تجد اسرائيل نفسها قبل أسبوع فقط على الانتخابات في خضم دعاية انتخابية هي الأسوأ في تاريخها، ولا يكفي لوصفها القول بانها "حملة انتخابية سلبية". ولا بد ان يثير هذا الوضع تساؤلات جدية حول الثقافة السياسية للبلاد. تُداس الايديولوجيا حالياً في اسرائيل. ففي منعطف حاسم كهذا تدور الحملة الانتخابية حول الشخصيات وجاذبيتها على حساب السياسة والرؤية. ها هو ايهود باراك، رئىس الاركان السابق ومرشح حزب العمل، يقدم نفسه كبطل عسكري يسعى الى رئاسة الحكومة. واياً تكن مشاريعه لمستقبل اسرائيل فانها تبقى غامضة وغير معلنة، كما لو انها لا تعني شيئاً بالنسبة الى الحملة الانتخابية الجارية. ويقوم رد كتلة ليكود، كما عبّر عنه نائب وزير الدفاع سيلفان شالوم، على اثارة تساؤل حول صور باراك وهو يرتدي الزي العسكري، مع اجراء مقارنة خرقاء بين باراك وصدام حسين. تُظهر انتخابات 1999 في اسرائيل، حسبما يبدو، انه لا قيمة لأي شيء بعد الآن. يجول المرشحون في خيلاء برفقة بطانة من المستشارين الاميركيين الذين يناقشون علناً ما ستكون عليه الخطوة اللاحقة. وتتحول مهنة السياسة المحترمة الى شيء اشبه بلعبة من العاب الواقع الافتراضي. ومما يؤسف له ان النظام الذي سيُشكل بموجبه الائتلاف الحاكم يؤمن عملياً شلل الحكومة المقبلة كما شهدنا في حالة نتانياهو، وكذلك في عهد رابين، ما يحوّل العنصر "الافتراضي" في هذه الانتخابات الى واقع دائم. والارجح ان تدفع اسرائيل ثمناً باهظاً مقابل هذا العبث. اُطلقت قبل أسابيع قليلة الاعلانات الانتخابية المتلفزة التي تُبث لمدة 45 دقيقة بعد نشرة الاخبار المسائية. وهي تغذ السير بالفعل في اتجاه عدمي على رغم انها لم تبلغ ذروتها المتوقعة. وكان بينها اعلان لحزب "شينوي" الليبرالي الصغير، الذي يخوض الانتخابات بالاستناد الى برنامج مناهض للدين، يُظهر القبعات التقليدية الدينية وهي تتحول ببطء الى قبعات حديثة الطراز. ويبدو هذا الاعلان لكثيرين كما لو انه ينزع الشرعية عن جزء باكمله من المجتمع. وهو، مرة اخرى، لا يتناول الافكار بل الاشخاص. يمثل هذا، ببساطة، اللجوء بشكل لا اخلاقي الى استخدام تهديدات او تكتيكات غير ديموقراطية في انتخابات ديموقراطية. وفي مثال آخر على تدني المستوى بشكل مريع، اختار وزير الداخلية إيلي سويسا ان يتهم تومي لابيد زعيم حزب "شينوي"، وهو احد الناجين من المحرقة ومن اصل هنغاري وصحافي سابق، باستخدام تكتيكات انتخابية على النمط النازي. كما لجأ آخرون الى استخدام موضوع المحرقة المشين. ومن ضمن هؤلاء اري درعي، زعيم حزب "شاس" الذي دين اخيراً بتهم الفساد وتلقي رشاوى. فقد اصدر تحت ستار الدعاية الانتخابية شريط فيديو يتهم فيه السلطات القضائية في اسرائيل بمحاكمته "مثلما حاكموا ادولف ايخمان". هكذا، يتفشى الاستهتار الاخلاقي. وفي موازاة الاعلانات الانتخابية التلفزيونية، يبدو الجمهور العام بعيداً كل البعد عن ادراك اهمية انتخابات 1999. فهو يستقبل الاحزاب بصيحات استحسان تارةً واستهجان تارة اخرى كما لو كانت فرقاً رياضية متنافسة يطارد احدها الاخر في ميدان سباق موحل. يخوض الانتخابات الاشتراعية التي ستجري في 17 أيار مايو الجاري 33 حزباً، يشارك 22 منها للمرة الأولى، وتتنافس على 120 مقعداً في الكنيست. ولا يُعتقد ان الكثير منها سيحصل على الحد الادنى من الاصوات الضروري لدخول الكنيست، الذي يبلغ 5،1 في المئة من اصوات المشاركين في الاقتراع، وهو ما كان يعادل حوالي 50 الف صوت لكل مقعد في انتخابات 1996. والتنظيمات السياسية التي ستهيمن على البرلمان المقبل هي حزب "ليكود" بزعامة رئىس الوزراء بنيامين نتانياهو وائتلاف "اسرائيل واحدة" - الذي يضم حزب العمل وحزب "غيشر" الجسر بزعامة ديفيد ليفي و "ميماد" - وحزب الوسط الذي اُنشىء اخيراً ويضم منشقين من ليكود والعمل. والفوارق بين هذه التنظيمات ليست كبيرة. فالثلاثة كلها صهيونية، وتلتزم اقتصاد السوق وتسعى الى السلام مع الجيران العرب لاسرائيل فيما يجري التمسك ببنية دفاعية قوية. وتتعلق الفروقات بينها الى حد كبير بالاسلوب. فليكود ينظر الى الفلسطينيين كعدو ماكر يسعى الى انتزاع ثمن غير مقبول مقابل السلام. ويقول ايهود باراك زعيم العمل انه ليس اقل اهتماماً بحاجات اسرائيل الدفاعية من نتانياهو، لكن افضل ما يخدم الامن والنمو الاقتصادي هو احتضان الفلسطينيين كشركاء. ويتبنى امنون ليبكين شاحاك، الشخصية القيادية الثانية في حزب الوسط، خطاً يشبه الى حد كبير خط باراك ازاء قضية السلام، لكنه ذهب شوطاً ابعد بعض الشيء بإعلانه قبول فكرة الدولة الفلسطينية. وعلى مدى 51 سنة منذ قيام دولة اسرائيل لم يفز اي حزب بمفرده بغالبية مطلقة في مقاعد الكنيست، ما يجعل الانتخابات في الواقع المرحلة الاولى في عملية بناء ائتلاف حاكم. وتعقبها عادة اسابيع من المفاوضات فيما يجري التوصل الى صفقات. وأدى القبول في 1996 باجراء انتخابات منفصلة للكنيست ولرئيس الوزراء الى اضعاف حجم الاحزاب الرئيسية ونفوذها، اذ تتوجه اعداد اكبر من الناخبين الى التصويت على القضايا الايديولوجية الراهنة عند اختيار رئيس الوزراء بينما يدلون باصواتهم وفق نوازع اكثر تشعباً وذاتية عندما يختارون احدى لوائح المرشحين الى الكنيست. ويلجأ عدد متزايد من الناخبين الى اختيار اعضاء البرلمان وفق ميول قومية أو دينية. وهو ما يفسّر نمو حزب "شاس" الذي يمثل اليهود الارثوذكس المتطرفين المتحدرين من شمال افريقيا والشرق الاوسط، ونشوء احزاب تسعى إلى اجتذاب اصوات المهاجرين الناطقين باللغة الروسية وكذلك القادمين من رومانيا واثيوبيا. وفي اعقاب ادانة زعيم "شاس" اري درعي بتهم الاحتيال وانتهاك الثقة، اصبح الحزب يتصدر انتقادات معسكر غلاة اليهود الارثوذكس ضد الجهاز القضائي للدولة الذي يتهمه بكونه اداة في ايدي نخبة ملحدة من الاشكيناز. وهو يتبنى هذا الموقف على رغم ان السفارديم الملتزمين دينياً يشغلون ارفع المناصب في الجهاز القضائي. وبلغت موجة الانتقادات ذروتها في شباط فبراير الماضي عندما نزل ربع مليون من المتظاهرين الى شوارع القدس احتجاجاً على المحاكم المدنية. ونظمت في مكان قريب تظاهرة اصغر حجماً بكثير، مؤيدة للديموقراطية وحكم القانون. ويتجاوز نفوذ "شاس" كثيراً قدرته على تنظيم انشطة احتجاجية في الشارع. ولا يُستبعد ان يتمكن الحزب من التحكم بميزان القوى في البرلمان المقبل. أما ليكود، الذي تركه الكثير من ابرز اعضائه خلال السنوات الثلاث الماضية بسبب خلافاتهم الفكرية والشخصية مع نتانياهو، فمن المؤكد ان حجمه سيتقلص بشكل حاد، ربما الى حوالى 20 مقعداً. كما خسر حزب العمل بعض شخصياته المعروفة التي التحقت بحزب الوسط و"حزب العمال" الجديد. وفي الواقع، يخوض ما لا يقل عن 29 من المرشحين ال120 الذين اُنتخبوا الى دورة الكنيست ال14 المعركة الانتخابية هذه المرة تحت راية احزاب اخرى. والسؤال هو: هل تغير الحجم النسبي للكتل السياسية؟ لا يبدو ان هناك اي دليل على ذلك في الوقت الحاضر، واحتمال ان يتولى اليمين او اليسار قيادة الائتلاف الحاكم المقبل يبدو متكافئاً. وينطبق الشيء نفسه على التنافس على منصب رئيس الوزراء. ويواجه نتانياهو اربعة منافسين: ايهود باراك زعيم ائتلاف "اسرائيل واحدة"، ووزير الدفاع السابق اسحق موردخاي الذي يتزعم حالياً حزب الوسط، وعزمي بشارة زعيم حركة "البلد" - اول عربي يتنافس على هذا المنصب -، وبيني بيغن ابن رئيس الوزراء الاسبق مناحيم بيغن، وهو منشق آخر من ليكود. لكن السباق الفعلي يدور بين نتانياهو وباراك اللذين تعطي استطلاعات الرأي حوالى 40 في المئة لكل منهما، وهما يتقدمان على بقية المنافسين بفارق كبير. ويعني هذا انه بعد تصفية الآخرين في 17 أيار مايو الجاري، سيتواجه نتانياهو وباراك في جولة ثانية حاسمة في 1 حزيران يونيو المقبل. واياً كان الفائز ستكون قدرته على رسم السياسة مقيّدة وفق ما تمليه سياسات التحالف، سواء كان ذلك ضمن ائتلاف تقليدي او حكومة وحدة وطنية تضم اليمين واليسار. وعبّر دان تيكون، وهو رئيس الكنيست الذي كافح من اجل رفع الحد الادنى الضروري لدخول الكنيست من 5،1 في المئة الى 5 في المئة، عن مخاوفه من ان يؤدي تزايد عدد الاحزاب الصغيرة الى جعل رئىس الوزراء ينوء تحت عبء ائتلاف كبير يصعب التعامل معه لدرجة انه سيتمزق قبل الاوان وستُضطر البلاد الى خوض العملية الانتخابية كلها مرة اخرى. * كاتب إسرائيلي.