إستيقظت في الثامنة صباحاً، فوجدت ورقة على طاولة الكتابة في غرفة الجلوس، جاء فيها: «عزيزي علي أرجو ألا تتصل بجانيت اليوم. سأتلفن إليك بعدئذ. مع حبي (...) هي لديها مفتاح شقتي، وتسكن في العمارة نفسها. وأنا خوّلتها أن تدخل شقتي بلا إذن، لتتفقد وضعي، بسبب تقدمي في السن. وكانت تترك لي ورقة عندما أكون نائماً، أو خارج البيت. لكنها اليوم كتبت «مع حبي»، للمرة الأولى. كان هناك حب بيننا، ثم أصبح وداً على مر السنين. أما اليوم فقد أسعدتني كثيراً كلمة «مع حبي»، التي كانت تبخل بها عليّ. يا إلهي، ما أحب ذلك. وشعرت أنني سأكون سعيداً جداً هذا اليوم. فأنا إنما أحيا حياة جديدة بالحب. الحب عندي هو مبرر حياتي، وله موقع الصدارة في نفسي. وأنا كتبت خمس أو ست روايات، يدخل الحب فيها كعنصر أساسي... الحب بشتى صوره، الحب الثنائي، والحب المثلث، وحتى المربع، وحب أو عشق إبنة لأبيها... وأنا، كأي قارئ، أتجاوب كثيراً مع علاقات الحب في الأعمال القصصية والروائية، مثل الحب بين دارسي وإليزابيث في رواية «كبرياء وهوى» لجين أوستن، والحب بين جوليان سوريل وماتيلد دي لا مول في رواية «الأحمر والأسود» لستندال، والحب بين فرونسكي وآنا كارانينا... إلخ. ومن بين بطلات هذه الروايات أعجبتني ماتيلد كثيراً، وقد أشرت الى ذلك بشيء من الإسهاب في روايتي «أحاديث يوم الأحد». وأنا أبقى «عاشقاً» لماتيلد. فأحياناً يكون للشخصية الروائية تأثير قد لا يقل عن الشخصيات الواقعية. وماتيلد تبقى «حبيبتي» الأولى، على رغم أنني أحببت غير مرة نساء من دنيا الواقع، وكان حبي كبيراً في بعض هذه الحالات... لكن قصة «رسالة من إمرأة مجهولة» لستيفان تسفايغ يبقى لها وقع خاص في نفسي. وقد كتبت عنها كلمة في «الحياة». وكنت أتمنى لو أنني أستطيع أن أكتب عملاً قصصياً أو روائياً على غرارها. وأعترف بأنني تسلمت يوماً ما رسالة من مُحبّة تركتني معذباً. هذه الرسالة فيها نَفَس مأسوي. ففكرت في كتابة رواية قصيرة بعنوان «رسالة من إمرأة ليست مجهولة». وكتبتها. كان ذلك في أوائل عام 2006. وأرسلتها للطبع. لكنني سحبتها من دار النشر بعد تنضيدها، لسببين: أولهما أن فيها الكثير من الخصوصيات، والثاني أنني لم أكن مقتنعاً تماماً بجمالية النص، وقررت إلغاءها بسبب خصوصيتها، أو مكشوفيتها، في المقام الأول. وكتبت بعد ذلك غير رواية، كان للحب دور مركزي فيها كلها، كما قلت. بعضها كتبت فصولاً منها وأنا أبكي (هذا يحصل عندما يتقدم بك العمر). لكنني بقيت اشعر أنني لم أكتب الشيء الذي يلبي رغبتي على النحو الأكمل بشأن الحب. أريد أن اكتب عن العذاب القاتل في الحب. وهذا لم أعالجه بالشكل الذي أريده في كتاباتي الروائية، ولم أعشه في تجاربي مع الحب. عشت عذاباً، أو عذابات، هينة، لم تدم طويلاً. أريد أن أكتب عن عذاب مدمر في الحب. فعدت الى «رسالة من إمرأة ليست مجهولة» لأكتبها من جديد. كان إسم بطلتها ناديا، فخطر في ذهني أن أسمّيها تمارا، لأن هذا الإسم أحب إليّ من بين كل أسماء الإناث. هذا الإسم وحده سيضفي على بطلتي هالة من السحر! هذا ما يتراءى لي. وبطلتي، التي اخترتها لأكتوبتي، أو قصتي المهملة «رسالة من إمرأة ليست مجهولة»، فاتنة جداً في جمالها، وأنا إستوحيتها من الواقع. أنا لا أحب الاعتماد على المخيلة في الكتابة عن بطلات رواياتي وأبطالها. هناك الكثير من الواقع فيها، لكن بتصرف طبعاً. يسعدني جداً أن تكون شخصية البطلة في روايتي مستوحاة من الواقع. لكنني لم ألتزم بذلك تماماً في كل كتاباتي الروائية. وتمارا، طبعاً، ليس الإسم الحقيقي للبطلة التي اخترتها لعملي البديل ل «رسالة من إمرأة ليست مجهولة»، مثلما كانت ناديا. إسمها الحقيقي جميل جداً في موسيقيته. لكنه لا يصح أن يُعتمد في الكتابة. لذلك اخترت إسم تمارا الذي أفضله على كل الأسماء، وجعلته عنوان قصتي، أو روايتي، التي انتهيت من كتابتها في 15\1\2012، وسيقع هذا النص في زهاء مئتي صفحة أو أكثر. لكنني أود التوقف عند إسم تمارا الذي وقعت عليه في سياق اهتماماتي اللغوية والتأريخية. وعندما تعرفت الى سيدة عراقية (من عليّة القوم) إسمها تمارا، ودار بيني وبينها حوار حول أصل إسمها. وهي قالت إنه روسي، وأنا قلت إنه مستعمل في روسيا وربما في البلدان القفقاسية أيضاً، لكنه ليس روسياً، بل هو سامي، ويعني في اللغات السامية نخلة. وفي العربية جاءت من إسم (تمارا) كلمة التمر. أعود الى عملي الروائي الجديد الذي اخترت له عنوان «تمارا»، وأعتبره أحب أعمالي الروائية إلي، وأملك أن أقول إنه سيكون من بين أجمل الكتابات عن الحب وأكثرها اهتماماً في معالجة موضوع العذاب في الحب. ولا أرى بأساً في نقل «المدخل» الى هذا العمل الروائي، وهو مدخل ليس إلا، أي أنه ليس من جسد الرواية: «كنت قد فقدت أملي في النضال من أجل مستقبل أفضل لوطني وأمّتي. كان ذلك عندما بدا لي أن الآمال، أو «السرديات» الكبرى التي تبشر بها الشعارات الاشتراكية لم تأتِ أُكلها. أنا لم أقتنع بسحر شعار «يا عمال العالم اتحدوا»، حتى في عز إيماني بالأفكار الاشتراكية. لكنني كنت معجباً بحكايات أخرى بدت لي ساحرة، مثل «عشرة أيام هزت العالم»، ومثل أفلام سيرغي آيزنشتاين. لكن الاشتراكية شاخت قبل أن تحقق حلمها، والرأسمالية فيها آثام وعيوب كثيرة على رغم كل قوتها وصمودها، والحياة فيها شروخ كبيرة، ولا تدل الدلائل على أنها ستنصلح. فكنت أواصل حياتي بحكم الاستمرارية، وبأمل أن أمارس أُلهيات في الأدب والفن تحقق لي سلواناً. لكنها لم تنقذني من ضياعي... ثم التقيت بتمارا، أجمل النساء على الإطلاق، فوجدت ملاذي فيها. (كل جميلة بامتياز هي أجمل إمرأة في الوجود، وليس بالضرورة أن تكون زرقاء العينين مثل البسوس). كانت تمارا سرديتي الكبرى. وعجيب كيف أن الجمال من شأنه أن يحقق الآمال. ألم يقولوا إن الجمال أعظم قوة على وجه الأرض؟». كتبت النص الجديد أكثر من مرة. كنت أطمح الى أن يبلغ مستوى الكمال، ويحقق ما أريده في ما يمكن ان يأتي معبراً عن العذابات التي يواجهها المحبان في الرواية بعد دخول الشخص الثالث. إنه حكاية عن مثلث الحب. في الصيغة الأولى كان هناك مثلث من المحب، والمحبة، والزوجة. وقد كتبتها في صيغة الغائب، في محاولة لتحاشي مكشوفيتها. لكن ذلك لم يؤد الغرض. ومن ثم رأيت أن أكتبها في صيغة المتكلم، بطل الرواية. البطل متزوج من إمرأة (هي الزوجة)، ليس من طريق الحب، كأي زيجة في العراق، أو العالم العربي. ثم يلتقي بتمارا (في الغربة)، وينشأ بينهما حب ليس كأي حب تقريباً. وتبقى الزوجة عنصر تنغيص، على رغم أنها مغبونة. ثم تنتصر في النهاية وتزيح تمارا من المسرح، ويواصل الزوج حياة بليدة وكئيبة مع الزوجة، بعد أن تضطر حبيبته تمارا الى مغادرة بيته في أوروبا، والالتحاق بشقيقها في أميركا. ولاعتبارات اجتماعية كنت ألمح الى أن البطل هيثم، والبطلة تمارا، ينويان الزواج بعد ان ينفصل عن زوجته. لكن البطل يجد نفسه ضعيفاً أمام زوجته، ويرضخ للعيش معها، ويندب حبه لتمارا التي غدرها. لم تعجبني هذه الصيغة، فألغيتها بالكامل تقريباً، ثم كتبت صيغتها الثانية. وهنا دخلت في مرحلة تجريبية، كتبت فيها ثلاث أو أربع صيغ للنهاية. في الصيغة الأولى للرواية عانت الزوجة أولاً من العذاب، لكنها انتصرت في النهاية بورقة زوجها. وأصبح العذاب من نصيب المُحبّة تمارا والزوج. في مثلث الحب هناك دائماً إثنان سعيدان وثالث مغبون. لكن انتصار الزوجة هنا عكس الآية، فأصبحت هي سعيدة، وأصبح المحبان بائسين أو مغبونين. هذه الصيغة لم ترق لي. إنها صيغة غُبنَ فيها الحب. فألغيتها، وفكرت في صيغة ينتصر فيها الحب، لكن ليس بالطريقة شبه التقليدية، حيث ينفصل الزوج عن الزوجة، ثم تلتحق به مُحبته. هذا السيناريو لا يختلف عن النهايات السعيدة التي ترتاح إليها القارئات المراهقات. فماذا فعلت؟ أخّرت انفصال الزوج عن زوجته لمدة سنة تقريباً، في أثنائها يقاطع الزوج زوجته، فيعيشان كغريبين في بيت واحد (هما الآن في أوروبا بعد أن التحقت به زوجته). ثم فجأة يباغت الزوج زوجته بمشروع الطلاق بعد أن يقدم له بديباجة طويلة يستعرض فيها حياته معها، ويواجهها بواقع أن حياتهما كانت بلا حب، فلا معنى لاستمرارها. وهو قرر العودة الى تمارا التي يجمع الحب بينه وبينها. وتنتهي علاقته بزوجته. ثم يتصل بتمارا التي كانت قد انتقلت الى فلوريدا. هنا تدخل القصة في مفترق جديد، حيث يفاجأ البطل بالتحاق تمارا بشريك حياة جديد، وذلك بعد أن يتصل بها. كانت هذه المرحلة من القصة مدخلاً الى مأساة حب مركبة ومعقدة جديدة. سنواجه فيها ثالوثاً جديداً، وحالة سيكولوجية معقدة، أنا تفننت في تعقيدها، لأدخل في مرحلة من العذاب المدمر بالنسبة الى البطل هيثم البغدادي في الدرجة الأولى، والى تمارا في الدرجة الثانية. أما الشريك الجديد، البروفسور الأميركي، الشاب نسبياً (أصغر عمراً من هيثم) فسيصبح عقدة الرواية من دون أن تكون له يد مباشرة في ذلك. وتمارا تقع في حب هذا الشريك الجديد، أندرو كلارك البروفسور في علوم الأديان، الذي يأسرها بنبله، وطيبته الهائلة، وسماحته، ووسامته، فيستحوذ على قلب تمارا وعقلها بالكامل، ويصبح معبودها، بعدما خرجت من بيت هيثم كالمطرودة. لكن القصة لن تنتهي عند هذا الحد. فهيثم، حبيب تمارا على مدى خمسة عشر عاماً، يعود إليها بعد أن كان وعدها بهذه العودة فور انفصاله عن زوجته. فهي خانته، إذن، في التحاقها مع شريك حياة جديد. لكنها الآن متعلقة أيضاً بحبيبها الجديد، أندرو الملاك. فأي مطب هذا؟ تمارا لم تتخل عن حبها لهيثم، لكن أندرو سيطر على كل مشاعرها، بعد أن أقالها من عثرتها، وأنقذها من ضياعها، وغمرها بحبه المسيحي الهائل (إنه يتحرك في كل تصرفاته من منطلق مسيحي). وتمارا أصبحت سعيدة جداً معه قبل ظهور هيثم فجأة على المسرح. لكن مسيحية أندرو ستضعها أمام موقف صعب، لأنه لن يرضى لنفسه بأن يكون شريك حياة لتمارا بعدما كانت شريكة حياة هيثم الذي عاد إليها. هنا وجدتني، أنا ككاتب، أمام مفترق طرق. وأصبح أمامي أكثر من سيناريو لعلاج هذه العقدة. وستصبح تمارا هي العقدة الآن بعد أن «يخذلها» معبودها أندرو بمبادئه المسيحية الصارمة (بالمناسبة، تمارا نصف مسيحية: أمها أميركية، وأبوها عسكري عراقي متقدم جداً في رتبته العسكرية)، ويصر على مقاطعتها مقاطعة صارمة انتصاراً لحبيبها الأول هيثم، فينشأ وضع معقد جداً، لأن تمارا لا تتراجع عن حبها لشريكها الجديد أندرو، وأندرو لا يتراجع عن مقاطعة تمارا. إنه – أندرو – ضلع ثالث في مثلث الحب المستجد هذا، غريب في طبيعته. محب لكن وفق فلسفته المسيحية التي لا تجعله غريماً للضلع الثاني، هيثم، بل نصيراً له. وهذا لا يحدث إلا في حالات أو حالة نادرة جداً، هي تمسك أندرو بمبادئه المسيحية بصرامة تقلب الطاولة على تمارا عاشقته بجنون، وتخلق وضعاً معقداً جداً، يجعل الجميع أمام طريق مسدود، وهذا كله بحكم غرام تمارا الذي لا يتزعزع بأندرو، والذي يجعل هيثم يعاني من عذاب قاتل لأنه سيصبح رجلاً في المقام الثاني في نظر تمارا. وهنا لا يتردد هيثم في وصم حبيبته السابقة بشتى النعوت القاسية، من غادرة، الى خائنة، الى مجرمة. وهذا يزيدها عذاباً، ويترك المشكلة بلا حل. وتركني أنا عاجزاً أول الأمر عن إيجاد حل لهذه المشكلة. والحل الوحيد المقبول هو الذي يلبي رغبات جميع أعضاء الثالوث. وأنا توصلت الى هذا الحل بضربة عصا سحرية.