لعل العيب الأساسي في السياسة الأميركية المرتكزة على "احتواء واستبدال" النظام في بغداد هو استخدام العقوبات الاقتصادية سلاحاً فتاكاً بالشعب العراقي لانجاح استراتيجية الاطاحة، وفي تهديد هذا الشعب المقهور بأن "بقاءه" مع الرئيس العراقي صدام حسين "يطفئ الضوء في نهاية النفق" كأن الشعب العراقي هو الذي اختار تلك القيادة او يرفض تغيير هذا النظام. والأنكى ان واشنطن تضع استمرار العقوبات الاقتصادية حجر الأساس في سياسة الاحتواء واطاحة النظام التي تحرص على تحريرها من القيود الزمنية ولا تعرف اذا كان تنفيذها سيستغرق شهوراً او سنوات. بغض النظر عن المواقف الحكومية العربية من النظام في بغداد التي تقول واشنطن انها في معظمها متطابقة مع المواقف الأميركية، يفترض بكل الهيئات العربية، الحكومية والشعبية ان ترفض السياسة الأميركية المتمسكة ببقاء العقوبات تحت أي ظرف كان والتي تقوم على استخدام العقوبات الاقتصادية سلاحاً في اي سياسة كانت حيال النظام في بغداد. أقله، لأن العقوبات تسببت خلال ثماني سنوات بوفاة عدد من العراقيين الأبرياء "يفوق عدد الذين قتلتهم اسلحة الدمار الشامل عبر التاريخ"، حسب دراسة في العدد الأخير من مجلة "فورين" التي يصدرها مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. تحت عنوان "عقوبات الدمار الشامل" كتب البروفسور في العلوم السياسية جون مولر، ومساعد البروفسور في الدراسات العسكرية في قاعدة ماكسويل الجوية في الباما كارل مولر، ان الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية التي استخدمت في التاريخ لم تسفر عن عدد الضحايا الذي أسفرت عنه العقوبات الاقتصادية ضد العراق. قنبلتا هيروشيما وناغازاكي النوويتان قتلتا معاً أكثر من 100 الف شخص. وأعلى مستوى التقديرات لضحايا الأسلحة الكيماوية المستخدمة في الحرب العالمية الأولى يبلغ 80 الفاً. واذا أضيف الى ذلك عدد ضحايا الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والصواريخ الباليستية في الحروب منذ الحرب العالمية الأولى، فان المجموع يقل عن 400 الف، حسب كاتبي المقالة / الدراسة. أما في العراق، فان الوفيات الناتجة عن العقوبات حسب أكثر التقديرات تواضعاً تفوق 500 الف، فيما يسفر تدهور الأجهزة الصحية والمعدات الطبية وعدم توفر ما يكفي من الطعام والدواء عن زيادة عدد وفيات الأطفال الى 40 الف طفل دون الخامسة سنوياً، ووفاة 50 الفاً من الكبار في العراق كل سنة. هذه الأرقام أدت بكاتبي المقال الى استنتاج ان "عقوبات الدمار الشامل" أسفرت عن مقتل عدد من العراقيين الأبرياء يفوق عدد ضحايا "أسلحة الدمار الشامل" التي استخدمت في التاريخ كله. قبل الخوض في تبريرات ادارة بيل كلينتون، على لسان كل من مساعد وزيرة الخارجية مارتن انديك، والمساعد الخاص للرئيس الأميركي مدير شؤون الشرق الأدنى في مجلس الأمن القومي بروس رايدل، للسياسة المتبعة حيال العراق، لا بد من الاشارة الى ان الكاتبين يقترحان "اعادة هيكلة العقوبات بهدف تركيزها على المسائل العسكرية حصراً مع تخفيف القيود الاقتصادية على العراقيين المدنيين". ويدعوان الى استبدال العقوبات التجارية بعملية رصد للصادرات والواردات للحد من القدرات العراقية على تطوير الأسلحة المحظورة. كما يقترحان دعم "الاحتواء" ليس بالعقوبات وانما "بالردع" عبر انذار العراق بأن أي استخدام لأسلحة الدمار الشامل يعني عقاباً شاملاً وحاسماً له. وفي العدد ذاته من مجلة "فورين افايرز" دعا البروفسور المساعد في جامعة فرمونت، غريغوري غاوز، الى رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق "مقابل" عودة هيئة دولية لمراقبة برامج التسلح العراقي، وشدد على ضرورة تخلص سياسة "الاحتواء" من عنصر العقوبات، مع استمرار التمسك بهدف استبدال النظام في العراق ومع المضي بالعمليات العسكرية في شمال العراق وجنوبه. هذه الآراء في مسألة العقوبات، شأنها شأن الآراء التي شككت في جدوى سيناريوات اطاحة النظام في بغداد، لا تلاقي تجاوباً من الادارة الأميركية. لكن هذا لا ينفي أهمية طرحها خصوصاً في الأوساط الفكرية الفاعلة، كما لا ينفي أهمية صدور الدعوات الى رفع العقوبات الاقتصادية من مثل هذه المنابر الأميركية. وبين أسباب تعنت الادارة الأميركية في رفضها القاطع لأي حديث عن رفع العقوبات الاقتصادية افتراضها، أو معرفتها كما تزعم، ان الدول العربية المهتمة بموضوع العراق تتفق معها. السبب الآخر ان زخم المعارضة الشعبية العربية لاستمرار العقوبات قد انحسر، وان مسألة العراق تراجعت في الاعلام العربي، وان حرب الاستنزاف في شمال العراق وجنوبه استرقت وطأة الحرب المكثفة القصيرة واستوعبت ردود الفعل فباتت نوعاً من الروتين. وهذا ملائم جداً للسياسة الاميركية. اما على الصعيد الديبلوماسي الدولي، فان مجلس الأمن يتصرف بدوره كأنه سئم الموضوع العراقي، فتكاثرت فيه المبادرات والاطروحات ومشاريع القرارات، وبقي في نهاية المطاف في حال تمديد للأمر الواقع لشراء الوقت وتجنب المواجهات والاكتفاء بالوضع الراهن. وهو ايضاً ما تريده واشنطن باستثناء واحد هو استعادة الاجماع في مجلس الأمن على اساس استبدال رفع العقوبات بتعزيز صيغة النفط للغذاء والدواء واختلاق أدوات جديدة لالقاء اللوم على العراق، مع الموافقة الضمنية لمجلس الأمن على سياسة "الاحتواء والاستبدال" وعلى استمرار العمليات في الشمال والجنوب كأداة من ادوات هذه السياسة. روسيا على حق في تعبيرها عن الاستياء من المواقف العربية ازاء مبادرتها ومشروع قرارها في مجلس الأمن الذي يحظى بدعم الصين وفرنسا. فهناك تغيب مقصود من الأطراف العربية وكأنها تتهرب من "منطقية" الاطروحات الروسية - الفرنسية. هذه الاطروحات، التي بدأت منابر اميركية مهمة في الاعتراف بجدواها، تقوم على خطوات تدريجية تعود الأممالمتحدة بموجبها لمراقبة برامج التسلح في العراق بصورة فاعلة بما يؤدي الى رفع العقوبات الاقتصادية مع التمسك بحظر التسلح والعقوبات العسكرية وآلية مراقبة الصادرات والواردات والرقابة المستمرة. وتربط هذه الاطروحات، كما يوضح المشروع الروسي، بين حل موضوع الأسرى والمفقودين والممتلكات الكويتية في العراق وبين مصير الأرصدة العراقية المجمدة. منطقياً، يفترض ان يلاقي المشروع الروسي دعماً، بل تبنياً عربياً لأنه واقعي وعادل وتدريجي وعملي في "احتواء" العراق عسكرياً واطلاق سراحه اقتصادياً بما يوقف مأساة موت 5 آلاف طفل شهرياً بسبب العقوبات ويوقف تدمير النسيج الاجتماعي والبنية التحتية للعراق من دون اطلاقه ليهدد الاقتصاد الاقليمي او العالمي. ذلك ان تعافيه، بما يسمح له بتصدير كمية من النفط تهدد المعادلات المنسوجة بدقة، ليس وارداً في هذا المنعطف لأن العراق غير قادر على انتاج حتى الكمية التي يسمح بها القرار 986 وصيغة النفط للغذاء لأن انابيب النفط مهترئة. ولذلك اعلنت واشنطن استعدادها لنسف سقف الصادرات النفطية الذي حددته مذكرة التفاهم على صيغة النفط للغذاء والدواء. الا ان السبب الآخر، الذي تحركت من أجله بريطانيا وهولندا في مشروع قرار مشترك تدعمه الولاياتالمتحدة، هو الايحاء للعراقيين بأن معاناتهم ليست جزءاً من السياسة الجديدة وانما النظام في بغداد هو الذي يرفض مبادرة زيادة مبيعات النفط لأن العائدات مقننة في الغذاء والدواء وتوزيعها يتم تحت اشراف الاممالمتحدة. مارتن انديك قالها بكل وضوح، مستنتجاً مسبقاً ان صدام حسين "لن" ينفذ قرارات مجلس الأمن تحت اي ظرف كان، "طالما ان صدام حسين يتحدى قرارات مجلس الأمن، لن نسمح له ابداً واطلاقاً استعادة السيطرة على العائدات النفطية للعراق". قال ايضاً "اننا نعتبر ان لا سبيل الى اصلاح هذا النظام" وان لا خيار سوى "التخلص منه… بمساعدة جيران العراق"، وان "الجميع في المنطقة يوافق معنا". بروس رايدل تحدث عن جدوى العقوبات الاقتصادية في سياسة "العقوبات والديبلوماسية والقوة التي اعتمدتها واشنطن، وقال "ان العقوبات وحدها حرمت صدام من الوصول الى اكثر من 120 بليون دولار من العائدات منذ عام 1990". حرمت العراق من هذه العائدات ودمرته وقتلت أطفاله لم تحرم "صدام" من الأموال. فعائدات التهريب والتحايل على العقوبات لم تأت على المقهورين من المدنيين العراقيين بأي مكافآت، بينما العقوبات انهكتهم وجعلتهم مأساة. المأساة المستمرة ان السياسة الأميركية مليئة بالفجوات والمتناقضات. حتى بروس رايدل، وهو رجل ذكي وقدير، شرح الأسبوع الماضي السياسة الأميركية بصورة محزنة وبائسة. قال "في مجلس الأمن اننا مصممون على امتثال العراق كاملاً لقرارات المجلس. ونحن نرفض حتى التفكير في أي رفع للعقوبات الى حين تنفيذ العراق هذه المبادئ" قال في الخطاب ذاته "رسالتنا بسيطة: طالما ان صدام في السلطة، ان العراق سيبقى منبوذاً، امواله في ايادي الأممالمتحدة واجواؤه مستباحة". الترجمة لهاتين العبارتين: ان العقوبات باقية طالما ان صدام حسين في السلطة حتى ينفذ كل قرار بحذافيره. اضافة الى ذلك، قال رايدل "اذا تم استبدال صدام وجاءت قيادة جديدة ومسؤولة مستعدة للعمل مع، وليس ضد، المجموعة الدولية، فان الولاياتالمتحدة ستكون شريكاً ناشطاً ومصمماً على اعادة بناء العراق، لانهاء العقوبات الاقتصادية، ولتخفيف العبء الضخم الناتج عن دين مقداره 100 بليون دولار سببه صدام منذ عام 1980". ثم قال: "لدينا قوة وسلطة الايضاح للعراقيين انهم يواجهون خياراً مهماً وبسيطاً، ابقوا مع صدام ولن يكون هناك ضوء في نهاية النفق… غيروا القيادة والولاياتالمتحدة ستعمل معكم من أجل غدٍ أفضل". وترجمة ذلك ان الولاياتالمتحدة اعتمدت سياسة احتواء العراق بحجة احتواء تهديده جيرانه وطموحاته لاعادة احياء برامج الأسلحة المحظورة لكنها قررت ان تستبدل اداة المراقبة الدولية باداة اطاحة النظام. القاسم المشترك في سياسة الأمس وسياسة اليوم هو بقاء العقوبات الشاملة. وقد يكون استمرار العقوبات ضرورياً لسياسة الغد المجهولة. استمرار فرض العقوبات الشاملة بقي دائماً هدفاً متماسكاً من أهداف السياسة الأميركية، بذريعة أو اخرى. فاذا كان هذا في المصلحة الأميركية، انه حتماً ليس في المصلحة العربية. فلتتعالى اليوم صرخة واضحة ضد "عقوبات الدمار الشامل" للعراق بمعزل تام عن أهداف اطاحة النظام في بغداد والتعايش معه.