هي سابقة من دون شك! وسيسطر التاريخ أن المناقشات ولدت من رحم الشعب فعلياً وليس قسرياً! فمنذ بزوغ عصر الفضائيات، جرى العرف أن يكون الجدال الدائر حول القنوات الخاصة، أو غير الخاضعة لمقص الرقيب، آتياً من أعلى وضاغطاً على أسفل، أو بمعنى آخر اعتاد الجميع أن تفرض عليهم نقاشات محتدمة أشبه بالأمطار الاصطناعية التي اعتاد النظام أن يسقطها في محاولات لإقناع الرأي العام بأنها طبيعية. على مدى سنوات، ظل التلفزيون الرسمي يدور في فلك النظرية التي حاول النظام جاهداً أن يروج لها: الفضائيات الخاصة من الموبقات، وليس هناك أفضل من الإعلام الرسمي، فهو الوحيد الذي لا يحمل في جعبته أجندات أو أغراضاً شخصية، وليست لديه غايات سوى المصلحة العامة. وظل الإعلام يعيد تدوير نظرية الإعلام الشرير الخاص والطيب الرسمي. ونجحت نظرية «التكرار يعلم الشطار» في إقناع قلة قليلة جداً من المشاهدين بالشر الآثم الآتي من القنوات غير الرسمية، إلا أن الغالبية كانت على يقين بأن النظرية ليست سوى هراء. لكن سبحان مغير الأحوال! فبعد خفوت محاولات تنويم المواطن مغناطيسياً، والتقليل من حجم الجهود المبذولة لإقناعه، تارة بالترغيب وتارات بالترهيب، بخبث نوايا الإعلام الخاص أو غير التابع للدولة، بدت جلياً قدرة المواطن نفسه على الحكم على ما يقدم له عبر الشاشة. وليس أدل على ذلك من الجدال المحتدم هذه الأيام حول ما يقدمه الإعلام بعد ثورة 25 يناير. وعلى عكس التوقعات التي تنبأت بتشجيع المواطن وتهليله للجرعات المقدمة له عبر قنوات خاصة كسرت قيود مداهنة النظام ولم تعد تتحسس طريقها جيداً حتى لا تقطع شعرة «معاوية» مع القيادات والرموز الرسمية، ظهر تيار شعبي قوي يندد بما سماه «الانفلات الإعلامي». رد الفعل الشعبي المصري على قرار إغلاق مكاتب «الجزيرة مباشر مصر» «لعدم قانونية وضعها» – على حد قول وزير الإعلام المصري أسامة هيكل – عكس قدرة المواطن العادي على التفكير لنفسه من دون الحاجة إلى مقويات رسمية ومساعدات خارجية. وهكذا انقسمت الآراء بين مؤيد لقرار «حكيم» على أساس أن أي دولة، بما فيها قطر، لن تسمح لقناة لم تحصل على التصاريح اللازمة بالبث من أراضيها، أو استناداً إلى ما وصفه أنصار هذا الرأي بأنه «محاولات دؤوبة من القناة لتقويض وحدة الوطن». تيار آخر وجد في قرار الإغلاق استمراراً لسياسات النظام السابق، وإصراراً على التدخل في المحتوى الإعلامي. واللافت ظهور أصوات بين التيار الرافض للإغلاق ترى في محتوى القناة شبهة محاولات لتفتيت وحدة المصريين، لكنها في الوقت ذاته تعارض تكبيل الحريات. الجدال حول الإعلام لا يقف عند حدود إغلاق قناة، لكنه يمتد إلى القنوات الأخرى التي تتنافس في ما بينها على بلوغ أقصى درجات السخونة، سواء بغرض جذب المشاهد أو لأغراض أخرى لا تخفى على أحد. ما يهم هو أن المشاهد المصري بات قادراً على الاختيار.