1 لا أتوقف عن استنطاق السياق الذي وجدتُ نفسي منساقاً اليه، وأنا أحاول أن أتأمل قليلاً من وضعية الثقافة العربية في نهاية القرن. شيء ما يدفعني الى الاستمرار. لعلها مذكرات كان عليَّ أن أشرع في كتابتها. وها هي تأخذ مساراً شبيهاً بالمذكرات، ربما كان ذلك احتفاظاً بصمت سميته من قبل إضراباً. اضراباً عن هذه الحالات التي تريد أن تجعل من قرن بكامله عبوراً من إلغاء مشروع تحديثي الى إلغاء مشروع تحديثي. ربما كانت الصلة بالعالم. في نهاية قرن تلزمُ بالتأمل. ونحن نسافر عبر الطرق المتعامدة أو المعرضة للاضمحلال. هناك. شيء. ولا أستعجل وضوحه. في نفسي. قبل غيري. وهو ينبثق في الدخيلة أرقاً. متواصلاً. قلقٌ. لا يتوقف. هو التأمل أيضاً. ولا بد أن نتخلص من ضرورة أن يتضح ما نُقبل عليه حتى تستقيم قضايا التأمل، ذلك ما ترسخ في الدخيلة، وأنا أقبل الصمت. في ممارسة الكتابة. الصمت والإضراب متآخيان. وكيف لي أن أكذّب ما يتكلم في أسفل ما أرى من ذاتي؟ إنّ تجنب القلق لا يعود لإرادة بقدر ما يعود للندم. وعندما أقدم على التأمل أجدني مُصرّاً على تجنب الندم. على مقاومته. في الحياة والممارسة الثقافية. فالندم يعني عدم الاقتناع بالحركية الملازمة لكل جسَدٍ حيٍّ. متوثِّب. مُقْبِل من الجهات غير المنتظرة. الدُّخَان. أو الخلاَء. ولي ذلك كلُّه. في كلمة أقذف بها في الهواء. حرة حتى لا تُؤْذي أحداً. فيما هي لا تتخلى عن مكانها. أعني القلقَ الأصلي. للجسد الحي. في زمن وفي مجتمع. الندم مضادٌّ لها. وهي تصرُّ على المضي. لا قُدماً مستقيماً ونحو الأمام كما تعودنا على القول. بل في حلزون. الدائرة المفتوحة. من سؤال الى سؤال. وهي هناك تسافر. مع كلمات أخرى كانت تسافر بدورها حرة. من أجل أن يستأنفَ القلقُ فعْلَه. في النفوس والكتابات. دون أن يعني ذلك أن هذه الكلمة تقرر في مصير ثقافة. هي لهؤلاء الذين يكتبونها. ويُلقون بها في النفوس القارئة. غاضبةً أو متسللةً من بين الشقوق التي لا تُرى إلا من طرف من هم مُهيّأون للرؤية. وعليَّ ألا أحْزَن أكثرَ من القلق. فالعالم الذي يشْرَطُنا. في هذا القرن. لا يشبه في شيء لا العالم الهيليني. للقرون السابقة. كما لا يشبه العالم المتحدّر من آسيا. نُقطتان كانتا قديماً مصدراً للتفاعل مع العالم. وهما الآن أثرُ عين. في البعيد الذي نتردد عليه في أسئلة هي في هذا الزمن. المتعاظم. شأناً. وبطشاً. واستدامةً. وفي فعل مماثل يكمن سرُّ أن أتأمل. في كلمة حرة هي أقرب من المذكرات الى كتابة تتدرّج في بناء معارجها عبر التفصيل والتدقيق اللازمين لكل ما يعطي الكتابة هيئةَ مقال أو دراسة أو تأليف. لا أسعى الى هذا الصنف. فهو متنافر مع ما يدفعني الى التأمل وما يَسِيرُ بي. في الطرق اللامتناهية. في الرؤية والإنصات. 2 ولو شئتُ أن ألخّص هذه الكلمة التي تَجْمع بين حقول مترامية لقلتُ إنها الأدب. وعلى النحو ذاته أبادر الى تَسْميةِ قرننا هذا بأنه لحظةُ الأدب. في الثقافة العربية. قد يبدو الأمر هزْلاً. وعدمَ احترام لمقام الكتابة. عندما نعلن عنه بوصفه تأملاً لوضعية الثقافة العربية. في نهاية قرن. ولكنّي لستُ من أهل الهَزْل. ولا ممّن يعاملون الثقافة بأقلّ من الجدية المطلوبة. أي بمسؤوليةِ الكلمات. ومسؤوليةِ الضحك. اقتناعي شديدٌ. بأن الممارسة الثقافية جدية. الى حدود لا نتبيّنُها على الدوام. وهي التي تسمح لنا بأن نخرج على العادة. في طرح الأسئلة، أو البحث عن المحْجُوب. في المتداول. من الكتابات. وفي ما يُرضي الخواطر التي لم تتعلم من الحداثة سوى المصطلح. لحظة الأدب. هي لحظة الثقافة العربية. في قرننا الحالي. أو في مشروعنا الثقافي التَّحْديثي. ولنا الآن أن ننظرَ إليها من مكان الممارسة الثقافية نفسه. مكان الأفكار المستحدثة. ومكان الصراعات الثقافية الكبرى الذي نكاد ننساه. اليوم. ما دمنا لا نؤمن بالذاكرة الثقافية. ونعاملها كما لو كانت بِدْعَة. عليْنَا رميُها بالحجر. انتقاماً منها. ممَّا استبدتْ به، ومما تثبْتهُ في وعيْنا الجماعي، طبيعي. هذا الأمر. أردّد في نفسي، وأنا منغمرٌ في الصمت. وتائهٌ في الخلاء. طبيعيٌّ حقاً أن نعامل الثقافة كلاَ ذَاكِرَة. فمجتمعُنا الثقافيُّ لم يبلغ حدّاً من النضج ليمارس سلطته. التي تمارسها كل ممارسة ثقافية في عالمنا الحديث. من الغرب الى الشرق. في أوروبا وأميركا وآسيا. وتلك هي علامة إخفاق ثقافتنا في التحديث. اللحظةُ. هي قبل كل شيء. لحظةٌ في لحظة، استمراريةٌ. لها فظائِعُها. درسٌ تعلمناه في الفكر النقدي. الأوروبي. وإعطاؤها مرتبة لحظة الأدب. يعني أنها تميزتْ بكون الأدب كان كلمتَها الأولى. ثم بعدَ ذلك اتجه الأدبُ جهاتٍ مختلفة. هي ما أصبح معروفاً بإسم العلوم الإنسانية. فالأدب. كان دعوة الى استكشاف الأساسي. الذي بإمكانه أن يعيد اللغة الى مرْكَزِهَا بعد أن تخلّت عن ذلك المركز. لهذا السبب أو ذاك، ولم تكن لحظة العلم. يبدو أن التفكير في الأمر ضروري. نعم. كان العرب في زمنهم الحديث. يدعون الى العلم. ويدعون الى تعلّم ما توصلت اليه أوروبا. في الحقول الملازمة لبناء حياة حديثة. في التقنية. وفي اكتساب المعارف والعلوم. لكن ذلك كان لاَحِقاً لما انشغلت به الثقافةُ العربية. الأدب. 3 هناك في الظاهر تناقض. بين الدعوة المعمّمة الى العلم وبين انتخاب الأدب كعلامة. على لحظة. الثقافةِ في زمننا الحديث. إنه تناقض ظاهري فقط. لأن العرب أدركوا أن ما يمكن أن يمنحهم التسميةَ من جديد. كعرب. وكمشروع تحديثي لبناء أمة ووعي بالوجود. هو الأدبُ. فالأدب هو أعْلَى ممارسةٍ للغة. والشعرُ جمرتُها الأولى. إنه الرّحِمُ. رَحِمُ اللغةِ. والوجودِ. العربيةُ إذن لا يمكن التغافل عنها في المشروع التحديثي. لغةٌ هيَ الأدب. والأدب هو الشعرُ. كان ذلك تلقائياً بالنسبة للكُتّاب العرب الذين انفتحوا على العالم. في الشام ومصر. ثم في أوسع البلاد. مغْرباً ومشرقاً. لم يكن المنطلق هو تجديد الدين إسلاماً أو مسيحية. بل تجديد اللغة. علينا أن ننتبه جيداً الى هذا المعْطَى الفريد. في ثقافتنا. حتى نستوعبَ. نهايةَ قرن ولربما نهايةَ مشروع. أيضاً. ولم يكن تجديدُ الدين إلا خطّاً من بين خطوط السفر. بالنسبة للمسلمين كما بالنسبة للمسيحيين. فالأدب كان يعني العودةَ الى ما يُسَمِّي. الذاتَ الجماعية. الوجودَ. الجماعيَّ. الكائنَ والكينونةَ. في التأمل تبرز الإشارات التي كانت تملأ الكتابات. ولم نعد نعْبَأُ بها. أم نعد ننتبه اليها. اللغةُ بهذا المعنى أسبقُ من الدِّين. يمكنك أن تمارس الدين بأي لغة ولكن الأدب. الوجود والكينونة لا يمكن ممارستهما إلا في اللغة. أدباً. أي شعْراً. في البداية. وشعراً في كل انبثاق تحديثي. والصراع الذي نشأ حول الشعر. في المراحل المختلفة للحظة الثقافية التحديثية. بارزٌ. وعلينا ألا نصرف الانتباه عنه الى ما هو مُتَفرِّع عن هذه النقطة. أصل التكوين الجماعي. لكلمة. العروبةِ. في زمننا. وإنّ ما نلاحظه. في نهاية القرن. هو للأسف عدم استيعاب رمْزيّة الأدب في لحظتنا الثقافية. ورمزيةِ الشّعْر، لا بالنسبة لنا. القريبين من فتْنَة الشعر. بل الذين يعملون على إعَادة التسميةِ فيما هم يَعْملون على اعَادة الميلاد. البعث. كما في الخطابات الثقافية التي اتبعت أثَر الثقافة الأوروبية في رصد الوقائع وتوجيهها. نحو النموذج. أي العودة الأوروبية الى ماضيها الأدبي. اليوناني أو اللاتيني. 4 لحظةُ الأدب. كانت لحظة الثقافة العربية. التي عشناها. كتابات تفتح الطرق المجهولة. في بناء المتخيل الجماعي والفردي عن الذات وعن الآخر. ومهما حاولنا التنصُّل من رؤية لحظة الأدب. في المنجز الثقافي فنحن لا نقدر على الغاء ما تَمَّ إنجازُه. إلا إذا نحن نظرنا الى هذه اللحظة كاختيار يجب التخلي عنه الآن. على غرار ما نقرأ اليوم من دعوات متلاحقة. لا تدرك طبيعة الثقافة العربية القديمة. وتَجْهَرُ إما بأن اللغة وسيلةٌ تعبيرية ومن ثم بالتعبير عن الذات الفردية والجماعية في لغة أخرى كما هو الشأن بالنسبة للفرنكوفونية. دعوةٌ إيديولوجية لا يمكن الدفاع عنها نظريّاً ولا معْرفيّاً. وإما بأن العروبة قاصرةٌ عن إدراك نوعية مجتمعنا وخصيصةِ تاريخه. بالنسبة للحركات الإسلامية التي تطالب اليوم بأدب إسلاميٍّ. وهي تلتقي مع الدعوة الفرنكوفونية في كونهما معاً دعوتَيْن إيديولوجيتين. من خارج التاريخ الثقافي للعرب ومن خارج المعرفة الأساسية للتحديث الثقافي على الصعيد الإنساني. وأقل ما يمكن للتأمل أن يسمح لنا به هو إدراكُ قوة لحظة الأدب. في ثقافتنا الحديثة. أقصد بالقوة الإنتاجَ الثقافيَّ الذي أخذ شيئاً بالبروز من منطقة الى أخرى. عبر بلادنا. حسب الخصائص المحلية. اجتماعيّاً وثقافيّاً. من البنيات السفلى للثقافة الى المؤسسات. كما أقصد الفعْلَ الذي أحدثَهُ الأدبُ في إظهار الحالة المشتركة. التي أعطتنا ما هو الآن معبِّرٌ عن الذوات الفردية والجماعية. من الشعر الى السرد إلى المسرح. أو في ممارسات حديثة التصقَتْ بالصحافة أو ببنْيات الإنتاج الثقافي. من صحافة الى جامعة الى دور نشر. وهي التي أهّلَتْ هذه الثقافة لتكون تجسيداً لما معنى لحظة الأدب. 5 تحتاج لحظة الأدب. في نهاية القرن الى حوار معرفيِّ موسَّع يُساهم فيه الكُتّاب الى جانب البَاحثين والصّحَافيّين. فهذه الأطرافُ عمِلَتْ جميعُها على اعادة التسمية. تسمية لا تُشبه ما أوْدَعَهُ القديمُ في نفوسنا إلاَّ عندما أصبح بدوره مقروءاً. في زمننا. من خلال. لحظة الأدب. ذاتها. أما هو هناك. في القديم. فلم تكن له الوضعية ذاتها ولا كان له الفعل ذاتُه. بين القديم والحديث. لم ينقطع الأدبُ. بل انقطعَتْ أفكارٌ عن الأدب. ولحظة الأدب سفرٌ في طريق. اللغةِ. الوجودِ. الكينونةِ. مشروعاً تحديثياً. لم نُسائلْهُ بعدْ.