بأفضل كثيراً مما يستطيع احسن استطلاعات الرأي ان يفعله، تشكل الانتخابات الديموقراطية نوعاً من الاختبار لاتجاهات الرأي المستترة في المجتمع. فماذا تنبؤنا انتخابات 17 ايار مايو عن المجتمع الاسرائيلي؟ اولاً، وما يشغل البال اكثر من أي شىء آخر، حقيقة ان اكثر من خمس الناخبين لا يثقون بالنظام الديموقراطي: اما لانهم يعتقدون انه من صنع البشر ولا يستند الى ال "هالاخا" المكافئة لدى اليهود للشريعة. فهم لا يتنازلون للدولة ويعترفون بها الاّ لاسباب ذرائعية، ويعتبرون كبار الحاخامات اعلى مرجعية في الشؤون الدينية او العلمانية حصل حزب "شاس" الارثوذكسي المتطرف الذي يحظى بتأييد اليهود الشرقيين على 17 مقعداً في الكنيست الجديد، من مجموع 120 مقعداً، وحزب "أغودات يسرائيل" الاشكينازي الارثوذكسي المتطرف على خمسة مقاعد، او لانهم يعتقدون ان النظام ليس استبدادياً بما فيه الكفاية، كما يرى ذلك بالفعل حزب "يسرائيل بيتنو" بزعامة افيغدور ليبرمان الذي حصل على 4 مقاعد. تهاجم هذه الاحزاب الثلاثة النظام القضائي بشكل خاص، مستهدفة المحكمة العليا بشراسة اكبر، وتتهمه بالتحامل المسبق ضد اليهود الارثوذكس المتطرفين واقليات اخرى مثل المهاجرين الجدد. وقد أثار قرار محكمة في القدس الحكم على ارييه درعي زعيم "شاس" ووزير الداخلية السابق بالسجن اربع سنوات لتسلمه رشاوى ضخمة خلال فترة توليه منصبه، ضجة سياسة. فلم تحاول هذه الاحزاب وحاخاماتها تفنيد قرار الحكم وتفاصيله الدقيقة نقطة فنقطة، بل اكتفت برفضه مبدئياً بحجة انه لا يستند على التوراة الذي يسمح بتسلم رشاوى؟، او كونه مدفوعاً ب"كره الشرقيين". ولا يغير من الامر شيئاً، حسب قولهم، ان يكون اثنان من القضاة الثلاثة من اصل شرقي فهما مجرد عبيد للمؤسسة الحاكمة الاشكينازية. المفارقة في هذا كله تكمن في ان السلطة القضائية، المشبعة بتقاليد بريطانية قوية ترجع الى فترة الانتداب 1917 - 1948، تمتاز بافضل سجل بين السلطات الثلاث في اسرائيل، وهي الوحيدة التي يمكن ان توصف بانها ذات مستوى عالمي، اذ تملك سجلاً مشرفاً في الدفاع عن حقوق الاقليات، فتبطل قرارات السلطة التنفيذية والكنيست بدرجة اقل عندما تتجاوز حدودها، وهي مهمة ليست سهلة في غياب دستور مكتوب. ويعد استمرار مثل هذه المشاعر المناهضة للديموقراطية واستحواذها على اكثر من خمس المجتمع بعد 51 سنة على اقامة الدولة، مؤشراً الى فشل مزرٍ للنظام التعليمي حيث يتمتع اليهود الارثوذكس المتطرفون باستقلال تام ولكن يحصلون على دعم مالي سخي. ويتطلب هذا الوضع، بعد ثلاث سنوات ونصف سنة على اغتيال رابين، بذل جهود ضخمة على الصعيدين التعليمي والتشريعي. ثانياً، لم يكن كل الذين صوتوا لحزب "شاس" مدفوعين بالضرورة بالمشاعر المشار اليها اعلاه. فقد انتُخب احد نواب الحزب باصوات في مناطق عربية. والسبب بسيط: كان "شاس" يسيطر على وزارة الداخلية وحرص على ان تحصل هذه المناطق على دعم مالي سخي من هذه الوزارة النافذة. بالاضافة الى ذلك، هناك من الادلة ما يكفي للاستنتاج بان جزءاً من اصوات اليهود الشرقيين كان تعبيراً عن الاحتجاج يتركز في الاطراف "البلدات الجديدة" وفي الاحياء الفقيرة من بلدات اكبر خصوصاً القدس وبئر سبع وبني براك. ويشار الى ان اوضاع هؤلاء السكان الذين يعانون تدني مستوى التعليم والاجور شهدت تحسناً كبيراً بالارقام المطلقة. لكن النمو الاقتصادي المتقلب خلال العقود الاخيرة ارتبط بتعميق التفاوت الاجتماعي الاقتصادي، ما ادى الى تزايد الاحساس بحرمان نسبي وسط الفئات الدنيا. ويعتبر الحد من الزيادة المقلقة والفعلية في التفاوت حتى بعد ادخال ضريبة الدخل التصاعدية والتحويلات، مثل اعانات الضمان الاجتماعي والبطالة، في الحساب مهمة ملحة. ومن ضمن الاجراءات التي سيتعين على الحكومة ان تدرسها لمعالجة هذه العلة الحقيقية في النسيج الاجتماعي فرض ضريبة على البورصة والارث والعوائد المتأتية من ارباح رأس المال. ثالثاً، تفجر غضب المهاجرين الروس من اسلوب تعامل المحاكم الدينية ووزارة الداخلية التي تدين بالفضل لهذه المحاكم في قضايا الاحوال الشخصية بشكل عنيف خلال الحملة الانتخابية. وقد نجمت عن ذلك حركة ضخمة للمهاجرين نقلتهم من معسكر نتانياهو الى معسكر باراك. والارجح ان يحصل الحزب الرئيسي للمهاجرين، بزعامة ناتان شارانسكي، الذي وظّف مشاعر السخط هذه بطريقة بارعة، على حقيبة الداخلية كانت سابقاً لحزب "شاس" الذي اذعن بخنوع لتعليمات الحاخامية في ما يتعلق بالمهاجرين الروس الذين ولدوا عن زيجات مختلطة مع مسيحيين. ومع ذلك، لن يحل هذا سوى جزء من المشكلة. فأيدي الوزارة ستكون مقيدة على صعيد قضايا معينة، بقوانين لا يمكن اعادة تفسيرها او الالتفاف حولها باجراءات حكومية. ينبغي للكنيست ان يغيّر القانون. لكن ماذا سيكون موقف الاعضاء المتدينين او المتمسكين بالتقاليد في الغالبية البرلمانية التي يتزعمها باراك ازاء قضية كهذه تتعلق بما يمليه الضمير؟ لا شك في ان اعادة إيقاظ عملية السلام المعطلة واطلاقها ستكون المهمة التي يضعها باراك في مقدم اولوياته. لكن الاعتلال الاجتماعي الذي كشفت عنه الحملة الانتخابية على صعيد القضايا الثلاث التي نوقشت في هذه المقالة سيأخذ بالتأكيد الكثير من وقته في الاشهر المقبلة.