السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خيار الوحدة الكونفيديرالية بين شمال السودان وجنوبه
نشر في الحياة يوم 26 - 05 - 1999

وقعت حكومة الانقاذ اتفاقاً للسلام مع بعض الفصائل الجنوبية بتاريخ 21 نيسان ابريل 1997 قضى باجراء استفتاء في الجنوب وتم النص على ان تكون خيارات الاستفتاء بين: 1- الوحدة، 2- الانفصال. والنص على خيارات الاستفتاء وليس على خيارين يعطي لكل من خيار الوحدة أو خيار الانفصال أشكالاً متعددة، اذ يمكن ان تكون خيارات الوحدة ولائية وفقاً للنظام الاتحادي المعمول به، أو فيديرالية بما يجدد اتفاقية أديس أبابا لعام 1972 أو كنفيديرالية تتيح للشمال كما للجنوب ممارسة اعلى حقوق دستورية في إطار واحد للسيادة الوطنية السودانية. فالكنفيديرالية هي شكل من أشكال الوحدة الدستورية في اطار السيادة الواحدة وليست المتعددة.
جرب الشماليون والجنوبيون كل انواع الوحدة وأشكالها، من المركزية منذ عام 1947 الى عام 1972 حين تم توقيع اتفاقية الحكم الذاتي الاقليمي، والى الولائية في عهد الإنقاذ، ولم تستطع كل هذه الأشكال وضع حد للتداخل وتشابك القرارات الذاتية التي ترضي طموح الشماليين او الجنوبيين، ولم يعد أمامنا سوى خيار وحدوي واحد هو الكنفيديرالية، من دون هيمنة الشمال بتوجهاته على الجنوب ومن دون ان يفعل الجنوب العكس تماماً، سلماً أو حرباً.
فكلنا هادفون لاستقرار الجنوب، وتطبيع علاقاته سلماً مع الشمال، غير ان هذا الاستقرار لم يتحقق بعد، ولم توضع نهاية للحروب شبه الدائمة والمتجددة، وهي حروب لا غالب فيها ولا مغلوب، وأهلكت الحرث والنسل. وتقع المسؤولية على حكومات الجميع منذ الحكم الذاتي في 1954 الى اليوم، وعلى حركات الجنوب منذ اول رصاصة أطلقها الملازم رينالدو في آب اغسطس 1955 الى اليوم.
ليست القضية ان نعدد خسائرنا وخسائرهم، او نتستر بمناوراتنا وشعاراتنا، كما يفعلون هم تماماً في المقابل. وانما تكمن القضية في تناولنا لموازين العلاقات بيننا وبينهم كشماليين وجنوبيين في المقام الأول. منطلقين من الاعتراف بخصوصية كل منا، وان العلاقات بيننا ومنذ 1874 هي علاقات استراتيجية محضة فرضتها مصالح الخديوية المصرية في عهد اسماعيل باشا في مياه النيل وبحيراته الاستوائية. فكانت علاقتنا بالجنوب ادارية وعلى فترات متقطعة منذ 1874 والى مؤتمر جوبا في 1947. ثم دستورية فرضها البريطانيون على الشمال، ولم تكن يوماً علاقة وطن واحد أو شعب واحد.
وحتى ما حققته حكومة الانقاذ من اتفاق السلام في نيسان 1997 انما هو سلام مع الأطراف الأضعف قبلياً في الجنوب قياساً الى قبيلة الدينكا التي تستند اليها حركة العقيد جون قرنق، أما الطرف الدينكاوي الوحيد الذي وقَّع الاتفاق فهو كاربينو كوانين لكنه سرعان ما نفض يده عنه.
فالفصائل التي وقَّعت الاتفاق تمثل قبائل النوير والشلك وقبائل الاستوائية القليلة العدد، فالأصل في التعاطي مع القوى الجنوبية هو الموازين القبلية، أما المسميات السياسية والبرامج فانها لا تعني شيئا ولا تُعَبِر عن القواعد القبلية ولا عن فكرها، مثال مسمى حركة تحرير شعب السودان، والمانفستو الصادر عام 1983 داعياً الى السودان الجديد العلماني الموحد. فالمسمى والبرنامج لا علاقة لهما بقبائل الدينكا وانما يجسدان طموحات الدكتور قرنق بالذات الذي يكيف صراعات الجنوب مع الشمال، وصراعات القبائل الجنوبية فيما بينها لتمرير مشاريعه السياسية الاستراتيجية والفكرية مع اضفاء طروحات معاصرة على الصراع تنزع عنه صفته القبلية والاقليمية.
وبهذا الأسلوب ايضاً يبرز قرنق تحالفاته الاثنية والقبلية مع المجموعات غير العربية في شمال السودان، فالمانفستو اذ يطرح مفهوم السودان الموحد والسودان الجديد فانه يستخدم تعبير المناطق المهمشة في أقصى شمال وغرب وشرق وجنوب وسط السودان ليطابق بين التهميش الاقتصادي والاجتماعي والوضع الجغرافي للاثنيات غير العربية التي يقصد بها الفور اقصى الغرب والبجا اقصى الشرق والنوبة اقصى الشمال والنوبا والانقسنا في جنوب السودان ووسطه. فتحت دعاوى السودان الجديد والسودان الموحد يحاول قرنق ببرنامجه السياسي المعاصر استقطاب هذه الاثنيات والقبليات الشمالية ليحاصر بها مركز الوسط العربي في الشمال، تماماً كما يوظف حداثة "المانفستو" ليموه على قاعدته الاثنية الدينكاوية في الجنوب. فبالقدر الذي يريد به الشماليون شمألة الجنوب يريد قرنق جنوبة الشمال.
اذ ذلك لم يمنع الاتفاق عليه استمرار الحرب في الجنوب، وأوجد في الوقت ذاته مواقع مؤثرة للفصائل الموقعة عليه في اطار مجلس التنسيق الجنوبي القابع في الشمال فانه حفز الكثير من أبناء الجنوب للنزوح باتجاه الشمال. ونملك من الاحصاءات ان نصف عدد هؤلاء في احزمة بشرية تحيط بالخرطوم وحدها على النحو الاتي: منطقة جبل اولياء 19 الف اسرة، معسكر السلام 11 الف اسرة، معسكر ود البشير 13 الف اسرة، معسكر مايو 13 ألف اسرة.
لا نريد بذلك التقليل من قيمة اتفاق نيسان 1997 حتى ولو اقتصرت نتائجه على تحييد القوى القبلية الموقعة عليه، غير انه لا يجب ان نتخذ منه قاعدة للسلم. فالقيادات الموقعة عليه غير قادرة على التأثير خارج نطاقاتها القبلية في الجنوب، ولا تملك التأثير على دول الجوار الاقليمي كيوغندا وكينيا والكونغو، ولا تملك اي تأثير على الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا. فالموقعون على الاتفاق هامشيون جنوبياً واقليمياً وعالمياً قياساً الى قوة حركة قرنق.
ان هذا الوضع يعيد كرة الجنوب كلها الى ملعب قرنق وقواعد الدينكا العريضة، فهو الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاهله ولا يمكن الاستمرار في مقاومته، فالشمال استنزف ما يكفي من دماء ابنائه وما يتجاوز طاقته من ثرواته. غير ان ذلك لا يعني الرضوخ لتوجهاته التي تستهدف فرض ارادته عبر الدينكا على قبائل الجنوب الاخرى، ثم بناء سودانه الموحد على أساس التحالف الاثني والقبلي بين الجنوب والمجموعات غير العربية في الشمال لحصار الوسط العربي الاسلامي تحت دعاوى المناطق المهمشة وبناء السودان العلماني الجديد.
فمشروع قرنق غير قابل للتحقق عملياً، فالشمال مهيأ لفصل الجنوب عوضاً عن فقدان هويته وهي هوية اكتسبها عبر قرون ولم يشاركه الجنوب في تفاعلاتها الحضارية والثقافية والدينية، فارتباط الجنوب بالشمال هو محض ارتباط اداري نتج عن التوسع المصري الجيو - بوليتيكي باتجاه منابع النيل في البحيرات الاستوائية منذ عام 1874، ولم يستمر الأمر طويلاً حتى قامت الثورة المهدوية في شمال السودان 1882-1898 فانقطع حتى ذلك الرابط الاداري بين الشمال والجنوب، ثم كانت مرحلة الحكم الثنائي للسودان بداية من عام 1898 حين قنن البريطانيون عزل الجنوب واغلاقه على الشمال مع بقاء الرابط الاداري الاستعماري فقط، واستمر هذا الحال الى مؤتمر جوبا في 12/6/1947 حين قرر البريطانيون الحاق الجنوب دستورياً بالشمال للمرة الأولى في التاريخ دون موجبات حضارية او ثقافية او اجتماعية دافعة لذلك، وانما بهدف استخدام عضوية الجنوبيين في مجالس الشمال الدستورية لاسقاط مشروع الحكم الذاتي بحجة عدم تكافؤ الجنوب مع الشمال مما يستلزم بقاء الاستعمار البريطاني مضموناً والمصري شكلاً. وهذا ما فعله الجنوبيون بعد مؤتمر جوبا وفي جلسة 6/3/1950 من بعد افتتاح الجمعية التشريعية في 15/12/1948. ثم عاود الجنوبيون وحلفاؤهم من قبائل الشمال الكرة في الدورة الثانية للجمعية التشريعية حين طرحوا مجدداً رفضهم للحكم الذاتي في كانون الاول ديسمبر 1950 اذ لم يفز اقتراح حزب الأمة للحكم الذاتي الا بصوت واحد 39-38.
أدت هذه العلاقة الى اصرار الجنوبيين على رفض الحكم الذاتي الى ان فرض الشماليون الحكم بداية عام 1954 ثم الاستقلال بداية عام 1956. بعد ذلك لم يعرف الشمال من الجنوب سوى الحروب المتدافعة والمستمرة، مرة بحجة عدم التكافؤ والتهميش وهو أمر تسأل عنه بريطانيا وليس الشمال، ومرة اخرى بحجة التمايز الديني والاثني عروبة ضد زنجوة والاسلام ضد مسيحية وديانات افريقية، ومرة اخرى بحجة وجود انظمة عسكرية ديكتاتورية، مع ان قرنق نفسه كان طرفاً في مباحثات اديس ابابا عام 1972 التي وقع فيها جوزيف لاغو اتفاق الحكم الذاتي الاقليمي للجنوب مع نظام جعفر نميري. وحتى حين يكون النظام ديموقراطياً تكون حجة الجنوب سيطرة الطائفتين الختمية - الميرغني والأنصار - المهدي على مقاليد الحكم، علماً ان قرنق وقع مع الميرغني في تشرين الثاني نوفمبر 1988 على اتفاق وينسق الآن مع الميرغني والمهدي في اطار تجمع أسمرا.
فثورات الجنوب غطت كل مراحل العلاقة الدستورية بين الشمال والجنوب 1954-1999 بعد ان كان معزولاً في حدود العلاقة الادارية 1874-1947. فالعلاقة علاقة دماء واستنزاف بشري في كل مراحلها تمرد الفرقة الاستوائية آب /اغسطس 1955 بقيادة الملازم رينالدو - ثورة الجنوب الثانية في شباط/ فبراير 1962 بقيادة الاتحاد الوطني لمناطق السودان الجنوبية المغلقة - سانو - وبزعامة وليم دينغ وجوزيف اودوهو وأجرى جادين والأب سترنينو لوهير واستمرت الى انعقاد مؤتمر "المائدة المستديرة" في الخرطوم عام 1965. ثم ثورة الجنوب الثالثة بقيادة جوزيف لاغو عام 1968 والى عام 1972 وتم عقد اتفاق اديس ابابا. ثم ثورة الجنوب الرابعة في عام 1983 بقيادة قرنق والمستمرة حتى الآن 1999. ففترات الحروب الدامية في الجنوب تتضمن الأعوام 1955 و1962-1965 و1968-1972 و1983 -1999 أي 27 عاماً. اما فترات الهدوء بين الفترات الدامية من 1955 والى 1999 فلم تتجاوز 17 عاماً ولم يشكل ذلك الهدوء المتقطع استقراراً قط. فعلاقة الجنوب الدستورية مع الشمال والبادنة بمؤتمر جوبا هي لعنة على الشمال صبها عليه مؤسس ذلك المؤتمر جيمس روبرتسون السكرتير الاداري البريطاني، وهي لعنة على الجنوب ايضاً، وها هي الأمور تتطور الآن وتتخذ شكلاً عقائدياً غير مبرر، فإذا كان الجنوبيون قد تصارخوا من قبل ضد عروبة الشمال وإسلامه فان حكومة الانقاذ ومنذ عام 1989 شرعنت لهذه الصرخات بطرحها لشعارات الجهاد وتجييشها لكتائب الفتح المبين والنصر المبين، فجعلت الحرب بين الشمال والجنوب وكأنها حرب ما بين دار الاسلام ودار الحرب، في حين ان الجنوب وفق المنطق الاسلامي لا دار فتح ولا دار عهد وانما الحق بنا ادارياً بإرادة مصرية ثم دستورياً بإرادة بريطانية، ثم تحول الجنوب بعد ذلك الى مستنقع استنزاف مادي وبشري أغرق شمال السودان في مديونية كارثية ببلايين الدولارات مما اجهض مشاريعه التنموية ولا يزال.
استحالة الانفصال
لا يستطيع الشمال ان يمضي في هذه الحرب المجنونة، والخيار الذي طرحه اتفاق السلام مع الفصائل الهشة بين الوحدة او الانفصال فقط الفصل السابع - 10 الاستفتاء - البند ج، لا يؤدي الى حل، فقرنق سيقاتل ضد الانفصال ولن يقبل بالوحدة الكاملة في ظل حكومة الانقاذ وهو يملك القوة المؤثرة. وباستمراره في معاركه لن يتحقق الاستقرار الذي يهيئ لاجراء الاستفتاء في الجنوب، فالاستفتاء نفسه سيكون مستحيلاً، كما ان الانفصال غير مرغوب به جنوبياً اذ سيحول الجنوب الى دولة مغلقة لا اهمية لها، كذلك فإن الانفصال غير مرغوب به اقليمياً على مستوى دول الجوار ولا عالمياً.
وكما ان الانفصال ليس لمصلحة الجنوب فانه ايضاً ليس لمصلحة الشمال، فهناك استثمارات مشتركة بين الجانبين اهمها قناة جونقلي والانتاج النفطي. فالاستثماران سيتوقفان بانفصال الجنوب، فمشروع قناة جونقلي سيرفد السودان ومصر معاً بحوالي 4 بلايين من الامتار المائية المكعبة، لكنه يحقق مصلحة تنموية للجنوب، فهذه القناة التي يبلغ طولها 360 كم ويتراوح عرضها ما بين 50 الى 80 متراً من شأنها تحويل مياه بحر الجبل وتجفيف المستنقعات حتى يمكن التأهيل الزراعي الحديث والتوطين لثلاثة ارباع المليون من قبائل الدينكا والشلك والنوير وبمساحة تبلغ قرابة ربع المليون فدان في البداية ثم تتسع لثلاثة ملايين فدان. وشاهدنا في ذلك تلك الرسالة عن قناة جونقلي التي حاز بها قرنق درجته العلمية من جامعة ايوا في الولايات المتحدة بتاريخ 1981.
كما ان انتاج النفط في حقول الجنوب ولاية الوحدة - بانتيو يفرض استثماراً مشتركاً بين الشمال والجنوب، فبقدر حاجة الاثنين معاً للانتاج النفطي الا ان الشمال يملك موانئ التصدير. وقطع الشمال شوطاً مع شركات متعددة الجنسية في اقامة منشآت استخراج النفط في بانتيو ومد أنابيب التصدير واقامة معامل التكرير. فهذا جهد يتطلب التنسيق المستقبلي لمصلحة الطرفين وبما يماثل مصالحهما المشتركة في قناة جونقلي.
أما الوحدة فإنها وهم وسراب، فاذا لم يستطع الشمال ان يحافظ حتى على الوشائج القوية التي كانت تجمع بين قبيلة المسيرية العربية ودينكا نجوك وان يستثمر تلك الصداقة العميقة بين زعيمي القبيلتين بابونمر ودينج في منطقة أبيسي فكيف له ان يبحث عن صيغ وحدة مع الجنوب علماً ان المرحوم سلطان دينكا نجوك كان يصف نفسه دائماً بأنه "الابرة والخيط التي تربط بين الشمال والجنوب". فالوحدة بين الشمال والجنوب ولو في اطار ولائي او فيديرالي او حكم اقليمي ذاتي ليست سوى حال من اللاسلم واللاحرب، وجربت هذه الحالات الوحدوية كلها من قبل وباءت بالفشل.
كما ان صراعات الجنوب القبلية الذاتية ستحول الى فترة طويلة من دون استقرار، ما لم يتوصل الجنوبيون انفسهم وفي اطار كونفيديراليتهم لحل مشاكلهم بأنفسهم. فالصراع ما بين قبائل دينكابور الرعوية والباري الزراعية سيظل قائماً في الاستوائية طالما ان أبقار الدينكا تقتحم مزارع الباري، وستبقى النزاعات طالما ان سرقة الأبقار ديدن لكثير من قبائل الجنوب، مثال ما بين التبوسا والدادبنقا في منطقة شرق الاستوائية، وما بين التبوسا و"اللاتاوكا، وما بين المورلي ودينكابور. ثم الصراعات المتجددة على مناطق الصيد وحقوق الصيد، وبالذات ما بين النوير والشلك.
الحل في الكونفيديرالية
والحل هو في الكونفيديرالية التي ستتيح للشمال والجنوب معاً وقف الاستنزاف البشري والمادي وتهيئ كلا منهما لاستكمال مقومات نموه والحفاظ على هويته مع استمرار التفاعل بينهما على نحو تعاهدي وتكاملي من دون ان يلقي احدهما بتبعات مشكلاته على الآخر، فتصبح الكونفيديرالية رابطاً لتبادل المصالح المشتركة في ضوء علاقات تفاضلية وتضامنية، ضمن سيادة وطنية واحدة. اما مسألة الحدود بين الشمال والجنوب فقد تم ترسيمها وفق ما كان قائماً عند اعلان الاستقلال في الأول من كانون الثاني يناير 1956، وهو أمر أقر اتفاق أديس ابابا للحكم الاقليمي الذاتي في عام 1972، الذي شارك فيه قرنق نفسه الى جانب جوزيف لاغو.
فليس لقرنق ولا لغيره بعد الكونفيديرالية والالتزام بالحدود طرح قضايا المناطق الاخرى في الشمال كالانقسنا وبيي والنوبا، ولا تناول اثنياته بتحريض عنصري ضد الوسط العربي الاسلامي بوصفها أطرافاً مهمشة، وليس له ولا لغيره ان يواصل هذه الحرب المجنونة.
قرنق والكونفيديرالية
أعلن قرنق في الاسبوع الاخير من شهر اذار مارس من العام الجاري موافقته على الكونفيديرالية، وهذا امر طالما دعوت اليه منذ سنوات، ووثقته في مؤلفي الصادر عام 1996 بعنوان السودان - المأزق التاريخي وآفاق المستقبل - ص 707 - الجزء الثاني. فاعلان قرنق يفتح الطريق فعلاً للحل الجذري والواقعي، ولا يمس بأوضاع السودان الشمالية ولا بهويته، بل يضع حداً لتجاوزات الايغاد نفسها التي مضت لأبعد مما ينبغي لها حين صاغت اعلان المبادئ لعام 1994 الذي وإن كان قد اعطى أولوية لخيار الوحدة بين الشمال والجنوب حين الاستفتاء الا انه ربط هذه الوحدة بفرض نظام سياسي علماني وليبرالي على الشمال، فلم تعد وساطة الايغاد قاصرة على حل المشكل الجنوبي بل تجاوزته لفرض خيارات على الشمال، وهذا أمر غير وارد في اطار المشروع الكنفديرالي فللشمال ان يقرر حيثيات هويته السياسية والحضارية بمعزل عن مبادئ الايغاد، وكذلك من دون ان يسحب الشمال مشاريعه الحضارية والسياسية على الجنوب الكونفيديرالي، لا بقوة السلاح ولا في مرحلة السلم. فأساس المشكلة اكبر من كل هذه التوهمات ولا حل سوى الكونفيديرالية.
قضى الشماليون والجنوبيون اعواماً وهم يراوحون بين حلول الوحدة او الحكم الذاتي، وجربوا المجابهات العسكرية والحوار، وجربوا الوحدة التي تدار مركزياً والوحدة التي تدار اقليمياً، وتناولوا الأمر في مراحلهم العسكرية والديموقراطية معاً، ومارسوا الحوار كثيرا على أمل تحقيق الوحدة بأي شكل. واتخذ الحوار طريقه بين النواب الشماليين والجنوبيين عام 55/1956 وأقروا الفديرالية بينهم، ثم عادوا وتجاهلوها، ثم في 1965 تم حوار الأحزاب كلها في الشمال والجنوب ضمن مؤتمر المائدة المستديرة وفشلوا. ثم حوار عبر مجلس الكنائس العالمي في عام 1968، ثم اتفاق أديس أبابا في 1972 الذي ألغي في 1977 ثم ها هي الانقاذ تسعى بين نيروبي ونيجيريا ثم نيروبي بلا طائل. ولم يعد من مخرج سوى الكونفيديرالية.
الاستفتاء الشعبي
علينا ان ندرك تماماً ان مصطلحات كاستفتاء وتقرير مصير لا معنى لآلياتها في واقع الجنوب الموضوعي اجتماعياً وثقافياً، فالقواعد هناك كما شرحنا قبلية التكوين وان تمظهرت بالحركات والمسميات السياسية والبرامج الوهمية. فالقرار في النهاية هو بيد النخب القائدة امثال قرنق وكاربينو كوانين ورياك مشار ولام اكول وتعبان قاي وابيل الير وجوزيف لاغو وصمويل ارو بوك وكواج مكوى كواج وثيوفلوس اوشانق وغيرهم فالفهم الصحيح لواقع الجنوب، كما المنطق ايضا، يفرض عقد مائدة مستديرة مع هؤلاء لمناقشة الكونفيديرالية وليس الوحدة المتوهمة مهما كانت صلاحياتها الولائية او الانفصال المستحيل. فحين قرر مؤتمر جوبا في عام 1947 الحاق الجنوب دستورياً بالشمال لم يلجأ المؤتمرون لصيغة الاستفتاء بل قرروا نيابة عن قبائلهم. وهذا ما يمكن حدوثه اليوم ومن دون ان نؤجل تسوية الأوضاع لاستفتاء بعد عامين لا يمكن ان تتوفر مقوماته كما شرحنا. الا ان يكون الأمر مقصوداً به اكساب نتائج الاستفتاء شرعية اقليمية ودولية.
الآن وبعد أن وافق قرنق على الكونفيديرالية، وهو يوم سعد للشمال والجنوب معاً للخروج من النفق ولمعالجة الخطأ التاريخي الذي دفعنا جميعاً إلى التهلكة، فعلينا الدفع بهذا الاتجاه، في الشمال كما في الجنوب، معارضة كنا أو حكومة، ففي سبيل المواطن والوطن يجب أن نتجاوز الرؤية الأحادية الضيقة.
نحن ندرك تماماً أن حكومة الانقاذ، وإن طرحت حق تقرير المصير في اتفاق السلام لعام 1997 مخيرة الجنوبيين بين الوحدة والانفصال، إلا أنها تسعى بكل قوتها، السياسية كما العسكرية، من أجل الوحدة ويتضح ذلك في توجهات ومواد المرسوم الدستوري الرابع عشر الخاص بتنفيذ اتفاق السلام والصادر بتاريخ 21/7/1997، إذ اعطى المرسوم الدستوري لولايات الجنوب العشر مجتمعة في إطار "مجلس تنسيق الولايات الجنوبية" كامل حقوق الحكم الاقليمي الذاتي مع ربط اختصاصات مجلس التنسيق في الفصل الخامس بالتعبئة السياسية لدعم السلام وبناء جسور الثقة والوحدة بين المواطنين وتقوية النظام الاتحادي في الولايات الجنوبية. وعلى المنوال نفسه نهج الدكتور رياك مشار رئيس مجلس التنسيق في خطابه للمجلس الوطني الذي أجاز المرسوم الدستوري، إذ أكد على أن "الوحدة الوطنية هي الركن الأساسي في الاتفاق وان الاستفتاء حول تقرير المصير استهدف تأكيدها"، وان اتفاق السلام هي تكملة دستورية بموجبها "يكون السودان قد وضع اللبنات الأساسية للدستور الشامل".
بظن حكومة الانقاذ وبظن رياك مشار ان الدستور الذي اجيز متضمناً اتفاق السلام هو نهاية المطاف بعد الاستفتاء الذي سيؤدي إلى الوحدة لا إلى الانفصال، وقتها يتحول "اتفاق" السلام إلى "نظام حكم" للجنوب بولاياته العشر التي سيجمعها المجلس التنسيقي نفسه في إطار النظام الاتحادي السوداني.
تراهن حكومة الانقاذ على هذا التطلع الوحدوي المتوهم وتسقط الكونفيديرالية من حسابها، فهي تراهن على المعطيات الآتية:
أولاً: تباشير تدفق النفط، مع أنه ولفترة طويلة لن يشكل عاملاً حاسماً في جذب الجنوب وحل مشاكل البلاد الاقتصادية. فالانتاج محدود حوالى 175 ألف برميل في اليوم وتكلفة الانتاج مرتفعة وهناك نصيب الشركاء من الشركات الممولة والمنفذة، علماً بتدني أسعار النفط عالمياً، وهناك مديونية السودان الخارجية البالغة بلايين الدولارات وعجز الخزانة داخلياً بحيث يتعذر صرف الرواتب وإكمال المشاريع تحت التأسيس وهناك استحقاقات عدة، فهكذا من بعد وعود وانتظار سيصاب الجميع بخيبة أمل.
ثانياً: المراهنة على الذين وقعوا اتفاق السلام من قبائل النوير والشلك وقبائل الاستوائية الذين تفرض خشيتهم من سيطرة الدينكا عليهم احتماءهم بوحدوية الخرطوم غير أن هذا لا يعني سوى أن تستمر الخرطوم في معاركها ضد الجيش الشعبي بقيادة قرنق لتأمين هذه الوحدة وباستنزاف للعنصر البشري الشمالي فقط في حين تبقى تلك القبائل محايدة تماماً وفي حال سلام مع القبائل الجنوبية الأخرى في ضوء ما يسعى اليه السيد رياك مشار في مفاوضاته القبلية الراهنة داخل الجنوب.
ثالثا: المراهنة على رفض الانفصال، جنوبياً واقليمياً ودولياً لما يثيره الانفصال من مشاكل في القارة الافريقية من جهة ولما يؤدي اليه من انشاء دولة جنوبية مغلقة تماماً. غير أن المراهنة على رفض الانفصال لا يعني ان تكون الوحدة المتوهمة بديلاً طالما تم طرح الكونفيديرالية من الفصيل الرئيسي ووجدت تجاوباً اقليمياً ودولياً.
رابعاً: المراهنة على الحروب الاقليمية في إضعاف حركة قرنق، وبالذات ما يدور في البحيرات العظمى بين يوغندا والكونغو، وما يدور بين اريتريا واثيوبيا، غير أن ذلك لا يعني نهاية حركة قرنق فها هي تشدد هجماتها في أولو والنيل الأزرق منتصف نيسان الماضي رغماً عن كل ذلك، ومرّت حركة قرنق بأوضاع اسوأ من هذه حين أسهمت دول الجوار نفسها في محاصرتها 90/1991 ومع ذلك نهضت مجدداً. علماً بأن حكومة السودان لم تتوصل بعد لحل مشاكلها الناتجة عن حرب الخليج الثانية - وليس عن خيارها الاسلامي - مع بعض الدول العربية والعالمية.
خامساً: ثم هناك المراهنة الجهادية لحكومة الانقاذ التي جيّشت الشباب بشعارات اسلامية في مسألة لا علاقة لها بالاسلام منذ بداية حرب الجنوب في عام 1955 ثم 1962 ثم 1968 ثم 1983 فأصبحت الانقاذ أسيرة الشعارات غير الموضوعية التي اطلقتها. فالأمر هنا يحتاج لشجاعة المراجعة والتراجع، فالمشروع الوحدوي ساقط بالضرورة، مركزياً كان أو ولائياً أو فيديرالياً، كذلك المشروع الانفصالي ولا يتبقى سوى المشروع الكونفيديرالي الذي يتسق مع مشكلة الجنوب.
* كاتب وسياسي سوداني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.