يتعرض المجتمع الاسرائيلي الى الادانة من قبل منتقديه لانقسامه الحاد على نفسه، وإلى الاشادة من قبل المعجبين به لفرط تعدديته. لكن ما لا يختلف عليه ان الانقسام الاعمق والاكثر ثباتاً بين كل الانقسامات - السياسية والاتنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية - يكمن بين التقليدي واللاديني العلماني. على سبيل المثال في مدينة كالقدس، التي تعتبر نفسها عاصمة لدولة عبرية ديموقراطية ومتسامحة، يتلقى حوالي نصف التلاميذ اليهود تعليمهم في مدارس دينية ارثوذكسية ومتعصبة. ويفكر يهود علمانيون كثيرون في الرحيل عن المدينة لأنهم يشعرون ان نمط حياتهم يتعرض الى تهديد متزايد نتيجة الضغوط المتصاعدة. ويتوقع خبراء الديموغرافيا ان يبلغ عدد اليهود الارثوذكس المتطرفين، بسبب عائلاتهم الكبيرة، ما لا يقل عن ثلث عدد سكان القدس بحلول السنة 2010، الى جانب 10 في المئة من المتدينين القوميين، مقابل 25 في المئة فقط من العلمانيين. وسيؤلف العرب ثلث السكان. بالمقارنة مع ذلك، تبقى الغالبية الساحقة من سكان مدن عبرية مثل تل ابيب وحيفا علمانية. "دولة عبرية" عندما أسس ثيودور هرتزل، الذي كان بعيداً عن الدين، الحركة الصهيونية باصدار كراس يحمل عنوان Der Judenstaat دولة اليهود في فيينا عام 1896، لم يكن يفكّر بأكثر من دولة يقطنها اليهود، وليس بالضرورة في فلسطين. وبعد ذلك بنصف قرن، تضمن "اعلان استقلال" اسرائيل عام 1948 "اقامة دولة عبرية في ارض اسرائيلEretz Yisrael فلسطين". ويُعرّف اليهودي وفق مبادئ القانون الاسرائيلي في الوقت الحاضر بتعابير دينية. هكذا، فإن الدولة والدين متشابكان. وعلى رغم أن غالبية اليهود ليسوا ارثوذكس فإن كل قوانين الأحوال الشخصية تخضع لسلطان القضاء الديني، ويُحظر الزواج او الطلاق المدني. ولا تكمن المشكلة في الدين ذاته، الذي يعتبر مسألة تتعلق بمعتقد الفرد، كما انها لا تتعلق باحترام التقاليد التي تجري مراعاتها وسط الكثير من اليهود غير المتدينين، بل تكمن في استغلال الدين من قبل المؤسسة الدينية الارثوذكسية لأغراض سياسية. توازن القوى تسيطر الاحزاب الدينية اليهودية، التي تضم الارثوذكس المتطرفين والمتدينين القوميين، في الوقت الحاضر على 23 مقعداً في الكنيست لا توجد امرأة واحدة بينهم من اصل 120 مقعداً، بالمقارنة مع 16 مقعداً في الانتخابات الأولى في 1949. وحصلت هذه الاحزاب على نصف مليون صوت، أي حوالي 20 في المئة من الناخبين. وعلى رغم ان الاحزاب الدينية لا تحصل بالضرورة على اصوات كل المتدينين، فإن "المعسكر الديني" لا يزال، على رغم نموه، يمثل اقلية وسط السكان اليهود. لكن التنظيمات الارثوذكسية تمكنت في اطار نظام التمثيل النسبي، بسبب عدم حصول اي حزب بمفرده على غالبية مطلقة، من التحكم تقليدياً بميزان القوى سواء كان الائتلاف يسارياً او يمينياً. وكشركاء لا يمكن الاستغناء عنهم في الائتلاف الحاكم يقتضي ذلك الاستجابة لمطالبهم الدينية. وينطبق المبدأ نفسه في الانتخابات المباشرة لرئىس الوزراء. التطرف لا يلقى مقاومة يمثل اليهود الارثوذكس في الجالية اليهودية الاميركية، وهي الاكبر في العالم، اقلية بالمقارنة مع الاتجاهين "الاصلاحي" و"المحافظ" الاكثر ميلاً الى التعددية. وفي اسرائيل، يكاد النفوذ الذي يمارسه الارثوذكس على الطيف الديني كله لا يلقى مقاومة تُذكر، على رغم ان اليهود السيفارديم الشرقيين يُعرفون بكونهم اكثر تسامحاً بعض الشيء من اليهود الاشكيناز. وترى اليهودية الارثوذكسية انها وحدها تقدم التفسير الاصيل للدين القديم وعقيدته، وترفض الاتهامات ب "الاصولية"، معتبرة انها لا تعني شيئاً. وتنأى المؤسسة الحاخامية عن المعضلات الاخلاقية، مثل مكانة النساء او مكانة المواطنين العرب في اسرائيل. وفي ما يتعلق بالمسألة الاخيرة، يبدو كما لو ان مفهوم "أحب جارك كما تحب نفسك" ينطبق على اليهود وحدهم. وعلى صعيد القضايا السياسية الكبيرة، يستخدم "الحزب الديني القومي" عملياً مقاعده العشرة في الكنيست كأداة للضغط القومي اليميني المتطرف بأيدي المستوطنين، بشكل رئيسي المتدينين، في الضفة الغربية وغزة ولمعارضة التطلعات القومية للفلسطينيين. ويدعي كتاب "حمار المسيح" لمؤلفه الشاب سيفي راتشليفسكي ان اليهود المتطرفين تمكنوا، خصوصاً منذ 1967 و "تحرير" الاراضي، ان يختطفوا اليهودية في اسرائيل. وفي خطتهم الكبرى للمجيء بالمسيح، يُعتبر اليهود العلمانيون مجرد ادوات لتحقيق الخلاص الديني النهائي. كان الجو المشبع بالتعصب وكره الاجانب والغلو القومي الديني المتطرف هو الذي ولّد تطورات مثل نشوء تنظيم سري يهودي خطّط لتدمير مساجد القدس ولكنه اخفق في ذلك، والمجزرة التي نفذها باروخ غولدشتاين وراح ضحيتها 29 من المسلمين اثناء ادائهم الصلاة في الخليل عام 1994، واغتيال اسحق رابين في تشرين الثاني نوفمبر 1995 على ايدي الطالب الديني المتطرف ييغال امير. أولوية للتعليم بخلاف الحزب الديني القومي، لم يبد حزب "شاس" الارثوذكسي المتطرف الذي يضم في صفوفه اليهود السيفارديم اهتماماً مفرطاً بالارض او بالاستيطان او بايديولوجية صهيونية تقوم على "اسرائيل كبرى" منحها صك توراتي. فهو يركز على العمل في صفوف قاعدته الاجتماعية في الاحياء الفقيرة والبلدات الجديدة، خصوصاً بتأمين تمويل حكومي لتطوير البنية التعليمية الارثوذكسية المزدهرة التي انشأها. وما يثير السخرية ان هذا الحزب صاحب التوجه الاجتماعي يزعم العمل على تحسين اوضاع اليهود الشرقيين المحرومين، لكنه في الواقع يديم التخلف لان المنهاج الدراسي ذا النزعة الدينية المهيمنة الذي يُطبّق في مدارسه يخفق في إعداد الطلبة لمواجهة الحياة والعمل في مجتمع حديث. ويُعفى عشرات الالاف من الشبان الارثوذكس المتطرفين من الخدمة العسكرية كي يدرسوا الدين، وهم يواصلون الدراسة بشكل اساسي على نفقة الحكومة بدلاً من العمل، وينجبون عائلات كبيرة تعاني الفقر في الغالب. وفي الوقت الذي يعتبر فيه البعض ان نمط الحياة هذا يتسم بالتقوى والانصراف لخدمة الدين والله فان اخرين يعتبرونه ضرباً من التطفل. الروحي والدنيوي ينعكس الهدف الذي تسعى اليه اوساط اليهود الارثوذكس، بفرض نمط ديني على الحياة في البلاد، في اشكال كثيرة في الحياة اليومية إلى درجة لا يمكن معها سوى الاكتفاء ببضع امثلة: يجب ان تتوقف اعمال التنقيب عن الاثار في الاماكن التي دُفن فيها اليهود في الماضي، ويجب اغلاق الشوارع الرئيسية ومنع حركة السير يوم السبت عطلة اليهود، ولا يُعترف باعتناق الديانة اليهودية اذا لم يجر وفق التعاليم الارثوذكسية، ولا يمكن دفن المواطنين بشكل اساسي المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفياتي السابق الذين لم تؤكد المؤسسة الحاخامية يهوديتهم في مقبرة يهودية، ويُبصق على النساء ويجرى تخريب سياراتهن في شوارع القدس لانهن يرتدين "ملابس غير محتشمة"، ولا يمكن للنساء والرجال ان يصلوا سوية وليس هناك حاخامات من النساء، وتظهر مدارس متنقلة للمتدينين المتطرفين بشكل مفاجىء ومن دون ترخيص في مناطق سكنية غير دينية. ويتوجه "شاس" الى زعيمه الروحي، كبير حاخامات السيفارديم السابق اوفاديا يوسف، لتلقي التعليمات على صعيد الامور الدنيوية فضلاً عن الدينية. ونُقل اخيراً انه شجب دراسة العلوم لان "دراسة التوراة تبز كل العلوم". وهو يزدري المحاكم المدنية في اسرائيل، متهماً المحكمة العليا بأنها "اسوأ من محاكم غير اليهود"، بينما يعتبر ان "التوجه الى المحاكم المدنية يناقض تعاليم موسى". واتهم الحاخام شاتش، وهو احد كبار زعماء المتطرفين الاشكيناز، منتسبي حركة الكيبوتزات العلمانية بانه "غوفيم غير يهود، أكلة لحوم الارانب والخنازير". حذرت الناشطة في مجال الحقوق المدنية والوزيرة السابقة شولاميت الوني من انه يجري تحويل اسرائيل خطوة فخطوة "من دولة ديموقراطية انسانية الى مجتمع ديني متعصب ... بدأت قوانين ذات نبرة عنصرية وتقوم على التمييز تشق طريقها الى الكتب ... لتصبح اشبه بنظام مرجعي". ويرى كثيرون ان العلمانيين، بالمقارنة مع المتدينين، اقل حماسة واقل انضباطاً واقل التزاماً. وفي الوقت الذي احرز فيه بعض التقدم في اتجاه التغلب على انقسامات أخرى في المجتمع الاسرائيلي، مثل الانقسامات الاتنية، لا تشهد العلاقات بين القطاعات الدينية أي تحسن. وعندما يُتهم سيفي راتشليفسكي، مؤلف "حمار المسيح" بالمبالغة، يرد بأن ذلك محض تمنيات لا اساس لها وان مخاوفه في شأن تعاظم التطرف الديني دقيقة. ويختم بالقول "اذا كان ذلك يبدو قاسياً او متطرفاً، فانه يرجع الى ان الواقع قاسٍ ومتطرف الى هذا الحد". * رئيس تحرير مشارك لمجلة "فلسطين - اسرائيل"