إذا أزحنا جانباً الأسباب العامة لركود الحالة الغنائية في لبنان والعالم العربي، فإن المطربة ميشلين خليفة، تعيش حالياً المفاعيل السلبية لشهرتها الصاروخية المفاجئة وقد قيل يومها ان ميشلين اختارت النزول بالباراشوت "فوق" الجمهور بدلاً من ان تصعد اليه خطوة خطوة، من دون ان يعني ذلك انها، على مستوى الموهبة والمهنية والطواعية، كانت لا تستحق شهرة كتلك! فقد جرت العادة الطبيعية ان يبدأ المطرب او الفنان عموماً من الصفر، أما ميشلين فقد أحرقت المراحل وقفزت الى الواجهة الإعلامية كشهب النار، وكانت قبل سنوات قليلة تستعد تدريباً وصقلاً للموهبة وتلقياً لمبادئ الغناء بحبّ وتدفّق. ويقول أستاذها الموسيقي فؤاد عواد إنها إحدى الطاقات الغنائية الفريدة التي مرّت تحت يديه، وتنبأ لها بانطلاقة قوية تحققت تماماً، وبالشكل الذي لم يتوافر لأحد، وقد رعى بنفسه تلك الانطلاقة، ووقف قائداً للأوركسترا في أول حفلاتها الشعبية وفي أول تسجيلاتها الغنائية وحتى في تلحين أول أغنياتها الخاصة... كانت ميشلين خليفة تنتدب نفسها لمهمة أكبر من مهمات زميلاتها اللواتي كانت أسماؤهن تشعّ انتشاراً. والهمّ المتمثل بالطرب كان مسيطراً على كل تفاصيل صوتها الى درجة انها أغرقت من أنصتَ مستمعاً اليها في تيارات الطبقات الصوتية العالية، والحادة في العلو، كما حاولت ان تشدّ الانتباه الى حنجرتها عبر التلاعب المتمادي بالعِرَب الصوتية في "مخطط" كان يريد أن يغطي الضجّة الإعلامية بضجّة صوتية أيضاً حين يكون الضجيج متوازناً ومتناسقاً، فلا يقال مثلاً أن ميشلين كمطربة هي أقل من إعلامها، ولا يقال في المقابل أن إعلامها أقل مما تستأهل. وبالفعل، عرفت ميشلين كيف تضع صوتها على السكّة المناسبة، و"أول دخولها شمعة طولها" كما يقول المثل الشعبي اللبناني، فبلغت مع جورج ابراهيم الخوري وملحم بركات في "أنا والقمر والنجوم" منصة النجومية. ومثل شعبي آخر كان ينتظر ميشلين خليفة عند أول مفترق هو "راحت السكرة وإجت الفكرة". فإذا أتت البداية مدوية بحيث اعتقد الكثيرون أن هناك ماكينة إعلامية تلفزيونية - إذاعية - صحفية تشتغل لها جدياً، فإن الخطوات التالية راحت ترتبك وتخضع لمؤثرات غير مؤاتية بحيث اعتقد الكثيرون أيضاً ان تلك الماكينة قد انفضّت عن ميشلين. وخلال وقت قصير غاصت نجومية ميشلين خليفة في اهتزاز نتج عن ظروف ما لبثت ان تفاقمت حتى تراجع دور المطربة من "التذكير بأم كلثوم" كما قال أحد الإعلانات التلفزيونية عنها، الى التذكير بأن أحداً لا يمكن ان يذكّر بأم كلثوم! لقد بدأت ميشلين خليفة من حيث كان يجب ان تنتهي بعد زمن طويل من الخبرة والإحتراف والمعاناة والصبر والمواجهة، فإذا بها بين ليلة وصبحها أكبر من التصوّر! ويميل بعض النقاد الى اعتبار ان تلك البداية وضعت ميشلين في موقع لا تحسد عليه كونها "كبّرت حجرها" أكثر من اللازم، مع أن كثيرات حسدنها عليه وكانت أحجارهن أصغر من اللازم. ولعبة الأحجام هي الأصعب في الفن، لأنها إمّا تطلق صاحبها في انعدام الجاذبية حين البناء على أوهام أو على أخطاء في التقدير، وإما هي رؤية صحيحة حين البناء على ثوابت. وميشلين خليفة كانت تبدو للمراقب مترنحة بين الحالين قبل ان تستقر على ما لا تعرفه أو تفهمه هي! ولعلّ مشكلة ميشلين خليفة الأولى أنها لم تستطع بعد أن تختار، بدقّة، أغنيتها. لا هي قادرة على ان تكمل في الأغنيات الثقيلة، أغنيات البداية، ولا هي معجبة بنوعية أغنيات أخرى، خفيفة، قد تكون مطلوبة في سوق التداول الإعلامي، ولكنها غير مطلوبة عندها. والوقوع في هذا الشرك يؤدي غالباً الى ابتكار أسلوب هو مزيج من الغناء الثقيل والخفيف معاً لإرضاء الذات وإرضاء السوق الجمهور إجمالاً، وشركات الإنتاج، إلا أن ميشلين التي قد تفضّل هذا الأسلوب التوفيقي لم توفّق بشاعر وبملحن يضعان لها ملامح الصورة المنتظرة، ما ابقاها على هيئة الخائفة من ان تفقد مكانها، وفي الوقت نفسه تخاف من ان لا تجد موقعاً بديلاً يحفظ الهيبة! والمفاعيل السلبية للشهرة الصاروخية، حسب بداية المقالة، تتلخص في عدم تبيّن الطريق بوضوح الآن، وعدم معرفة اي تفصيل عن الاستمرارية وكيفيتها، لأن العلاقة بالجمهور، في الاساس، لم تختمر عفوياً، ولم تنضج بهدوء، وتالياً فإن حرارة التراكم والتجربة والصعود والهبوط في تلك العلاقة مفقودة لصالح اسلوب آخر كأنه الغرض! موسيقي كبير في لبنان يقول ان أجمل ما في صوت ميشلين هو الكثافة التعبيرية التراثية، وأسوأ ما فيه أن ميشلين تبدأ بإطلاق العِرَب الصوتية الصعبة حتى قبل ان... تبدأ بالغناء! فهل يكون أجمل ما في تجربة ميشلين خليفة أنها غنّت الماضي، وأسوأ ما فيها أنّها بشق النفس تتلمّس الطريق الى المستقبل!؟