أود في مداخلتي هذه أن أوضح أمورا بعضها لن يخفى على القارىء وبعضها قد يغيب عنه في مسألة "الخبز الحافي". ففي مداخلة عباس التونسي في "الحياة" في رده على حسن داوود 15/4/1999 وتعقيبه على رد حسن داوود له 4/5/1999، بعض المغالطات والاتهامات التي لا بدّ من تصحيحها، فهي تظلمه كمثقف ومناضل أكثر ما تظلم من وزع اتهاماته عليهم. في المداخلة الأولى يبدأ الصديق التونسي بإدانة منطق الوصاية والإجبار لينتهي بتبني هذا الموقف حين يقول في خاتمة المداخلة "ولماذا يعتبر استبعاد كتاب ما من المقررات الإجبارية منعا وحظرا وقمعا؟" وعلى تهافت السؤال الذي يمكن إعادة كتابته "لماذا يكون الاستبعاد استبعادا؟" فهو أيضاً موقف منفصم، بل مناقض للموقف الذي استهل التونسي مداخلته به. وقد كرر التونسي في مداخلته الثانية مفهوما خاطئا عن "المقررات الإجبارية التي يطالب كل الطلاب العرب دراستها". فهذه المقررات، التي أفضل تسميتها بالمقررات الإلزامية، ليست كما وصفها الزميل عباس التونسي. فالمقرر الإلزامي يشمل "الأدب العربي الحديث" لكن هناك حوالي ست شُعب لتدريسه يحق للطلاب اختيار الشعبة التي يفضلونها، وكل أستاذ يحق له أن يختار ما يشاء من الكتب على أن تدخل في سياق الأدب العربي الحديث. فهناك تنوع شديد بين الشُعب يعكس تنوع الأساتذة، مما يوفر خيارات متعددة للطالب. ثانياً أود أن أوضح أن الطالب في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عندما يبدأ دراسة في مادة ما يقدم له الأستاذ مخطط المادة لذلك الفصل الدراسي أي الكتب التي سيدرسها والامتحانات أو البحوث المطلوبة. فإذا لم يعجبه الأستاذ أو المخطط له الحق أن يستبدل شعبته بشعبة أخرى. وحتى بعد حوالى الشهرين من بداية الفصل يحق للطالب أن يسقط المادة من برنامجه دون أن تعتبر سقوطاً في المادة وفي حالات خاصة يسمح له بإسقاط المادة حتى بعد ذلك، بعد موافقة الأستاذ ورئيس القسم والعميد. وبالتالي فهناك مجال واسع للطالب الذي يستاء من كتاب أو مخطط في مرحلة أولية أو متقدمة أن يتخلص من المادة. أود أيضا أن أضيف أن هناك آليات في الجامعة الأمريكية نفسها لاعتراض الطالب، منها أن لكل طالب أستاذاً مرشداً يمكن أن يرجع له، بالإضافة إلى الأستاذ الذي يدرّس المادة، ورئيس القسم، والعميد الأكاديمي وعميد الطلبة، إلخ. وعلى الطالب أن يستخدم هذه الآليات المتاحة له إن كان سينخرط في تعليم جامعي. فالجامعة - على خلاف روضة الأطفال - يهمها أن يقف الطالب على قدميه وأن يتعلم كيف يدافع ويواجه، يتفق ويختلف، دون الرجوع إلى حضن الأم، مع أنني أتفهم تماماً غواية حضن الأم. المسألة إذن ليست فرض كتاب على طالب، بل فرض طالب على الطلاب الآخرين لما يراه هو وذووه، وهو أمر غير مقبول، على الرغم من أن هناك مجالاً واسعاً أمامه لتفادي كتاب أو أستاذ. وهناك "معلومة" لا أدري من أين جاء بها الزميل التونسي تفيد بأن "الخبز الحافي" رواية لم تكتب باللغة العربية بل كتبها خواجة اعتماداً على حكاية محمد شكري بالإسبانية الركيكة. ويذهب التونسي في نهاية مقاله إلى تساؤل بلاغي: "فهل أطمح في أن يشرح لي أحد ما عجز عقلي غير المتحرر عن إدراكه وهو لماذا تندرج هذه الرواية أو السيرة الذاتية تحت اسم الرواية العربية؟" ولم أكن أعرف أن التونسي يعرف الإسبانية، ناهيك عن إجادته لها ليحكم على كونها ركيكة أو بليغة. لقد صرّح كل من محمد شكري ومترجمه الكاتب الأمريكي المعروف بول بولز، بأن "الخبز الحافي" كتب بالعربية الفصيحة أولاً ثم تم نقله إلى الإنكليزية. ففي مقدمة بولز لترجمته الإنكليزية، يقول إنها "مخطوطة مكتوبة بالعربية الفصحى" وسواء نقلها عن الإسبانية أو الفرنسية أو العامية المغربية فهذا أمر يعنيه هو كمترجم باعتباره استخدم وسيطاً للنقل، ولا يغيّر من الأصل شيئا. وسأستشهد بمقابلة مع محمد شكري توثيقا لما أقول: "الناشر بيتر أون كان قد سمع من بول بولز شذرات عن حياتي المتشردة فاقترح عليه أن يطلب مني كتابة سيرتي الذاتية. حتى ذلك الحين لم أكن قد نشرت سوى قصص ومقالات في مجلة "الآداب" البيروتية والملحق الثقافي لجريدة "العلم". الحق أني كنت أريد أن يظهر لي أول كتاب بأي ثمن لأثبت لنفسي أني صرت كاتبا. وعندما طلب مني بول بولز كتابة سيرتي الذاتية قلت له فورا: "ولكنها مكتوبة، وهي عندي في الدار منذ فترة". وطبعا لم تكن لي منها جملة واحدة مكتوبة، ولكنها كانت مكتوبة في ذهني. وكنت أنوي كتابتها بعد أن يأتيني قليل من المجد الأدبي. وكما هي حياتي كلها مبنية على التحدي جئته في مساء اليوم التالي بالفصل الأول مكتوبا باللغة العربية الفصحى كما هو الآن في الطبعة العربية، وكذلك الفصول الأخرى إلا بعض التنقيحات التي أجريتها عندما طلب مني المخطوط الطاهر بن جلون عام 1980 ليترجمه إلى الفرنسية". مجلة "ألف" - العدد السادس، ربيع 1986. أما تدريس رودنسون أو غيره - سواء كانت وجهة نظرهم غربية أو شرقية ، ماركسية أو إسلامية - لا يعني تبني وجهة نظر الكتاب المدروس - والذي لم يكن المرجع الوحيد في المادة - وإنما يعني الوعي النقدي بمنطلقاته واستراتيجياته ومنظوره. ففي الجامعة لا يُقدم الكتاب نموذجا، ولا يلقن كما في مدرسة الحي، وإنما يتم التحليل والنقد عبره. والتنوع أساسي في تنمية الفكر النقدي وملكة التمييز، فإذا اقتصرنا على منظور واحد أسسنا لأحادية فكرية، لا أظن أن التونسي يسعى لها. كل ما سبق وضعته في نطاق أن التونسي الذي عرفته بظرفه ومشاغبته قد خانه التعبير والتفكير هذه المرة، ويمكن أن نتغاضى عن ذلك، مصححين له عرضا. لكن ما هالني وصدمني في مداخلته الأولى هو اتهامه للأستاذين العربيين في جامعتي كاليفورنيا وكولومبيا بالتواطؤ مع الإمبريالية والصهيونية واستمراره في التخوين في مداخلته الثانية، لمجرد أنهما دافعا عن أمر بديهي، ألا وهو حرية الأستاذ المتخصص في اختيار كتب مادته، ولم يدافعا قط عن حتمية تدريس هذا الكتاب أو ذاك في أي مادة أو مقرر. ويدينهما لأنهما لم يصدرا بيانا عن هيئة التدريس عندهما يرفض العدوان الأمريكي على العراق، ولأنهما لم يكتبا عن رموز نضالية يذكر منها التونسي محمود درويش وصنع الله إبراهيم ويحيى الطاهر عبدالله وإميل حبيبي. من المؤسف حقاً هذا الهجوم على أستاذين شاركا تحديدا في مناهضة الفكر الكولونيالي وتوابعه والكشف عن تجليات العنصرية - بما في ذلك وجهها الصهيوني - في أعمالهما، وقد كتبا عن غسان كنفاني وسحر خليفة ولطيفة الزيات - على سبيل الذكر لا الحصر - ودعا أحدهما صنع الله إبراهيم إلى جامعة كاليفورنيا لفصل دراسي. كيف يمكن أن تستباح سمعة أستاذين ساهما في كتاباتهما وتدريسهما ونشاطهما المهني في رفع الجبين العربي والدفاع عن القضايا الإنسانية، كيف يستباحا بهذه الطريقة الفجة؟ هل كلّف التونسي نفسه عناء العروج على مكتبة الجامعة - وهي على مرمى حجر من مكتبه - ليتعرف على كتاباتهما؟ هل طلب منهما مخططات ما يدرّسان؟ لو سألني التونسي لأعلمته تحديدا ماذا فعل هذان الأستاذان الشريفان من أجل شعب العراق وشعراء العراق ومثقفي العراق. هناك ازدواجية مخلّة في منطق التونسي: فهو يفسّر غياب بيانه ضد العدوان على العراق بالصدمة والذهول، وأنا لا أشك على الإطلاق في صدقه وإخلاصه ومشاعره الإنسانية والوطنية، ولكن لماذا يفترض أن الغياب المماثل عند الآخرين لا يدل إلا على عدم الاكتراث؟ وإذا انشغل الآخرون بالدفاع عن موقف ما من مسألة "الخبز الحافي"، ألم ينشغل هو أيضاً بها كاتباً مداخلات عديدة في الصحف وفي البريد الإلكتروني؟ أيصح هذا الطعن في الآخر لمجرد أنه أخذ موقفاً مغايراً؟ بالله عليك يا عباس أيصح هذا؟ كلمة أخيرة لا بد منها: الدفاع عن "الخبز الحافي" لا يعني الدفاع عن حرية التعبير عن الجنس بالضرورة، فالرواية لا يمكن أن يختزلها قارىء إلى المشهد الجنسي إلا إذا كان يقرأها متلصصاً على هذا الجانب. كما أن الموتيف الجنسي ليس غريباً على التقاليد الأدبية العربية، منذ امرىء القيس حتى سعدي يوسف ومروراً بأبي نوّاس، وبشقي الأدب العربي: الشعبي والفصيح، من "ألف ليلة وليلة" إلى الجاحظ وابن حزم الأندلسي. إن "الخبز الحافي" عمل موجع ومؤثر لأنه يصف معاناة طفل وحرمان شريحة من المجتمع من أبسط الحقوق. إنه وثيقة إنسانية واجتماعية وأدبية، تظهر لنا جميعاً قصورنا وتقصيرنا، وقد يكون هذا هو السبب الأعمق، المسكوت عنه، في استبعادها، فالويل لأدب لا يغازل نرجسيتنا. * كاتبة عراقية، أستاذة الأدب الإنكليزي والمقارن في الجامعة الأميركية بالقاهرة.