أين ينبغي ان يكون رئيس دولة تشكل فيها حكومة جديدة، وتواجه أزمات داخلية تهدد بزعزعة الأوضاع وأخرى دولية تنذر بمجابهة؟ السؤال قد يبدو نافلاً في أي مكان آخر غير روسيا، التي صارت بلداً تحكمه شرعة لا علاقة لها بالمنطق. فبدلاًَ من المكوث في الكرملين آثر بوريس يلتسن ان يستقر على ساحل البحر الأسود، ويضطر رئيس الوزراء المكلف تشكيل الحكومة ومدير الديوان الرئاسي وعدد آخر لا يحصى ولا يعد من المسؤولين الى ركوب طائرات حكومية يدفع المواطن ثمن رحلاتها متجهين الى مصيف سوتشي مخلفين وراءهم ركاماً من المشاكل. إلا ان هذه الجولات المكوكية و"الاستئناس" برأي الرئيس ومشورته ليست سوى براقع لتغطية ما يجري في العاصمة من تغييرات تقف وراءها قوى لا تملك صلاحيات دستورية، وفي مقدمها سميّ الرئيس وحامل الجزء الأكبر من اختامه بوريس بيريزوفسكي. فهذا البليونير الذي أخذت حكومة يفغيني بريماكوف تضيق الخناق عليه واستصدرت النيابة العامة أمراً باحتجازه تحول من طريدة الى مطارِد. ولم يبق لدى أحد شك في أنه كان وراء اقصاء النائب العام يوري سكوراتوف، ثم تسنى له اقناع يلتسن بإقالة حكومة حققت استقراراً نسبياً، وتشكيل وزارة جديدة اسندت حقائب مهمة فيها الى شخصيات تعد من "أزلام" بيريزوفسكي. وقد يبدو غريباً ان واحداً من التعيينات الأولى لم يكن يتعلق بوزارات مفصلية مثل الدفاع والخارجية والأمن، بل بمنصب... مدير صندوق التقاعد. ولكن العجب يبطل اذا عرف السبب، فهذا الصندوق يعد من المفاتيح الاساسية للمضاربة بالأموال، اضافة الى انه يلعب دائماً دوراً بالغ الأهمية في الانتخابات. اذ يمكن ان تحول المعاشات المستحقة منذ اشهر لمتقاعدي محافظة ما لتهدئة الخواطر وتأمين الاقتراع لصالح مرشح "مطلوب"، أو تحجب عن أخرى لتحريك الشارع وتأليبه. وبداهة فإن هذا المنصب صار من حصة واحد من أنصار بيريزوفسكي الذي أصبحت له قوة فعلية بإسناد وزارة الداخلية الى فلاديمير روشايلد، حليفه في مهمات كثيرة، وبتعيين نيكولاي أكسيونينكو نائباً أول لرئيس الوزراء ليكون حلقة وصل وأداة ضغط يستخدمها "راسبوتين" الجديد في التأثير على الحكومة. ولن يمضي وقت طويل حتى تترى انباء عن اغلاق قضايا أثيرت ضد بيريزوفسكي لتورطه في فضائح مالية أو لعلاقته بشبكات ترصد مكالمات كبار المسؤولين في الدولة وتراقب تحركاتهم. من أين يستمد هذا الرجل القوة؟ لدى بيريزوفسكي المال، فهو يعد من أثرى أثرياء روسيا، ولديه الاعلام عبر سيطرته على أكبر قنوات التلفزيون، ولديه صكوك الغفران التي يمنحها لنفسه وللاخرين. الا ان مصدر نفوذه الرئيسي يكمن في ارتباطه بمصالح مالية - سياسية مع شخصيات مؤثرة مثل ابنة الرئيس تاتيانا ومدير الديوان الرئاسي الكسندر فولوشين، وكبار المسؤولين في الحكومة الجديدة. وما دام بوريس بيريزوفسكي موجوداً في موسكو فلا ضير من ان يتمتع بوريس يلتسن بشمس الجنوب الدافئة، فأختامه في يد... أمينة.