لم تصنع رواية "لوليتا" شهرة فلاديمير نابوكوف ولا صورته روائياً طليعيّا فحسب، بل صنعت من البطلة المراهقة "لوليتا" شخصية ساحرة ما برحت تمارس فتنتها على قراء الرواية جيلاً تلو جيل. وفي الذكرى المئوية للكاتب الروسي - الأميركي التي تحتفي بها واشنطن وموسكو، تحضر رواية "لوليتا" بشدّة، كما لو أن الأعوام الطويلة التي مرّت على صدورها لم تخفّف من سحرها ووهجها. ولعلّ الفتاة المراهقة التي بهرت "العاشق" الفرنسي وملايين القراء أيضاً ما زالت في مقتبل نضارتها وكأنّها تحيا خارج الزمن. ومن يقرأ الرواية مرّة أخرى بعد قراءة أولى وربما ثانية يلمّ أكثر فأكثر بما يمكن أن يُسمّى "أسرارها" وهي أسرار البطلة - الطفلة، أوّلاً، وأسرار عاشقها الذي يُدعى "همبير همبير"، الذي شاءه الكاتب مزدوج الإسم ليدل بوضوح على ازدواج شخصيته، فهو حين يقتل في الختام غريمه الذي اختطف طفلته الساحرة انما يقتل قرينه بل صورة وعيه بما اقترف من آثام. إلا أنّ شخصية "لوليتا" لا تنفصل عن شخصية عاشقها، المثقف الفرنسي المهاجر أو المقتلع: فهي تنمو من خلال عينيه حتى وإن بدا يسترجعها من ذاكرته. والعلاقة التي جمعته بها أصلاً تخطّتها كفتاة لتمسي أقرب الى العلاقة بظلّ أو بطيف أو بصورة. فلوليتا كانت مزيجاً من طفلة وحورية، من ملاك وشيطان. في جسدها الواحد المتعدّد في الحين عينه، جمعت بين البراءة والشهوة. ولم يكن عاشقها يتوانى عن وصف جسدها ب"الجسد" المرسوم على طريقة "أجساد" عصر النهضة. ولم يتوان أيضاً عن تشبيهها ب"لور" حبيبة الشاعر بترارك أو ب"أنابيل لي" التي حملتها إحدى قصائد إدغار ألن بو العشقية عنواناً لها. ولم تكن "لوليتا" أصلاً غريبة عن فتاة بو فإسمها الحقيقي "دولورس لي" والشاطىء الذي اكتشفها العاشق الفرنسي عليه ذات يوم هو كالشاطىء الذي عاشت عليه حبيبة الأميركي. إلا أن نابوكوف وظّف في روايته هذه كلّ ما قرأ واختبر في وطنه الأم وفي منافيه الطويلة، وبدت الرواية فعلاً سليلة الأدب الروسي العظيم والأدب الفرنسي الجديد والأدب الأميركي الحديث. ولعلّ حياة التنقل أو التشرّد التي عاشها البطل والبطلة في المدن والمناطق الأميركية كانت فاتحة أدب التنقل أو أدب الطريق الذي تجلّى لاحقاً في أعمال بعض الروائيين الجدد في أميركا وأوروبا ومنهم خصوصاً بيتر هاندكه. كتب الكثير عن رواية "لوليتا"، وخصوصاً حين مُنعت في أميركا. ولم تصدر طبعتها الأميركية إلا بعد ثلاث سنوات على طبعتها الأولى التي تبنّتها باريس عام 1955. ولكن لم يطل الوقت كثيراً حتى بدأ نابوكوف يُسمّى في أميركا ب"المعلّم"، من جراء صنيعة الروائي في "لوليتا" طبعاً وهي الرواية التي أنقذته من حياته المهنية وجعلته يتفرّغ للكتابة في مدينة "مونترو" السويسرية وكانت ملجأ المهاجرين الروس منذ القرن التاسع عشر. ولم تُمنع "لوليتا" في أميركا إلا تبعاً لما أثارت من فضائح في مجتمع كان لا يزال محافظاًَ في بعض مظاهره. كان من الصعب حينذاك أن يُمس مثال الفتاة المراهقة وأن تٌرسم عنها صورة مخالفة للصورة الجاهزة "المعممة". غير أنّ "العاشق" في الرواية لم يفتتن ب"لوليتا" إلا لأنها أعادت اليه صورة حبّه الأوّل والمأسوي أوّلاً ولأنها كفتاة مراهقة تمثل في نظره ولا وعيه "جزيرة الزمن المتوقّف" كما يعبّر. فالجمال المراهق هو رمز الجمال القادر على تخطّي الزمن وعلى مواجهته. والراوي أو البطل - العاشق لم يمعن في حبّ فتاته إلا صوناً لجمالها أو لنقائها كما يقول. ويصفها ب"الظلّ الفوتوغرافي المتموّج على ثنايا الشاشة" فيما يصف نفسه ب"الأحدب الحقير الذي يهتك جسده في ظلمة الصالة". ولم تكن "لوليتا" جسداً من لحم ودم وشهوات إلا مقدار ما كانت طيفاً ملتمعاً كالسراب في مخيّلة عاشقها وفي ذاكرته. فهو - أي البطل - لم يكتب قصّة "لوليتا" إلا في السجن الذي دخله بعد قتله غريمه الذي خطف فتاته، ولم يكتب قصّة تلك العلاقة الجحيمية والنعيمية أيضاً إلا عبر كتابة مذكّراته. فالرواية هي أقرب ما تكون الى فنّ الرواية داخل الرواية. وفي عتمة السجن يكتب العاشق مخاطباً حبيبته: "آه يا لوليتا، انهم لا يدعونني ألهو إلاّ مع الكلمات". ولعلّها الكتابة أعادت اليه "لوليتا" أو كما يسمّيها "ضوء حياته ونار حقويه". أعادت الكتابة اليه في السجن تلك "النداوة" القديمة وذلك "الألم العميق"، كما يقول، وهو لم يدركهما إلا عبر حبّه الأوّل الذي استطاعت "لوليتا" أن تحييه في قلبه.