لا شك أن الشغف ضروري وصحي في الحياة العملية والأكاديمية ومحركا قوياً للإنتاجية كما أنه دلالة على الرضا المهني، وقد يكون مطلباً أساسياً في بعض المنظمات، ومعياراً مهماً للتوظيف وتكليف الموظفين بأعمال إضافية؛ لكن في بعض الحالات قد تؤدي شدة الشغف إلى خطر الاحتراق الوظيفي أو الأكاديمي إذا لم تتم إدارته والتحكم به بشكل سليم. ففي دراسة أجريت من قبل بعض المهتمين بالولايات المتحدة الأميركية والتي تم تطبيقها على أكثر من 700 موظف بدوام كامل في قطاعات مختلفة لتقديم إجابات يومية عن مقدار الشغف والاحتراق الوظيفي في بداية كل يوم عمل ونهايته، حيث خلصت الدراسة إلى تزايد نسبة الشعور بالاحتراق الوظيفي بعد يوم ملئ بالشغف والنشاط. فقد استمروا بالتركيز بالعمل دون الانفصال عنه ذهنياً بعد انتهاء الوقت الرسمي للوظيفة، مما أدى إلى الشعور بالاحتراق. فكثيرا ما تأتينا حالات من الشغف والحيوية والدافعية لبذل المزيد في أداء أعمالنا الوظيفية طبقاً للمقولة الشائعة "لن ترى العمل عبئاً إذا كنت تحب ما تفعله"، إذ بنا نفاجأ بردود فعل نفسية عكسية في اليوم التالي وحالة من الإعياء النفسي والعاطفي، فالمبالغة بالشغف يولد زيادة في النشاط والذي يؤدي لبذل المزيد من الجهد واستنزاف الطاقات، مما يؤول لعواقب سلبية على المدى البعيد. وهناك نوعان من الشغف: يتمثل النوع الأول في الشغف المتوازن أو الإيجابي والذي يساهم بزيادة الدافعية وتحقيق الرضا؛ بينما النوع الثاني في الشغف المفرط السلبي أو الهوس بالعمل والذي يؤدي للإرهاق النفسي والجسدي واستهلاك الموارد الذهنية اللازمة للتعافي من يوم العمل الشاق، والذي يؤدي بدوره إلى الشعور بالاحتراق. وعلى صعيد المدراء والقادة؛ حبذا التوازن بتشجيع موظفيهم على الشغف، وعدم الافراط في استنفاد طاقات فرقهم وإعيائهم بمزيد من المهام. فلابد من تقديم المساعدة لهم، وتعويضهم بعد يوم شاق بأوقات راحة إضافية تعمل على استعادة طاقاتهم والمحافظة استدامة الدافعية وحب العمل. كما حري بنا التطرق إلى الطلبة في المدارس والجامعات، فعندما تزيد دافعيتهم وشغفهم بشكل مبالغ لابد من السيطرة عليه والتحكم به، حتى لا يفقد هذا الشغف، فبعض الطلبة يضعون لأنفسهم توقعات عالية وأهداف طموحة وكبيرة قد تكون غير واقعية أو يصعب تحقيقها في الوقت المحدد. مما يخلق لديهم ضغطاً مستمراً لتحقيق النجاح، والذي قد يؤدي إلى الانسحاب أو العزوف عن مواصلة التحصيل العلمي، والدخول في حالة من الإحباط والارهاق النفسي. فلعله من المفيد أن نؤكد على هيئات التدريس بحسن استغلال هذا الشغف وعدم المبالغة في طلب مزيد من الإنجاز من الطلبة مما ينعكس سلبيا عليهم ونفاجأ بارتفاع نسب ومعدلات التسرب لفئة منهم أصيبوا بالاحتراق الأكاديمي. وبذلك لابد من إدارة هذا الشغف، ووضع حد للجهد المبذول، والاستجابة لإشارات الإرهاق المبكر، وإعداد نظام موازنة بين العمل والحياة، فإن لجسدك عليك حق -كما وجهنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- فلعائلاتنا وحياتنا الاجتماعية حقوق وواجبات تجاهها بها تتطلب منا التوازن في استثمار الأوقات والاستمتاع بأوقات راحة كافية نستطيع من خلالها المحافظة على ديمومة النشاط والحيوية. وخلاصة القول نحن لا نرفض الشغف بل نديره بشكل واع ومتوازن حتى ننعم بديمومة الاستقرار والنمو الوظيفي والأكاديمي.