الالهية. وقد جاء قرار السلطات بتعليق العملية الانتخابية في كانون الثاني 1992 ليرجح كفة المتطرفين على المعتدلين داخل الجبهة وليعطيهم في نظر انصارها ظاهراً من حق في رفض الدخول في "اللعبة الديموقراطية" من أساسها. وقد سعت العناصر المعتدلة داخل الجبهة الى استرداد المواقع التي خسرتها من خلال توقيعها في زمن لاحق على "ميثاق روما" الصادر عن قوى المعارضة الجزائرية المجتمعة في العاصمة الايطالية في كانون الثاني 1995 والداعي الى "حل سياسي وسلمي للأزمة الجزائرية"، وبالتالي من خلال التزامها - مع سائر قوى المعارضة - باحترام مبدأ تداول السلطة وصون الحريات الفردية مقابل استئناف العملية الديموقراطية. ولكن الرفض القاطع من قبل السلطات الجزائرية لميثاق روما "جملة وتفصيلاً" جعل معسكر الاسلاميين ينقسم على نفسه من جديد، ومرة اخرى لصالح المعارضين لحل متفاوض عليه للصراع. وهكذا اندلعت ابتداء من عام 1995 موجة جديدة من العنف اخذت هذه المرة شكل مذابح جماعية ضد السكان المدنيين، ولا سيما في صيف 1997 الذي شهد ابادة قرى بكاملها على ايدي عصابات من المسلحين الذين لم يترددوا في ان يطلقوا على انفسهم صفة "الاسلاميين". وإزاء هذا التطور اللامسيطر عليه بادر الجيش الاسلامي للانقاذ، وهو الفرع المسلح من جبهة الانقاذ، الى اعلان "هدنة من طرف واحد" تمييزاً لنفسه عن العنف الأعمى للعصابات المسلحة ضد المدنيين. ومنذ ان "غسلت" جبهة الانقاذ يدها - رسمياً على الأقل - من النشاط الارهابي للجماعات المسلحة غدا العنف غاية لذاته. وهذا العنف، الذي لم تعد تعضده اية استراتيجية سياسية، هو ذاك الذي تمارسه اليوم الجماعات الاسلامية المسلحة، المنشق بعضها عن جبهة الانقاذ، والمتألف بعضها الآخر من جماعة "التكفير والهجرة" التي تضم، في من تضم، "أفغاناً" سابقين وشباناً من الجانحين ومن العاطلين عن العمل الذين يتحمل النظام مسؤولية مباشرة في تهميشهم، وأخيراً "اسلاميين شرعيين" دفعهم خوف الاعتقال والتعذيب الى الخروج على القانون. وقد غدا "الجهاد" شعاراً مقدساً للجماعات الاسلامية المسلحة وحرفة ومصدر رزق في آن معاً. ولكن رأس حربة جهادها امست موجهة، لا ضد رؤوس النظام وباروناته ممن لا وصول لها اليهم، بل ضد المدنيين والقرويين، كما ضد الصحافيين والمثقفين المتهمين بأنهم "اعداء الاسلام"، وأخيراً ضد النساء ممن يستباح اغتصابهن وقتلهن لأنهن "كافرات" لا يرتدين الحجاب. هل معنى هذا ان الجماعة الاسلامية المسلحة هي وحدها التي تحتكر اليوم في الساحة الجزائرية ممارسة العنف الارهابي؟ الواقع ان الكثرة النسبية لضحايا الاغتيالات في صفوف المثقفين والصحافيين، وبخاصة المعارضين منهم، تقطع بأن اجهزة السلطة نفسها تستفيد من جو الارهاب الذي خلقه الاسلاميون لتمارسه بدورها عند الحاجة. والثابت ايضاً انها قد لعبت دوراً في "تنظيم الفوضى" وبث رهاب الارهاب في اوساط المدنيين عن طريق ممارسة "ثقافة الاشاعة"، مدعومة - عند الضرورة - بالاغتيالات "الغامضة" وتفجير السيارات الملغومة وتسوية الحسابات بين الاجهزة المتنافسة. والشيء الأكيد ان ارهاب الاسلاميين غدا للنظام القمعي ولأجهزته الخفية بمثابة "ملح الوجود". فهذا الارهاب يقدم خير مبرر وسند للخيار الأمني. والخيار الأمني هو الخيار الوحيد الذي تقدر عليه الاجهزة الخفية. فكما ان العنف من طرف الجماعات المسلحة لم تعد له من غاية سوى ذاته، كذلك لم تعد للقمع من طرف السلطة من غاية اخرى سوى القمع. فهو السياسة البديلة لنظام بلا مشروع سياسي. وهو الوسيلة الوحيدة لإدامة وجود نظام فاقد لكل مشروعية. ومن هنا فإن الازمة التي تعصف بالمجتمع الجزائري منذ اكثر من سبع سنوات تبدو مرشحة لأن تطول الى غير ما نهاية... منظورة.