الهوس العالمي بالولاياتالمتحدة متعدد المقومات والمبررات، وليس غريباً قياساً إلى العظمة الأميركية، السياسية والاقتصادية، والدور الرائد الذي تلعبه، تكنولوجياً وعلمياً وثقافياً واجتماعياً. الغريب أن العالم مهتم بأميركا أكثر من اهتمام أميركا بنفسها. في إطار الهوية والسياسات. الأكثرية العالمية تطالب الولاياتالمتحدة بتعريف واضح لدورها القيادي، والأكثرية الأميركية تطالب العالم بالكف عن زجها في شؤونه، باستثناء تلك التي تضمن لها الرخاء. أميركا في رأي كثيرين منقسمة إلى معسكر انعزالي انزوائي ومعسكر عدائي اقتحامي، ومعظم الناس لا يفهم محاكمة أميركا لرئيسها، لأن الفكرة بذاتها مذهلة، ولا يرى كيف تمضي الهيئة التشريعية في عملية عزل الرئيس بعدما أبلغها الرأي العام اعتراضه على إقالته. المسألة القابلة للفهم أكثر في العالم هي كيفية تعاطي الولاياتالمتحدة مع أول وأطول تحدٍ لها في أعقاب الحرب الباردة. وهذا يفسر المراقبة العالمية لكيفية تصرف أميركا نحو العراق. فليس في واشنطن وحدها تُمتحن الولاياتالمتحدة وتوضع تحت المجهر، بل أيضاً في بغداد. بدأ أخيراً الاعتراف بوجود أزمة هوية في الولاياتالمتحدة على الصعيد المحلي، وفي إطار الدور المنوط بها بصفتها الدولة العظمى الوحيدة في العالم. ومنذ أوائل التسعينات حاولت أميركا اعتماد مبدأ العظمة واسلوبها بلا كلفة. فهي خاضت حرب الخليج التي دفعت فاتورتها دول المنطقة. وهي تريد حرباً بلا ضحايا من جنودها، تريد الابتكار في العظمة والقيادة، وقد تكون في صدد النجاح الباهر أو الفشل الذريع، لكنها في هذه المرحلة تتخبط. أوضح ملامح التخبط يبرز في السياسة الأميركية نحو العراق. فالولاياتالمتحدة سحبت عن نفسها غطاء الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن، واتخذت قرار إطاحة النظام في بغداد، وتنشيط عملياتها في منطقتي الحظر الجوي في جنوبالعراق وشماله، وكلاهما سياسة غير موجودة في القرارات تفتقد الأرضية القانونية. بهذه السياسة أخرجت الإدارة الأميركية نفسها من قاعدة الاجماع الدولي وانفردت مع بريطانيا وحدها في تنفيذ أهداف غير تلك الواردة في القرارات. وبالتالي، باتت واشنطن وحدها في مواجهة الامتحان، عارية من الاجماع والشرعية الدولية، مجردة من حصانة الأممالمتحدة، هشة أمام ماعدلات النجاح والفشل. نقلت واشنطن المسؤولية إليها منفردة، باعتبار أن بريطانيا تشبه الملحق والهامش على رغم دورها الفاعل عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً. سلّطت واشنطن الأضواء على نفسها فيما كانت الأضواء مسلطة على الرئيس صدام حسين، فنقلت العبء منه إليها. دخلت علناً معركة الإطاحة قبل أن تكتمل استراتيجيتها أو تكتيكها، واكتسبت بذلك مزيداً من الشكوك في صدقيتها وقدراتها وأهدافها. فازداد وصف السياسة الأميركية بالاعتباطية والانفعالية، وتكاثرت المخاوف من عواقب الفشل واحتمالات انحسار الحماسة الأميركية في منتصف الطريق، فالخبرة علّمت كثيرين ان واشنطن قصيرة النفس. ومما ضاعف الحيرة والضياع في متاهات السياسة الأميركية أن أقطاب الإدارة الأميركية والمؤسسة العسكرية تباروا في تحليل السياسة المزعومة ووصفها في تصريحات علنية وفي اجراءات سياسية بعضها متناقض وبعضها مبهم. فاطلاق سقف كمية النفط المسموح لبغداد ببيعها بموجب القرار 986 يعني عملياً رفع الحظر النفطي، لكن واشنطن ما زالت تمانع في تنفيذ الفقرة 22 من القرار 687، التي ربطت بين رفع الحظر النفطي وبين استكمال بغداد تنفيذ متطلبات نزع السلاح بشهادة اللجنة الخاصة أونسكوم، فلو التزمت الولاياتالمتحدة تنفيذ تلك الفقرة لحققت نزع السلاح بشهادة "أونسكوم"، ولتم رفع الحظر النفطي على أساس قانوني وشرعي بشروط مراقبة حددها القرار 687، وكان في الامكان تطويرها وتعزيزها، ولوضعت واشنطنبغداد في موقع حرج أمام التوقعات الشعبية الكبرى لنتائج ملموسة لرفع العقوبات فيما امكانات ضخ النفط وتصديره محدودة. بدلاً من ذلك، نسفت السياسة الأميركية لجنة "أونسكوم" وبرنامج الرقابة الطويلة الأمد واقترحت عملياً رفع الحظر النفطي من خلال اقتراح إلغاء السقف المفروض على كمية الصادرات النفطية، ورَحَمت بغداد من مواجهة زخم افرازات تحقيق وعود "معركة" رفع العقوبات على الصعيد الشعبي في العراق، وراهنت على سيناريو الإطاحة المليء بالفجوات والمطبات والمفاجآت. اختارت الولاياتالمتحدة، الدولة العظمى الوحيدة في العالم، دخول معركة مباشرة مع نظام تعتبره منبوذاً، عملت تسع سنوات من دون نتيجة على عزله واحتوائه وتحجيمه واقصائه. بذلك، اعترفت واشنطن بأنها خسرت معركة واتخذت قرار خوض حرب معلنة تحمل عنوان "حرب الإطاحة"، باحتواء دموي، بغارات جوية، بتنسيق المعارضة، وبتشجيع إيران على التدخل في العراق، بتهذيب أحزاب دينية أو أصولية على حساب الطبيعة التعددية للعراق، بتنسيق مع المنطقة أو رغماً عنها، بشرعية دولية أو بسقوط الاجماع، بأي شكل كان وبأي ثمن. حصيلة الموقف الدولي والاقليمي من هذا الاندفاع الأميركي يمكن تلخيصها بكلمة "تفضلّوا"! وهذا ينطوي على مزيج من الخبث والتمنيات بالنجاح. فبعض الدول يود لو تتمكن الولاياتالمتحدة من حسم المعضلة العراقية، إلا أن دولاً أخرى تثق بفشل السياسة الأميركية وتتلذذ بمراقبة نتائج الحرب بين "العظيم" و"المنبوذ". تتلذذ حتى بقرار واشنطن خوضها. لذلك وافقت الدول الأعضاء في مجلس الأمن على الفترة الزمنية التي أرادتها واشنطن لشراء الوقت حتى 15 نيسان ابريل. فإذا كانت الدولة العظمى تبحث عن سياسة، أو تصقلها، أو تمتحنها، أو تختبرها، أو تخترعها، القراران الدولي والاقليمي هما: دعها، لنرى. فالاهتمام العالمي والاقليمي ليس ببقاء الرئيس صدام حسين في السلطة أو بزواله، بل الاهتمام بأميركا. ويخطئ الرئيس العراقي إذا افترض ان الهوس العالمي به شخصياً أو بالنظام في العراق. إن الهوس هو بكيفية تعاطي الولاياتالمتحدة مع التحدي الآتي من بغداد. كذلك تخطئ المعارضة العراقية إذا ظنت أنها اكتسبت الاهتمام العالمي عبر الاهتمام الأميركي بها، فالعالم اهتمامه منصب على مراقبة تبعثر أميركا في اغرائها معارضة لا تؤمن بها. فالعسكري قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، الجنرال انطوني زيني، يفهم في السياسة أكثر من السياسي المخضرم مارتن انديك مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، أو فرانك ريتشياردوني خبير "المرحلة الانتقالية" التائهة في سيناريوات إطاحة النظام وتأهيل العراق. زيني يخشى عواقب سياسية مبعثرة على معارضة غير قادرة على الإطاحة قد تؤدي إلى تفكك العراق وضرب استقرار المنطقة. المسؤول عن ملف العراق في مجلس الأمن القومي الأميركي بروس رايدل يتحدث عن سياسة "الاحتواء والاستبدال". ريتشياردوني يستهوي أحلام المعارضة ثم ينسفها بحجب احتمال رفع العقوبات عن العراق لدى إطاحة النظام. وبين هذا وذاك لم يعد واضحاً إن كانت واشنطن تريد حقاً اسقاط النظام، أو تنظيم المعارضة، أو أنها تريد حقاً تدجين العراق سياسياً وديموقراطياً كما دجنته عسكرياً. فأميركا ضائعة تبحث عن هوية ما لها في العراق، وفي ما تسميه دائرة صنع القرار الأميركية مأزق "اس. اش" في إشارة إلى صدام أو "يو. بي. ال" في إشارة إلى أسامة بن لادن. أميركا تبحث عن هوية عالمية بمقدار ما تبحث عن هوية محلية. في إطار تحليل بيل كلينتون كرئيس وكشخصية، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالاً للكاتبة باربرا دافو اعتبرت فيه ان التاريخ لن يتذكر وليام جيرفسون كلينتون بصفته امتداداً ل "الرئاسة الامبريالية" - لا بمعنى الاستعمار بل بمعنى ضخامة الامبراطورية - وإنما سيذكره بأنه نموذج "الرئاسة الحميمة". ورأت ان "الرئاسة الامبريالية" جاءت نتيجة الحربين العالميتين والحرب الباردة، تركيزها خارجي، تطلعت إلى مصالح أميركا وأعدائها على الساحة العالمية، اعتمدت على الأسرار وجمع المعلومات الاستخباراتية، وجعلت تحديها الأكبر إبقاء البلاد على حافة الحشد في كل الأوقات. رونالد ريغان احتفظ بها وكانت فضيحته الكبرى إيران - كونترا "فضيحة رئاسة امبريالية". جورج بوش استمر بها في البدء عندما رسم "الخط في الرمال" ثم في نهاية عهده تغيرت ملامح "الرئاسة الامبريالية". وجاء كلينتون عام 1991 لينسفها ويحل محلها "الرئاسة الحميمة". هذه الرئاسة، بحسب الكاتبة، تبنت "الاعتراف" وكذلك "محو الحدود" بين الرئاسة والشعب الأميركي، بدلاً من الأسرار وفصل الرئاسة عن بقية الناس. وهذا تطور جذري في المجتمع الأميركي وعلاقته بالرئاسة سيلعب دوراً مهماً في صوغ الهوية الأميركية، الشعبية والقيادية. كلير دوغلاس، المتخصصة في علم النفس، عالجت ظاهرة كلينتون وعلاقته بالكونغرس من زاوية سيكولوجية الرجال، وقارنت بين الصبي والكهل. كلينتون في رأيها ينتمي إلى الصبي بوير باللاتينية الذي يُغري وينشط ويوحي. وبحسب التعريف الصبي قد يكون فائق الذكاء، يؤمن بحقه الطبيعي في الحصول على كل ما يريد. صفاته تشمل قدرته على الكذب الخارق انطلاقاً من "ايمانه" بصدق كذبه. يبذل كل جهد لتحقيق ما يريد لكنه يمتلك أدنى مستويات المسؤولية، خصوصاً في إطار مشاعره المتناقضة حيال النساء. معظم الأحيان يأتي الصبي من عائلة ممزقة وله علاقات مضطربة مع والدته. مشكلته الرئيسية حبه للمغامرة والدفع بالمقامرة والرهان ليرى إلى أي حد يمكنه المجازفة من دون كلفة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى التصرف على أساس تدمير الذات. وترى الكاتبة أن مجلس الشيوخ الأميركي، ومعظم أعضائه من الحزب الجمهوري، ينتمي إلى خانة الكهل سِنِكس باللاتينية بصرف النظر عن السن، الكهل هو الذي تفوته الحياة فيما يسجن نفسه في قيود وقوانين. ينظر ويحاضر بدل أن يشعر ويتصرف. بيئته تتميز بسيطرة الوالد وانتمائه إلى عالم الأب القائم على القانون والواجب. يحض نفسه ضد إدراك ما يفوته ويصبح سيد من يرفض الاعتراف بما هو عليه ويلصق ذلك بالآخرين. هذان النموذجان، في تحليل شخصية كلينتون ورئاسته والكونغرس، ليسا سوى مثالين على محاولة أميركا فهم نفسها. وهذه أولويتها. أما على صعيد فهم الولاياتالمتحدة بقيادتها العالمية أو بسياساتها الخارجية، فهذه أولوية "الآخرين". فمنذ انتهاء الحرب الباردة تجنبت واشنطن، أو تراخت، أو تكاسلت، أو لم تهتم بصوغ دور واضح ومتماسك للدولة العظمى في العهد الجديد. كل جهدها انصب على منع الآخرين من محاولة ملء الفراغ. وها هي اليوم تنجّر إلى الامتحان، بخيارها أو رغماً عنها. والواضح أنها مصرة على استبعاد النتائج والافرازات. فهذه امبراطويرة عفوية لا تعرف تاريخ الامبراطوريات.