فيلم كلينت ايستوود الجديد "جريمة حقيقية" مثل معظم أفلامه الأربعين السابقة ذو موضوع محدود، منفذ بتقنية رفيعة فيه رسم لا يقل جودة للشخصيات. إنه رصين تمثيلاً واخراجاً. ومهمة صنع هذا النوع من الأفلام شاقة الآن، مشقتها ليست في البحث عن تمويل، فشركة "وورنر" لا تزال تقف وراء ايستوود لأنه سينمائي ماهر وغير متعب، يسلم الفيلم في الوقت وضمن الموازنة وأحياناً دونها، في ثلاثية "وسترن سباغيتي مباغتة" و"حفنة من الدولارات" و"من أجل حفنة دولارات أكثر" ثم "الطيب والرديء والبشع"، عليه اليوم أن يبرر لماذا لا يزال يعمل في السينما. إلى أن قدم فيلمه "غير المسامح" عام 1992، كان وجوده على الشاشة تلقائياً، في ذلك الفيلم الذي نال عنه أوسكاره الوحيد، لعب دور مقاتل سابق جلس يرتاح وأطال الجلسة. شب وفي يده سلاح ثم تزوج وصار لديه ولدان. في مطلع الفيلم نراه في لقطة بعيدة يحفر قبراً لزوجته تحت شجرة وحيدة. حين يكلف بالمهمة التي ستجعله يستغني عن رعي الخنازير، لا يتأخر عن تأديتها ولو على حساب ولديه. يوصي بهما جاراً لا نرى ذلك لكنه يتحدث عن الأمر فقط وينطلق غير عابئ. في الفيلم اللاحق "عالم متكامل" ترك المهمة البطولية لممثل أصغر منه بجيل كامل، وهو كيفن كوستنر الذي يؤدي دور هارب من السجن يخطف صبياً، ثم هناك تلاقٍ بين هذا الرجل الذي يعوض صورة الاب الغائبة وذلك الصبي الذي يعوض صورة الابن. أما ايستوود فقبع في دور مساند كرجل شرطة يتسرع بالحكم، لكنه أيضاً لا يقدر على انقاذ حياة الهارب. اعترف ايستوود بتخطيه سنوات الشباب عندما مثل تحت إدارة وولفغانع بيترسون "في خط النار": هو من الأمن الخاص المرافق لرئيس الجمهورية. كان شاباً عندما اغتيل جون ف. كندي، ولا يزال يشعر بالذنب لأنه كان الأقرب إلى الرئيس، ولم يستطع حمايته. الآن، صار كبيراً يلهث حين يركض. والمشكلة هي أن رؤساءه الأصغر سناً منه لا يصدقونه حين يعكس خبرته واثقاً من أن هناك خطة لاغتيال الرئيس الحالي. بعد ذلك بعام انجز، من اخراجه أيضاً، "جسور مقاطعة ماديسون"، لعب دور المصور الصحافي الذي تجاوز سن الشباب، لكنه يغرق في الحب عندما يتعرف إلى ميريل ستريب، تلك المرأة التي تعيش غالباً وحدها. لو أسند ايستوود البطولة لغيره لكان عليه اختيار ممثل فوق الأربعين أو الخامسة والأربعين. ممثل مقنع في مثل هذه الأدوار، أكثر اقناعاً من هاريسون فورد سقط بقوة حين جرب الدور نفسه في "ستة أيام، سبع ليال" مثلاً أو من روبرت ردفورد الذي صاغ من اخراجه أيضاً العام الماضي فيلما موازياً ل"جسور مقاطعة ماديسون" في عنوان "هامس الحصان" وسقط. بعد "جسور" كان "سلطة مطلقة"، ملائماً أيضاً لشخصية لص مجرب، ليس سهلاً القبض عليه، ناهيك عن القبض عليه متلبساً يشهد جريمة قتل. لا يهم من القتيلة. المهم من شارك في قتلها، ولو من غير ارادته. رئيس الجمهورية. لم أقع في غرام السيناريو الذي وضعه ويليام غولدمان، إذ جاء على نحو نبذات مما كان يجب أن يكون. لكن التفنيد شيء آخر ولديك في العشرين دقيقة الأولى فن في التوليف والتشويق كان ألفرد هيتشكوك سيرفع قبعته له لو حصل في أيامه. وقبل عامين، اخرج ايستوود من دون أن يمثل "منتصف الليل في حديقة الخير والشر". لم يكن يريد أن يلعب دور الثري ذي العلاقة المشينة مع الرجل الذي يقتله أداه كيفن سبايسي وكان أكبر من أن يؤدي دور المحقق الصحافي الذي يزور قصر الثري ويحضر محاكمته أداه جون كوزاك. لكن ايستوود كان حاضراً بتأسيسه أسلوبه الرصين. ذلك الاسلوب الباقي صلة وصل بين لغة سرد كلاسيكية من هوليوود الأولى وأخرى حديثة، لكنها ليست حديثة كفاية لفئة المراهقين والأحداث من الرواد. سباق مع الوقت الآن يطل ايستوود من جديد... متقدماً في العمر لكن هذا لا يمنعه من أن يمثل دوره بجدارة. في "جريمة حقيقية" يؤدي دور صحافي في صحيفة صغيرة. متزوج وله ابنة صغيرة تزوج متأخراً ولا يعلم لماذا لكن ذلك لا يمنعه من إقامة علاقات عاطفية مع زوجة رئيسه المباشر في الصحيفة دنيس ليري الذي يضاعف حقده على الصحافي ستيف ايستوود حين يكتشف الأمر ويرسله في مهمة محددة: اغلاق ملف فتحته صحافية شابة قضت نحبها قبل ساعات قليلة، وكانت تعمل على موضوع رجل أسود، اسمه فرانك ايزايا واشنطن متهم بقتل شابة في محل لسرقة مالها، ومحكوم عليه بالاعدام في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الواحدة ليلاً. منذ البداية يدرك ستيف أن هناك شيئاً خطأ في القضية بأسرها. يطلب من رئيس تحرير الصحيفة آلان جيمس وودز في اداء رائع السماح له بمعالجتها كما يريد، وينطلق ليبرهن قبل فوات الآوان أن فرانك ليس القاتل. إنه سباق مع الوقت من النوع الذي ينجح فيه البطل في الثواني الأخيرة. لغة توليفه السينمائي رزينة ليس فيها غش وخدع رخيصة. السرد الروائي متين كالعادة، لكنه أيضاً مرصوص بحرفية من يعرف كيف لا يضيع وقته ووقتك في الابهار. اقتصادي في العمل إلى درجة أن معظم اللقطات المختارة ليست لقطاته الأولى والثانية اثناء التصوير، بل أيضاً لا يمكن الغاؤها أو استبدالها بأخرى. وكل شيء يسير بسلاسة من دون مشاهد تريد أن تبرهن للمتفرج أن هناك عبقرياً وراء أو أمام الكاميرا. إنه ايستوود الناضج سينمائياً، وغير الناضج شخصية. الذي يتقمصه هنا هو صورة رجل على خطأ حين يخون زوجته، وعلى خطأ حين يخونها مع زوجة رئيسه، وعلى خطأ حين لا يمنح ابنته الوقت الذي تريده في حديقة الحيوانات هناك فصل من المشاهد ذات الوقع الكوميدي غير المعهود في أفلام ايستوود نراه فيه يضع ابنته في عربة صغيرة ويركض بها في حديقة الحيوانات ليعود إلى تحقيقه الصحافي. إنه، بكلمة واحدة، متعاون ومراهق غير خليق بالعائلة. وهو هنا، وسط هذا التشخيص السلبي، يكتشف المشاهد أن ايستوود - الصحافي في هذا الفيلم - هو ذاته ايستوود القذر في سلسلته البوليسية الرائعة في السبعينات. ربما لم يكن قذراً تماماً في "هاري القذر" دون سيغال 1971 أو في "قوة الماغنوم" تد بوست 1973 أو "الفارض" جيمس فارغو 1976، لكنه أصبح الآن ومع مرور الوقت كما لو أن طريقته الوحيدة للخلاص من أعباء الحياة هي الغش فيها. نفهم هذا، بل ربما نتفهمه كما لو أن ستيف هنا هو التحري بعدما ترك المهنة وتحوّل إلى مخبر صحافي، فالجريمة لا تزال مجاله وتحقيق العدالة هدفه. وهناك تطور آخر. في "هاري القذر" واحد من خمسة أفلام مثلها ايستوود تحت إدارة استاذه دون سيغل والرابع ترتيباً من بعد "خدمة كوغان" 1968، و"بغلان للاخت سارا" 1969، و"المخدوع" 1970، كان ايستوود جاداً. في "قوة الماغنوم" كذلك. في "الفارض" بدأ يعكس جانباً جديداً من تلك الشخصية: سخريتها من نفسها. في فيلم رابع من تلك السلسلة هو "صدمة مفاجئة" الذي أخرجه بنفسه عام 1983، تبلغ السخرية مداها بتقديم نفسه كمتحر سكير. إذا افترضنا ان الصحافي هنا هو هاري القذر هناك، فإن هذا الرجل غير الجديد توقف عن السخرية. صارت لديه قناعة بأنها غير مفيدة. البديل هو قبول الحقائق التي تعنيه في حياته وعمله. لذا عندما يتحدث إليه السجين فرانك عن العدالة الإلهية وايمانه بالخالق واليوم الآخر، يوقفه ايستوود عند حده قائلاً له إنه لا يكترث لكل ذلك، بل يريد ان يعرف وبكلمة واحدة إذا كان مذنباً أم لا. ويأخذ ستيف ايستوود كلمة الرجل بلا شكوك واثقاً من أنه لا يكذب.