في السبعينات من عمره، بدأ كلينت ايستوود يخطف الأضواء مجدداً لكن بصورة مختلفة عن ذي قبل، فهو لم يعد ذلك الممثل الشاب الحاد الملامح والقوي الذي يرهب أعداءه ويصرعهم واحدا تلو الآخر في أفلام الأكشن التي اشتهر بها. فبطل (هاري القذر) والكثير من أفلام الويسترن الخالدة مثل (من أجل حفنة من الدولارات) و(الطيب والقبيح والشرير) و(الفارس الشاحب) وغيرها، بدأ ومنذ مطلع الألفية الجديدة يقلل من حضوره بطلاً أمام الكاميرا لصالح حضوره الطاغي خلفها، كمخرج، صانع أعمال ساحرة وأخاذة، وبالتحديد منذ فيلم (ميستك ريفر) عام 2003ثم الفيلم الأوسكاري (مليون دولار بيبي) عام 2004وصولاً إلى فيلميه اللذين صنعهما في نفس السنة عن الحرب العالمية الثانية (أمجاد آبائنا) و(رسائل من آيوجيما) عام 2006، لقد كانت هذه الأعمال وحدها، لو أهملنا ماضيه الذهبي، كفيلة بأن تخلده واحداً من عمالقة السينما. وبعد استراحة محارب في عام 2007، عاد اسم كلينت ايستوود بالظهور مجدداً هذه الأيام، فالأسبوع قبل الماضي شهد انطلاق عروض فيلمه الجديد (استبدال- Changeing)، والذي اختير الصيف الماضي ليكون مرشحاً ضمن مسابقة مهرجان كان الفرنسي لجائزته الكبرى (السعفة الذهبية)، وقد طال الفيلم الكثير من عبارات الثناء والمديح من نقاد المهرجان، وكان من ضمن الأفلام الأكثر حظاً لكسب السعفة، ولكن مع هذا كله، فإن الأمر اختلف في أمريكا بعض الشيء، فمع أن النقاد الأمريكيين أجمعوا على أن الفيلم جيد، وليس سيئاً، لكن الآراء حوله تفاوتت بين من يراه فيلماً (ايستوودياً) جديداً، يحمل نفس ملامح أفلامه السابقة الغارقة في سوداويتها والمشبعة بالهموم والكآبة، ومن يراه عودة إلى الوراء، وأن ايستوود لم يأت من خلاله بأي جديد!. فروجر ايبرت، أشهر ناقد أمريكي، يبدي إعجاباً شديداً بعفوية أداء أنجلينا جولي ويسبغ عليها الكثير من المديح، لكنه على أي حال معجب بالفيلم معتبراً إياه أحد أجمل أفلام هذه السنة وإن كان لم يعطه العلامة الكاملة ( 4نجوم من 4) كعادته عندما يعجب بأي فيلم. وتراوحت آراء النقاد الآخرين لكن أهم ما نستخلصه هو الإعجاب الشديد بأداء أنجلينا جولي والكثير يتوقع لها أن تكون مرشحة فوق العادة لانتزاع أوسكار أفضل ممثلة هذا العام، في الوقت الذي يعيب البعض على السيناريو (الذي كتبه مايكل سترازنسكي) تباطؤه الشديد وضعفه مقارنة بالأداءات الجيدة والإخراج المتقن. والفيلم مستوحى عن قصة حقيقية وقعت تفاصيلها في عشرينات القرن الماضي، قصة سيدة تدعى (كريستين كولينز) تكتشف مع مرور الوقت أنه تمت عملية استبدال ابنها بطفل آخر، محاولةً بشتى الطرق ووسط ظروف ومضايقات شديدة البحث عن ابنها الحقيقي. إلى جانب انجلينا جولي نجد الممثل جون مالكوفيتش، الذي سبق وأن شارك الممثل كلينت ايستوود بطولة الفيلم الرائع (على خط النار- In The Line of Fire) عام 1993، وهو من المعجبين بإيستوود ومسيرته السينمائية كمخرج وممثل. ومن جانب آخر وليس بعيداً عن موضوعنا، فهناك موهبة سينمائية أخرى بدأت تتفجر عند ايستوود، وهي موهبة الكتابة الموسيقية، ففيلمه الجديد (استبدال) هو الخامس له كمؤلف موسيقي بعد أفلامه (ميستك ريفر) و(مليون دولار بيبي) و(أمجاد آبائنا) وفيلم لم يخرجه بعنوان (Grace Is Gone) عام 2007من بطولة جون كوساك، وضع له موسيقاه التصويرية. طبعاً كل هذا النبوغ ليس إلا مقدمة لما سنحدثكم عنه من نشاطات كلينت ايستوود الجديدة القادمة، فبعد شهرين من الغموض الذي كان يكتنف عمله الجديد (Gran Torino)، والذي يعود من خلاله مجدداً ليتصدى لأدوار البطولة بعد إعلانه اعتزال التمثيل والتفرغ فقط للإخراج بعد حصوله على أوسكاره الثاني عام 2005عن فيلم (مليون دولار بيبي)، لكن المفاجأة كانت عودته للتمثيل وهو ما أثار حفيظة صديقه الكاتب والمخرج الكندي بول هاغيس (الذي كتب سيناريو ثلاثة من أفلامه هي: مليون دولار بيبي وأمجاد آبائنا ورسائل من آيوجيما) والذي كان قد طلب من ايستوود أن يلعب الدور الذي لعبه الممثل تومي لي جونز في فيلمه الأخير (في وادي الإله - In The Valley of Elah) العام الماضي، ولكن ايستوود اعتذر بحجة أنه اعتزل التمثيل!. الطريف في أمر هذا الفيلم الجديد (Gran Torino)، الذي سيعرض في أواخر ديسمبر القادم، أنه في الوقت الذي فرغ فيه ايستوود من تصوير فيلمه الأخير (استبدال) شرع بالبدء بتنفيذ مشروعه المقبل والذي يحمل عنوان (عامل الإنسان - The Human Factor) الذي يحكي قصة نضال الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، وسيكون من بطولة رفيقه الممثل الأسود مورغان فريمان الذي سيلعب دور مانديلا، ويشاركه البطولة النجم الشاب مات ديمون. هذا النشاط الذي جعل ايستوود يصنع فيلماً في ظروف سرية وبسرعة فائقة ويعرضه قبل نهاية هذا العام تجعلنا نعجب من أمر هذا السينمائي الذي نذر باقي عمره، لكي يعيش ويصنع فيلماً تلو الآخر، والأعجب هو أن يدهشنا من فيلم إلى آخر، ولعلنا نستذكر هنا أن العرب قد أطلقت في الماضي على من يبدع في سن الشيخوخة بال(النابغة)، ولعلنا نتذكر الشاعر العربي النابغة الذبياني، الذي بدأ يقرض الشعر بعد أن بلغ الأربعين، وها نحن أمام نابغة سينمائية حقيقية اسمه (كلينت ايستوود) نشتاق إلى قصائده السينمائية كل عام.