تم تكريم الفنان المصري نور الشريف في مهرجان تطوان العاشر لسينما البحر المتوسط، وخصه جمهور المدينة بحفاوة قل نظيرها، على رغم حضور نجوم مغاربة وعرب آخرين. وفي هذه المناسبة عرضت له خمسة أفلام تمثل مراحل مختلفة من مساره السينمائي: "السكرية" اخراج حسن الإمام، "ضربة شمس" اخراج محمد خان "سواق الأوتوبيس" و"قلب الليل" من اخراج عاطف الطيب، ثم "حدوتة مصرية" ليوسف شاهين. التقيناه فكان الحديث عن سبب اختياره أفلاماً دون غيرها، وتجربته في الانتاج السينمائي اضافة الى "الصراع" الدائر بين الدراما التليفزيونية السورية ونظيرتها المصرية. اختيارك لفيلم "حدوتة مصرية" لافتتاح حفلة تكريمك في المهرجان، أثار لدي تساؤلات عدة خصوصاً انك تعتبره اصعب دور أديته. فهل لهذا السبب اخترت الفيلم. ام انه فضلاً عن كونه سيرة ذاتية للمخرج، يؤرخ لمسيرة وطن وأمة في صعودها وانتكاساتها، ام لتشابه مواقفك مع مواقف يوسف شاهين؟ اخترته عن قصد لأنه كان اصعب دور لي، هذا هو السبب الرئيسي. يوسف شاهين شخصية مسيطرة جداً، وفي الأفلام التي اخرجها نجد الممثلين يقلدونه، حتى النساء احياناً. وكان التحدي بالنسبة الي على المستوى الثاني ان احاول ايصال روح يوسف شاهين وليس مظهره الخارجي، وهذا لم يكن سهلاً لأنه هو المخرج والكاتب في الوقت نفسه، وهذا شيء صعب جداً. الأمر الثالث ان الفيلم يمثل قيمة فعلية، ويؤرخ من خلال وجهة نظر يوسف شاهين لمرحلة "المد الثوري" ثم مرحلة النكسة العسكرية ومحاولة تنحي عبدالناصر. هناك مستوى آخر مهم وهو تجسيده فكرة القهر بشكل متميز، من خلال مسيرة فنان مثل يوسف شاهين. وانا واثق ان هناك تشابهاً كبيراً بيني وبين يوسف وبينه والعديد من الفنانين ليس في العالم العربي وحده، بل في كل دول العالم الثالث، اذ يتعرض الفنان منذ طفولته للقهر، سواء من الأم او الأب، او الرقابة. اما الجانب الآخر في الفيلم فمختلف تماماً، يمثل رأي يوسف شاهين وانا اتفق معه، ويتمثل في كون الانسان اذا لم يصارح نفسه ويتصالح مع طفولته بكل عقدها التي تتحكم في سلوكه يمكن ان يظل دائم الصراع بين عقد الصبا وأحلام الشباب والرجولة، وهذا قد يؤدي الى الاختلال. لكل هذه الأسباب اخترت "حدوتة مصرية" ليكون فيلم الإفتتاح لتكريمي. لمَ اخترت "السكرية" و"ضربة شمس"؟ فالفيلم الأول لمخرج كثير الانتاج لكن بعضهم يعتبره ضحلاً، اما الثاني فهو من بدايات "الواقعية الجديدة" او التيار المجدد في السينما المصرية، فهل لهذه الأسباب دخل في البرمجة ام هناك دوافع غابت عنا؟ شخصية "كمال عبدالجواد" ايضا من اهم الأدوار في حياتي على الاطلاق، مثلته وعندي 29 سنة على رغم ان الشخصية متقدمة في السن. وكانت بداية مرحلة جديدة في حياتي حينئذ، ليس الدافع اليها الجري وراء لعب دور الفتى الأول، ولكن محاولة للبحث عن شخصيات تحقق لي متعة، وفي الوقت نفسه تكون حاملة فكراً غير مسبوق في السينما المصرية، من هذا المنطلق مثلت شخصية الفيلسوف "كمال عبدالجواد" التي يتحدث عنها نجيب محفوظ كونها تجسيداً لشخصه. وكان اول تحدٍ لي في تعبير أسميه اللون الأبيض. ماذا تعني باللون الأبيض؟ اذا أردنا ان نقارن بالعين المجردة بين اللون الابيض واللون الأحمر. نجد ان الأخير اكثر لفتاً للانتباه وجذباً للأبصار، لأنه لون ساخن وفاقع. فإذا أنا أعطيت قماشاً بهذا اللون لأي خياط غير متميز سيصنع منه شيئاً يلفت الأنظار. الشيء ذاته يمكن ان يقع مع الأدوار ذات اللون الاحمر وتغلب عليها الانفعالات القوية والمواقف الميلودرامية، مثل دور المجنون مثلا. في حين ان اللون الابيض يحتاج الى خياط "شاطر" حتى يكون اللون لافتاً للانتباه، فأنا اعتقد ان شخصية "كمال عبدالجواد" من الأدوار التي تحمل صفة اللون الأبيض. إذا بقينا في ميدان الانتاج، فيمكن لنا القول انك من بين النجوم القلائل الذين يعطون الفرص للمخرجين الشباب، انتجت ومثلت في افلام هي الأولى لمخرجيها. هل يمكن ان نسمي هذا ذكاء، بادخال دم جديد وأفكار لم يتم التطرق اليها من قبل، ومعالجة سينمائية مبتكرة لم تعرف بعد في مصر؟ ام انه مجرد تشجيع لهؤلاء المخرجين ومد يد العون لهم في بداية مسارهم السينمائي؟ "هُمَّ الإثْنين"، ان تقديم مخرج في السينما أصعب من اكتشاف نجم او نجمة. اذ ان الممثل الجديد يسهل معه الأمر بإحاطته بنجوم سابقين كبار، يساندونه، طبعاً مع دعاية ضخمة ويكفيه عمل او اثنين لينطلق في سماء النجومية. لكن اكبر مجازفة بالنسبة الى المنتج في السينما هو المخرج الجديد، لأنه الوحيد الذي يملك تخيل الفيلم في ذهنه. انا دخلت هذا الميدان من منطلقين: اولهما إيماني الحقيقي بأنه عليّ مد يدي الى المخرجين الشباب، خصوصاً بعد الغاء القطاع العام في السينما. وهكذا قدمت من انتاجي مخرجين في اول افلامهم كسمير سيف في اول فيلمين له "دائرة الانتقام" و"قطة على نار"، ومحمد خان في "ضربة شمس" ومحمد النجار في "زمن حاتم زهران"، داوود عبد السيد على رغم انني لم انتج "الصعاليك" فأنا الذي أتيت بالموزع، عاطف الطيب ايضاً في "الغيرة القاتلة". وكان الرد للجميل انني وُلدت للمرة الثانية كممثل مع جيل يولد للمرة الأولى. اذ اضافة الى الذين ذكرتهم مثلت مع مخرجين ينجزون اول افلامهم. فلو اجريت احصاء ستجد انني اكثر من ظهر في الأعمال الأولى، لمخرجيها: محمد عبدالعزيز، محمد فاضل، أنور الشناوي، سعيد مرزوق، محمد راضي، حسين الوكيل… لا "دُولْ كِتيرْ"، فوق العشرين مخرجاً. وهذا كان افراز عصر، حيث صادفت "ولادة" جيل جديد من المخرجين. الجانب الآخر الذي اؤيدك فيه هو انني كنت واعياً ان الدم الجديد في الاخراج سأستفيد منه كممثل، اذ سيقدمني بشكل مغاير عما تعود الجمهور ان يراني من خلال رؤية مخرجين قدامى. لكن هل كانت النتيجة مرضية مع كل المخرجين الذين تعاملت معهم منتجاً او ممثلاً؟ كلهم، الا واحد اعفني من ذكر اسمه، كانت التجربة من انتاجي وأوقفتها، لأنه لم يكن أميناً، اتفقنا على المشروع وعندما بدأ التصوير أخذ يغير السيناريو، وهذا سلوك ارفضه وأعتبره لاأخلاقياً، فما دام المخرج قد وافق على السيناريو فعليه تنفيذه، له ان يتصرف في حدود الابداع: "التصليحات" الطفيفة، ان يجعل سلوك الشخصية منطقياً اكثر، يغير مكان مشهد ما، ينجز صورة اجمل، التغييرات اللازمة لأي ابداع حقيقي وليس تبديل الجوهر او المكتوب. لكن على العموم أكاد أجزم انها كانت تجربة ناجحة بنسبة خمسة وتسعين في المئة. اذا انتقلنا من تجربتك الخاصة الى الواقع العام للانتاج ومشاكله، فأنت عضو غرفة المنتجين المصريين، وبهذه الصفة أريد ان استفسر منك عن مدى سلطة هذه الغرفة في حماية الانتاجات السينمائية المصرية من القرصنة. خصوصاً ان بعض القنوات عرضت "المصير" - وغيره من الأفلام قبل الموعد المحدد للبث التلفزيوني، ما أثار ضجة لكن لم تتخذ اي اجراءات قانونية. الا ترى ان الغرفة مقصرة في هذا الجانب؟ للأسف الشديد… الغرفة هي هيئة أهلية للتنظيم والدفاع عن السينما داخل مصر، اما خارجها فلا بد ان يكون للغرفة اجهزة مكملة لها تدافع عنها. على سبيل المثال اذا تعرض الفيلم الاميركي للقرصنة، السفارة الاميركية ووزارة الخارجية هما المدافعان. منذ اربع سنوات كنت عضواً ممثلاً للسينمائيين المصريين في مكتبة الكونغرس لمناقشة حقوق المؤلف، وكانت وفود اخرى من الدول العربية حاضرة: لبنان والمغرب وتونس… وكان الموضوع حول قرصنة الأفلام، وشرائط الأغاني، والأسطوانات، وأسطوانات الكمبيوتر، والكتب الجامعية. وفي نهاية المحاضرات قالوا لنا صراحة انه لا بد من اصدار قوانين لحماية المؤلفات مقابل ان يحموا اعمالنا في اميركا، واذا لم يتحقق هذا، يتم حسم قيمة الخسارة من المعونة الاميركية. وهنا يتبين ان الحكومة الاميركية هي التي ساندت اتحاد المنتجين الاميركيين وشركات الانتاج لكي تحصل على حقوقها. هذه الشركات الكبرى التي ذكرت انشئت حديثاً. وتم تخصيص الاستوديوهات لمصلحتها، هل تظن ان دخول رجال الأعمال ميدان الانتاج سيكون في مصلحة السينما المصرية؟ بدأوا يخدمون السينما، فشركة واحدة انشأت ثماني دور عرض في ظرف اربعة اشهر، وفي خطتها اربعون خلال سنتين. لو تم هذا فشكراً لهذه الشركة لأن مصر كلها بسكانها الثلاثة والستين مليوناً لا توجد فيها سوى مئة وأربعين دار للعرض، في حين اننا محتاجون على الأقل الى ستة آلاف قاعة للعرض. فان تضاف اربعون قاعة وشركة اخرى هذا يمثل ايراداً حقيقياً سواء للفيلم المصري او الأجنبي. الجانب الآخر الايجابي، ان احدى الشركتين الكبيرتين انتجت بالفعل ستة افلام خلال ستة اشهر، وهذا يدل على انهم سيساعدون السينما. مثلت مسلسل "الحرافيش" عن قصة لنجيب محفوظ، وقيل انه انتاج ضخم وسيدبلج باللغة الفرنسية. هل لك ان تحدثنا عن هذا العمل، وما يروج عن عدم بثه في التلفزيون المصري؟ نعم، هو لم يبث حتى الآن في القنوات التلفزيونية المصرية. حاولت ان اجعله يبث في التلفزيون المصري في رمضان، لكن لم أوفق. عندنا في التلفزيون ثلاث مؤسسات ضخمة للانتاج: "قطاع الانتاج" وهو الذي قدم في السنوات الماضية اهم الأعمال، "صوت القاهرة" وشركة جديدة تابعة لمدينة 6 اكتوبر للانتاج الإعلامي. اذن قالوا لي من المعقول ان يبثوا مسلسلاً من انتاج القطاع الخاص ويتركوا مسلسلاتهم خلال شهر رمضان. تقبلت هذا التبرير، لكن الى لآن لم يعرض، انا لا ادري السبب وسألتهم فردّوا انهم سيعرضونه قريباً، طلبت منهم ان يؤجلوه لأنها فترة امتحانات، واذا عرضوه لن تراه الا فئة قليلة. "الحرافيش" مشروع ضخم أتمنى ان يكتمل، كان معروضاً علي منذ اربعة عشر عاماً من مكتب يوسف شاهين للانتاج، لكن المشروع تعثر واستلمته شركة اخرى. بعضهم يظن انه إعادة لفيلم "الحرافيش" لمحمود ياسين واخراج حسام الدين مصطفى، لكن هذا الفيلم مجرد جزء من "ملحمة الحرافيش" التي اعتبرها من اجمل ما كتب نجيب محفوظ، وهي مكونة من عشر قصص، الأولى التي مثلناها في المسلسل "عاشور الناجي"، الذي يرمز به الى خلاصة الاخلاق والقيم الدينية، يستطيع تحقيق العدل داخل الحارة المصرية استناداً الى قيم ومثل، ويختفي في نهاية الجزء الأول. وسأظهر فيه كضيف شرف، سيكون من بطولة إلهام شاهين التي كانت معي في الجزء الأول وفازت في استفتاء الفضائيات بأحسن ممثلة في حين فزت بأفضل ممثل ونجدة اسماعيل أنزور بأفضل مخرج. على ذكر نجدة أنزور، انه يردد ان الدراما السورية تجاوزت نظيرتها المصرية ما رأيك؟ انا لا أعترض، كل انسان يرى في نفسه ما يراه. لكن من المؤكد ان نجدة اسماعيل أنزور ومخرجين آخرين، وليس وحده، ارتقوا بالدراما السورية. أتمنى ان لا يغتر. فليكن للفنان ثقة بنفسه لكن ليس الى هذه الدرجة. انا احب اعماله "ونفسي اشتغل معاه"، لكني اناشده العقل ثم العقل، وأتمنى ان لا يغيره النجاح. يوسف شاهين 47 عاماً من الاخراج. وصلاح ابو سيف 52 عاماً من الاخراج، لكن لم نرهما يوماً في حالة غرور. نجدة أنزور نتاج طبيعي، وتميزه يتجلى في الأعمال التاريخية - الاسطورية، التي تعتمد على الصورة. نحن في مصر لدينا هذا لكن بصورة أقل. مؤكد ان نجدة أنزور وباسل الخطيب ومجموعة كبيرة من المخرجين السوريين استطاعوا ان يجعلوا الدراما التاريخية السورية اكثر تفوقاً من الدراما التلفزيونية التاريخية المصرية، هذه حقيقة، لكني اناشده بكل حب ان يفكر قبل ان يطلق أحكامه لكي لا يختل توازنه.