ليس في السودان صراع هويات، لا قومية ولا دينية، وان كان الكل يطرح ذلك، وان كانت حدثيات الصراع والعنف تشي بذلك، فالاشكالية هنا تتلبس بالهويات المفارقة، والتباس في فهمها. فحين تحتدم المنازعات القبلية بين الفور والمساليت والزغاوة ذات الأصول السودانية الغربية وثقافاتها المماثلة للارجاء المنبسطة من تشاد وما ورائها بوجه مجموعات القبائل العربية في منطقة دارفور سرعان ما تتلبس الهوية هذه الصراعات. كذلك الأمر حين تثور ثائرة النوبا ودينكا نجوك ودينكا ملوال في جنوب الوسط بوجه القبائل العربية التي تجاورها أو يطالب البجا في الشرق بالتعبير عن ذاتهم، ثم الجنوب بقبائله المتعددة، حرباً على هوية الشمال العربي المسلم، ودفاعاً عن الافريقانية. فتبدو الصراعات على الهوية وهي ليست كذلك. فكل هذه الصراعات ذات جذور إدارية واقتصادية واجتماعية تلبستها الهوية وقولبتها السياسة. فالجنوب بكل قبائله لا يشكل هوية افريقانية واحدة، فالجنوبيون يتوزعون اثنياً على ثلاث مجموعات هي النيليون والنيليون الحاميون والجنوبيون الغربيون. كذلك نوبا الغرب والفونج - والانقسنا - والفور وما يليهم من زغاوة ومساليت. الصراع مفتعل وله خلفياته الاستراتيجية والجيو - بوليتيكية بمعزل عن أوضاع الجنوب الذاتية، وهو صراع قادته النخب الجنوبية وزجت فيه قبائلها ثم فلسفته بعوامل ذاتية كصراع بين العروبة والزنجوة، والبسته مهددات الشمال للهوية الجنوبية، وهذه كلها مبررات لاحقة - ركبت على "نتائج" الثورة الجنوبية الأولى في 1955 وليس على "أسبابها". فإذا أتينا لتحليل هذه المفردات الخاصة بصراعات الهوية قياساً الى تعريفاتها ودلالاتها المصطلحية في العلوم الاجتماعية والانسانية المعاصرة نجد أن ما يسمى بالحالة القومية المميزة للجنوب في مقابل الشمال العربي - المسلم لا تستند الى أساس علمي. فالجنوب "قبائل" وليس "قوميات" وتدرس تكويناته العرقية والثقافية والدينية في اطار الدراسات "الانثروبولوجية" التي تهتم بأصول الأجناس وتطورها، مع التركيز على دراساتها عرقياً وكذلك عاداتها ومعتقداتها. وهي دراسات تفضي في اطارها الأوسع لما يعرّف ب Anthropologenis والانثروبولوجي Anthropology تفريع لها. فحركيات الجنوب القبلية لا تدرس في اطار التشكيلات القومية كما أن دياناته تدرس في اطار المعتقدات والعادات والتقاليد التي ترتبط بالطوطمية Totemic المجسدة لروح العشيرة ورمزيتها وتعلقها بأرواح الأجداد فالدين يبنى على قاعدة الانتماء القبلي، والصلة الخفية المنعقدة بين الجماعة والرمز المقدس الذي لا يباح للآخرين فهي ديانات احيائية Animistic. وحتى المفهوم القطعي للثقافة الذي يرتبط تحديداً بالاستيلاد Cultivate لا ينطبق على الهوية القبلية نظراً لسكونيتها فالثقافة ترتبط بالدينامية. لهذا لا تدرس هويات الجنوب من خلال المفهوم القومي أو الحضاري أو الديني وانما من خلال المفهوم الانثروبولوجي القبلي الاحيائي، فحين نعمد لمقارنة هذا التركيب بغيره فيجب مقارنته بما يماثله في بناء قبلي آخر، وهو أمر لا ينطبق حين التقارب والمماثلة على الشمال العربي المسلم الذي يقع ضمن مؤثرات الحضارة العربية الممتدة والمتفاعلة عبر أربعة آلاف عام والمتسعة لحوض الحضارات الشرق أوسطية، ولا ينطبق دينياً على الاسلام الذي يعلو على طوطمية العشيرة. فالمقابلة هنا بين هوية قبلية أو حضارية أو دينية جنوبية وصراعها مع هويات شمالية مماثلة تفتقر الى المنطق العلمي، وهي من توهمات "النخبة الجنوبية" الباحثة دوماً عن "أسباب" لا خلفية لها في واقعهم وانما تستنبت بتأثير مخططات العزل الاستراتيجي والجيو بوليتيكي. فالطوطمية لا تدخل في صراع مع الاسلام، ولا حتى مع المسيحية، فتلك ديانات عالمية متقاطعة رأسياً وأفقياً مع حضور عالمي متداخل، والقبلية لا تدخل في صراع مع القوميات لأنها دونها في مرحلة التكوين، أي القبلية فالموازنة هنا خاطئة. ولا يقع الخطأ على النخب القبلية الجنوبية وحدها ولكن على النخب الشمالية أيضاً التي لم تميز بين دلالات المصطلحات فأطلقت على كثبان الرمال مفهوم التلال، وأطلقت على التلال مفهوم الجبال. فكان هذا القول عن تعدد القوميات وصراع الهويات وتعدد الأديان. فليس في السودان سوى هوية واحدة تنطبق عليها مواصفات القومية وهي العروبة وما عداها فمكونات قبلية، وليس في السودان سوى ديانة واحدة تنطبق عليها مواصفات الدين عالمياً وهي الاسلام وما عداها تشكيلات من المعتقدات المرتبطة بنسيج من العادات والتقاليد الموقوفة على حالات عشائرية غير قابلة للتداخل مع الغير. أما وجود المسيحية في السودان بعد انهيار ممالك المقرة وعلوة ونوباتيا عام 1505 اقتصر على المهاجرين الأقباط من مصر بعد عام 1821 واعتناق النخب الجنوبية لها بتأثير الارساليات الجنوبية بعد عام 1930 وهذا وضع استثنائي. أحست النخبة الجنوبية بهذا الوضع حين بدأ تغيير الأسماء المعمودية بعد "اتفاق أديس أبابا"، ويكفي الآن تغيير ابن وليم دينق لاسمه الى نيال دينق. وغداً سيكتشف الجنوبيون الخلاف بين ثقافتهم الافريقية والتوجهات الكنسية وبما يماثل ما حدث لدى قبائل اليوربا في غرب افريقيا وفي اوغندا نفسها. إذن، حين تطرح هوية الجنوب فيجب الأخذ بعين الاعتبار عدم تضخيم الذات القبلية لتصعد الى مستوى الصراع القومي بين العروبة والزنجوة، وعدم تضخيم المعتقدات الطوطمية لتصعد الى مستوى الصراع الديني. كما أن على النخب الشمالية أن تدرك قبل طرحها لأي مشروع حضاري اسلامي عالمي ان هذا السودان موطن لنحو 570 قبيلة تتحدث 119 لهجة وأن التصنيف اللغوي والعرقي والثقافي يختصرها في 57 مجموعة تبعاً لتعداد 55/1956 ثم يختصرها في ثماني مجموعات فوق القبلية 39 في المئة عرب و20 في المئة نيليون و5 في المئة جنوبيون من متعددي الأصول و5 في المئة نوبا و5 في المئة نوبيون و5 في المئة بجا وأجناس سودانية غربية 13 في المئة وأجانب نازحون 7 في المئة، فلا تجعل النخب الشمالية ذات التوجهات العربية والاسلامية من أي مشروع قومي أو ديني مظلة احتواء للآخرين. فطبيعة السودان أن ننظر في تركيبته. فالتحدي الحضاري يكمن في استيعاب التنوع وليس استفزازه وتحميل الجزء العربي والاسلامي مسؤولية الكل، ودفع ثمن التحدي بمعزل عن الكل، محلياً واقليمياً وعالمياً. المشكلة الجنوبية مشكلة سياسية مستوعية في صراع استراتيجي وجيو - بوليتيكي منذ القرن الماضي غير أن أداتها في هذا القرن هي "النخبة" الجنوبية وردود الفعل السلبية للنخب الشمالية، واستقطاب الصراع لعوامل مستجدة منذ ثورة 1955 والثورات اللاحقة في 1962 و1968 وأخيراً 1983. فالنخب هي التي تستثير القبائل، وتخاطبها بغير لغة مخاطبتها للشمال وللعالم، اذ تخاطبها بمنطق "سيطرة الجلابة" ثم تخاطب الشمال بمنطق "المناطق المهمشة" وتخاطب العالم بمنطق الصراع العربي الاسلامي في مقابل الزنجوة والمسيحية، فمن من قبائل الدينكا قرأ مشروع مانفستو قرنق عن الدولة الوطنية العلمانية فالولاء لديهم للقبيلة وليس في مفهومهم حتى الوطن الجنوبي الموحد إلا بما يعني هيمنة الدينكا على القبائل الأخرى. وهذا هو السبب الرئيسي في فشل تجربة الحكم الاقليمي في الجنوب وفق اتفاق أديس أبابا حين فتت نميري الجنوب الى ست محافظات في 3/3/1976. ثم ان النخبة الجنوبية في عدائها للشمال، عروبة واسلاماً، لم تظهر انتماء لثقافتها الذاتية التي تقاتل باسمها إذا تبنت مفهوم التثليث الديني المسيحي الذي يخرج عن نطاق الطوطمية العشائرية، فهي اذ تطرح الدفاع عن الذات الافريقانية في مواجهة الشمال تضحى بهذه الذات في انتمائها الديني الجديد فتشن بذلك حرباً مزدوجة على الشمال، حرب الذات الافريقانية "بالأصالة" وحرب الغرب الأوروبي "بالاكتساب". فلا ندري في الشمال من نقاتل، جون الأوروبي أم قرنق الدينكاوي، أم هي حرب بالوكالة عن أوروبا ضد العروبة والاسلام؟ علماً ان عرب الشمال قدموا لحركات التحرير الوطنية الافريقية ما لم تقدمه النخبة الجنوبية وذلك دعماً لباتريس لومومبا قبل اغتياله في الكونغو في 13/2/1962، ودعماً لحركة الماوماو في كينيا بقيادة جوموكنياتا ثم ميثاق الدار البيضاء في 16/6/1962 وانشاء أول قيادة عسكرية عربية وافريقية موحدة مقرها "غانا" لدعم استقلال الدولة الافريقية. في كل هذا، أين مساهمات النخبة الجنوبية، ففي توقيت مؤتمر الدار البيضاء للدفاع عن القارة الافريقية أعلنت النخبة الجنوبية ثورتها الثانية. أما عن توزيع السلطة كهدف للنخبة الجنوبية - غير قرنق صاحب التوجهات الاستراتيجية والجيو - بوليتيكية المفارقة - فإن الشمال ارتضى بذلك من قبل في اتفاق أديس أبابا وأعطى النخبة الجنوبية حرية التصرف في ادارة الحكم الذاتي، غير أن النتيجة كانت في صراعات النخب الجنوبية بينها وبمعزل عن مفهوم الوطن الجنوبي إذ عادوا لاستثمار انتماءاتهم القبلية وهكذا يفعلون دائماً ما دفع بي لطرح الكنفديرالية قبل عامين ولا زلت مصراً عليها على رغم تبني دكتور قرنق لاحقاً لهذا الطرح، غير أن الفارق بين طرحي وطرح قرنق، يكمن في أنه يريدها قسمة مع الشمال ويلقي فيها على الشمال تبعات تنمية الجنوب، وأنا أريدها غير ذلك، أي ان تتحمل النخبة الجنوبية كامل مسؤوليتها تجاه قبائلها وأن تستعين في تعميرها للجنوب بعين أولئك الذين استعانت بهم في حربها ضد الشمال، ولنر وقتها كيف تفرز الأوراق. * مفكر سوداني.