قبل سبع سنوات، وتحديداً في تشرين الثاني نوفمبر 1992 عقد في صلاح الدين في شمال العراق ثاني مؤتمر للمعارضة العراقية، بعد مؤتمر فيينا، بمشاركة أكبر عدد من فصائل وشخصيات المعارضة العراقية، وانتهى بالإعلان عن تشكيل "المؤتمر الوطني العراقي الموحد". واليوم، ومع انعقاد ثالث مؤتمر للمعارضة العراقية في نيويورك، نجد الصورة قد اختلفت تماماً. عقد اجتماع صلاح الدين على أرض الوطن وفي ظل تفاؤل عراقي واقليمي بقرب سقوط النظام الحاكم في بغداد، وعلى رغم معرفة أو على الأقل حدس المشاركين بأن الولاياتالمتحدة هي وراء الاجتماع مالياً وسياسياً، إلا ان معظم التيارات العراقية التي تقاطع اجتماع نيويورك من اسلامية وقومية وعربية وكردية ويسارية وليبرالية، شاركت في المؤتمر آنذاك ثقة بالدور الاميركي وجديته في التغيير، الأمر الذي لم يعد قائماً اليوم. ومع ذلك، كانت هناك قوى وشخصيات سياسية - تيار الوسط بالذات - مقتنعة بضرورة التحالف الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة لا لتغيير النظام فحسب، بل لضمان بناء عراق الغد الديموقراطي. وجاء التحول السياسي في الموقف الاميركي، في تشرين الثاني نوفمبر الماضي تجاه العراق من "الاحتواء" الى سياسة "الاحتواء زائد التغيير" ليفتح جسوراً للعمل المشترك بين هذه الأطراف المعارضة وواشنطن. وكرس هذه القناعة تصريح للناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية بتاريخ 24 تشرين الثاني 1998، جيمس روبن، ان واشنطن تريد "معارضة عراقية موحدة ذات قاعدة أوسع من قاعدة المؤتمر الوطني العراقي" الذي يؤيده الكونغرس. وأوضح روبن "ان هناك تفضيلاً عبر عنه في تشريع الكونغرس لأن يكون المؤتمر الوطني المعارضة الرئيسية، لكننا نريد العمل مع مجموعة ذات قاعدة اوسع ولا نعتبر تفضيل الكونغرس ملزماً". وأضاف: "نجري حالياً اتصالات بعدد من الجماعات التي لا تعمل تحت مظلة المؤتمر الوطني، لنرى ما بإمكاننا ان نفعله لنشجعها على ان تكون أكثر فاعلية وتنسيقاً كلما أمكن ذلك". وتأسيساً على ذلك التحول، عقد مؤتمر وندسور في آذار مارس 1999 للجنة التنفيذية ل"المؤتمر الوطني" بضغط من الإدارة الاميركية، بمشاركة أطراف سبق ان جمدت أو علقت عضويتها في المؤتمر الوطني، ك"الوفاق الوطني" و"الحزب الديموقراطي الكردستاني". تمخض المؤتمر عن إلغاء دور رئيس اللجنة التنفيذية لصالح قيادة جماعية على شكل هيئة رئاسية موقتة يشارك فيها 7 أشخاص وتتولى مسؤولية الانفتاح على الآخرين من أجل توسيع قاعدة المؤتمر. الخطأ الأول الذي وقعت فيه الإدارة أنها عولت واعتمدت على من كان هو الداء لعلاج أمراض المؤتمر الوطني، فبعد انسحاب الاسلامي المستقل من الهيئة الرئاسية للمؤتمر، امتنع ممثل "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية" من أخذ موقعه، تاركاً الأمر للآخرين، وهم الحزبان الكرديان الرئيسيان و"حركة الوفاق" وكل من الرئيس السابق للجنة التنفيذية أحمد الجلبي والسيد رياض الياور. لم تتعامل القيادات الكردية بجدية مع مشروع تطوير "المؤتمر الوطني" الى درجة ان "الحزب الديموقراطي الكردستاني" لم يشارك في معظم اجتماعات المراجعة أو التحضير للمؤتمر الموسع للمعارضة، مما كرس قناعة البعض باختلاف الأجندة الكردية عن باقي المعارضة العراقية، وقول السيد هوشيار زيباري عضو المكتب السياسي للحزب وهو في طريقه الى نيويورك لحضور الاجتماع، "نحن نضع مصلحة شعبنا الكردي فوق أي اعتبار" يؤكد هذه الحقيقة. وعلى رغم ان ل"حركة الوفاق" كل المصلحة في نجاح التحول السياسي في "المؤتمر الوطني" الا ان أداءها كان مقيداً باعتبارات خاصة حالت دون ان يكون فاعلاً، الأمر الذي تؤكده مذكرة الحركة المشار اليها في صحيفة "الحياة" بتاريخ 24 تشرين الأول 1999 والتي جاء فيها في شأن التحضير لمؤتمر نيويورك: ""... للأسف الشديد، لاحظنا تكرار ذات الاخطاء القاتلة التي أجهضت التجربة السابقة. ومن أهم هذه الأخطاء، أولاً، استمرار التلاعب والمناورات المنافية لمبادئ العمل السياسي الوطني الجاد. ثانياً، المساعدة على تسلل بعض الاشخاص الذين اساؤوا الى العمل الوطني بطريقة أو بأخرى، الى مواقع أكثر خطورة. ثالثاً، اللجوء الى اغراق المؤتمر الوطني بالشخصيات المستقلة، وبالرغم من قناعتنا بهم واحترامنا لهم، الا ان هذه العملية تضع الصياغات الهيكلية المرجوة في أوضاع صعبة. رابعاً، عدم اتاحة الفرصة وفسح المجال أمام قوى أساسية وإغفال أهمية فتح المزيد من الحوار معها، الأمر الذي قلص الفرصة أمامها للانخراط في عمل جماعي جاد. خامساً، التعمد بتسريب أخبار للصحافة، تؤثر على فرص انجاح التفاوض مع "تيار الوسط" والقيام بمناورات لإحراز مكاسب ذاتية على حساب الآخرين، هو سلوك من شأنه ان يقوض أهم ما تم الاتفاق عليه في اجتماعات وندسور والمتعلق بتوسيع القاعدة وإشراك قوى وطنية في خوض التجربة الجديدة. سادساً، محاولة تبني قانون تحرير العراق الذي أصدرته الولاياتالمتحدة كبديل كامل لأي مشروع وطني عراقي". الخطأ الثاني الذي وقعت فيه الادارة الاميركية، هو خضوعها لضغوط الكونغرس بالاستعجال في عقد الجمعية الوطنية ل"المؤتمر الوطني" بمن حضر كهدف بحد ذاته وليس وسيلة لأهداف أخرى. فأعلن فجأة في أواخر ايلول سبتمبر عن نيويورك مكاناً للاجتماع ونهاية تشرين الأول اكتوبر موعداً له، علماً ان الادارة كانت تفضل سابقاً عقده في هولندا أو النمسا. ان الاخراج السيئ لفكرة جيدة كفيل بقتلها. ان قرار الإدارة الاميركية عقد الاجتماع بهذه السرعة اسقط بيد عناصر "تيار الوسط" التي اعتبرت التحضير الجيد ضرورة لنجاح الاجتماع الموسع، اذ لم تشكل لجنة تحضيرية تشكيلاً سليماً ولم تستكمل تحضيراتها واعدادها لجدول أعمال الاجتماع المقترح. كان من مستلزمات نجاح المؤتمر الموسع، والتي هي شروط "تيار الوسط" للمشاركة في الاجتماع الموسع، الأمور التالية: - التشاور في شأن الاسماء المشاركة في الاجتماع الموسع منعاً لإغراقه بأسماء من قبل فئة دون أخرى. - الاتفاق على مشروع الهيكل التنظيمي والنظام الداخلي المقترح للتشكيل الجديد، بما في ذلك تغيير الاسم. - الاتفاق على اسلوب فرز واختيار القيادة، بما يكرس العمل والقيادة الجماعية والشفافية والمساءلة. توافر هذه المستلزمات، التي لم تتحقق، كان كفيلاً بأن يصبح الاجتماع بمثابة احتفال بالنجاح وليس حلبة للصراع. فكانت النتيجة ان الهيئة القيادية الموقتة لم تفلح في لم شمل الأطراف السابقة للمؤتمر. فباستثناء الحزبين الكرديين و"حركة الوفاق" لم يشارك في المؤتمر سوى عدد كبير غير منظم من المستقلين. ان المال الاميركي وحده، من دون مشروع واضح للتغيير، سيبقى غير كاف للخروج بالمعار ضة العراقية من عنق الزجاجة، وبإصرارها على عقد الاجتماع في نيويورك بمن حضر ساهمت الادارة، وربما عن غير قصد، في إجهاض فرصة لتوسيع قاعدة المؤتمر. أراد "تيار الوسط" أن يكون جزءاً من مشروع ناجح لوحدة المعارضة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، الأمر الذين أقنع معظم عناصر "تيار الوسط" بعدم جدوى المشاركة في استعراض سياسي قد يكرس الاحباط والانقسام بين أوساط العراقيين. إن بقاء "تيار الوسط" خارج مؤتمر نيويورك يبقيه عاملاً مساعداً لمد الجسور بين جماعة نيويورك والآخرين، وهو دور لا بد ان يقوم به طرف ما. ان انعقاد مؤتمر نيويورك ليس نهاية المطاف بالنسبة الى المعارضة العراقية، وإذا كان مجرد انعقاده مخرجاً للادارة الاميركية من أزمتها مع الكونغرس الذي أحبط للادارة خلال الاسابيع الماضية أكثر من مشروع معاهدة عدم انتشار التجارب النووية، وقانون المساعدات الخارجية بما يوفر الدعم للاردن والسلطة الفلسطينية، فإن أمام الادارة الآن فرصة للعمل الحقيقي بعيداً عن الصراعات الاميركية الداخلية، الأمر الذي يتطلب عدم تحول مؤتمر نيويورك الى عقبة أمام تفعيل وتحسين أداء المعارضة، وذلك بإبقاء الباب مفتوحاً للحوار والتعاون مع الآخرين، بأمل التوصل في المستقبل الى صيغة أكثر فاعلية. إن إصرار الإدارة الاميركية على حصر التعامل مع المعارضة العراقية من خلال بوابة "المؤتمر" أثبت قصوره. وقد يكون من الأفضل التعامل والتعاون مع أكثر من اطار للمعارضة. اما الإصرار على حشر الجميع في اطار واحد غالباً ما يفجر التناقضات بين تلك الأطراف، الأمر الذي أكدته تجربة مؤتمر نيويورك، في حين ان تعاون الاطارات أو التيارات السياسية المختلفة في صيغة جبهوية قد يكون أكثر فائدة ونجاعة. المطلوب اليوم المساعدة على وحدة الصف ضمن التيار الواحد في المعارضة العراقية، بدءاً بوحدة الاكراد، وانتهاء بوحدة القوى الليبرالية، مروراً بالاسلاميين والقوميين وغيرهم من قوى أثنية تركمانية وآشورية. على القوى الرافضة لمؤتمر نيويورك ان تعرف ماذا تريد، لا أن تكون مجرد أداة رفض. والمواقف الخطابية يجب ان لا تكون بديلاً من عمل حقيقي باتجاه وحدة التيار الواحد وصولاً الى صيغة تعاون جبهوي، يعتمد التنسيق بين قيادات وتيارات بدلاً من التنافس في عقد المؤتمرات الاعلامية. إن إهمال العامل الاقليمي، والعربي بالذات، في نشاط المعارضة العراقية جعلها أسيرة الموقف الاميركي. واذا كانت الأخيرة هي الرقم الأهم في المعادلة الدولية بخصوص العراق، لا سيما وهي تملك مفتاح "الاحتواء" والقدرة على إبقاء النظام العراقي في "صندوق"، فإنها تبقى عاجزة عن تحقيق التغيير المنشود في العراق من دون التعاون مع العامل الاقليمي والعربي بالذات. ان تعدد المنابر والتيارات ضمن صيغة العمل الجبهوي يتيح المجال للربط بين العمل في الوسط العربي والاقليمي والدولي، من دون ان يكون الواحد على حساب الآخر. عسى ان يكون مؤتمر نيويورك نهاية لمسيرة طالما تعثرت، وبداية لمراجعة تنتهي بتحالف جبهوي عراقي. * كاتب وسياسي عراقي مقيم في لندن.