صباح يوم الاثنين الموافق الثاني والعشرين من آذار الجاري تلقيت اتصالاً هاتفاً من عدد من المواطنين في قرية بيت دجن الى الشرق من مدينة نابلس، في الوقت ذاته كان مواطنون آخرون من ذات القرية يدخلون مكتبي يطلبون المساعدة من منظمة التحرير الفلسطينية، فقد دهمت قوة كبيرة من جيش الاحتلال القرية في طريقها الى أراضيها على بعد كيلو متر واحد من حدود بيوتها الى الشرق. توجهت على الفور الى القرية مع اثنين من العاملين في المكتب، وهو مكتب للدفاع عن الأرض ومقاومة الإستيطان، تابع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في الطريق الى بيت دجن وعلى مفترق طريق التفافي لمستوطنة ايلون موريه كانت تقف سيارات اسعاف تابعة للجيش الاسرائيلي، فتجاوزناها نحو القرية ونحن ندرك أن الجيش قد جهز وضعه لمواجهة ساخنة مع الأهالي ومع من يحاول الوصول اليهم للتضامن معهم. وصلنا القرية وتوجهنا الى مسجدها، كان عدد من الأهالي يتجمع أمام المسجد بانتظار الحركة نحو الأرض، ومواطنون آخرون وقفوا على ربوة تشرف على أراضي القرية من جهة الشرق حيث توجهت قوات جيش الاحتلال، توجهنا مع الأهالي، الذين تجمهروا أمام المسجد عبر طريق ترابي، حيث المدخل الشرقي للقرية، وعلى منعطف بين بيوت القرية كانت تقف قوة من جيش الاحتلال لمنع أي أحد من الوصول الى الأرض كان الهدف من تواجد القوى على ذلك المنعطف تأمين القوة الكبيرة التي توجهت الى الأرض لاقتلاع غراس المواطنين فيها وإشاعة الخراب في أرجائها، لم يسمح لنا الجيش الاسرائيلي باجتياز المنعطف ولم نشاهد بالتالي أعمال التخريب على الأرض، حاولنا التقدم الى الأمام، فأخذ جيش الاحتلال وضع الاستعداد وخاطبنا قائد القوة قائلاً: "كدوربيروش" لكل من يحاول التقدم خطوة الى الأمام، ولأني لا أتكلم العبرية فقد سألت بعض من يتحدثها أن يترجم لي ما يقول قائد القوة تلك، فكان الجواب، انه يهدد بطلقة في الرأس لكل من يحاول التقدم، لم يكن الأمر غريباً بالنسبة لي، فقد عشت في مثل هذه الأيام من العام الماضي تجربة مماثلة، وسمعت تهديداً مماثلاً في اعتصام للأراضي في قرية عصيرة القبلية، وعندما حاولنا التقدم خطوة الى الأمام كان الجنود ينفذون تهديدهم وكنت من بين الذين أصيبوا برصاص جنود الاحتلال في الرأس مع المناضل أبو حيدر الصفدي، تذكرت ما وقع في عصيرة القبلية، ولم أتقدم، بل منعني من التقدم عدم التكافؤ حتى بالقوة العددية بيننا وبين قوات الاحتلال المدججة بالسلاح. لم يكتف قائد القوة، والأصح أن نسميه قائد قوة الحماية للقوى الأكبر التي كانت في تلك اللحظات تقتلع غراس المواطنين من الأرض، لم يكتف بالتهديد "كدوربيروش" بل هو تابع يقول "هذه أرض دولة اسرائيل، من قال لكم أن هذه أرضكم، عودوا الى الاتفاقات، لقد أعلن الجيش وضع اليد على هذه الأراضي وأعلنها منطقة عسكرية مغلقة، واصلنا احتجاجنا على التهديدات والتصريحات وفي رأسي كان يدور شريط يستذكر ما جاء في "اتفاقية الترتيبات الانتقالية للحكم الذاتي الفلسطيني" التي تم التوقيع عليها مع حكومة اسرائيل في الثامن والعشرين من ايلول سبتمبر 1994، تلك الاتفاقية التي جزأت أراضي الضفة الغربية الى مناطق أ تحت السيطرة الفلسطينية وپب تحت السيطرة المشتركة وپج تحت السيطرة الاسرائيلية ومزقت دون رحمة الوحدة الاقليمية للضفة الغربية وحولت مساحاتها الأوسع الى مناطق متنازع عليها، تحدثنا مع من تجمع من المواطنين من أهالي القرية عند المنعطف، الذي يحجب عنا أعمال التخريب التي تجري على الأرض. حاولنا تنظيم رد فلسطيني على هذا العمل البربري وغير الانساني، وتم الاتفاق أن نعود الى الأرض في يوم الأرض بعد أيام بحشود جماهيرية ندافع عنها ونزرعها من جديد في دورة قد لا تتوقف بين إعمار للأرض على أيدي أصحابها وبين قوات تحمي أعمال تخريب للأرض باقتلاع أغراسها وأشجارها المثمرة، خلال حديثنا دعاني بعض المواطنين للانتقال الى تلك الربوة على حدود البلدة الى الشرق لمشاهدة أعمال التخريب، وهكذا توجهت الى الربوة، وكان المنظر مفزعاً، أعداد كبيرة من سيارات الجيش وأعداد كبيرة من القوات الخاصة التابعة للادارة المدنية، سيارات الجيش تختار في السهل الموصل الى الأرض المستهدفة المناطق المزروعة بالقمح طريقاً لها رغم وجود مناطق أخرى لم يزرعها أصحابها في نفس السهل، ربما لانحباس الأمطار هذا العام، دمرت سيارات الجيش قطع الأرض المزروعة بالقمح، أما أفراد القوات الخاصة فكانوا يقتلعون الغراس من جذورها ويلقون بها في مقطورة تجرها سيارة عسكرية، منظر بشع ومفزع يستفز المشاعر ويثير السخط والغضب على ممارسات بربرية غير مسبوقة في تاريخ الاحتلالات التي شهدها هذا العالم على امتداد هذا القرن. وفي اللحظات التي كنا نشاهد فيها هذه الممارسات الهمجية انطلق صوت الرصاص في المدخل الغربي للقرية، ونفذ جنود الاحتلال تهديدهم وأصابوا عدداً من المواطنين وهذه المرة في الرأس كذلك "كدوربيروش" "طلقة في الرأس" كانت هذه المرة من نصيب المواطن محمد حافظ عبدالجليل. وبعد، لم يعد الوضع يحتمل، فحكومة اسرائيل تصر على مواصلة سياستها المعادية للسلام وتعلن أن الأرض الفلسطينية هدف لنشاطاتها الاستيطانية، وأن الإنسان الفلسطيني هدف لبنادق جنودها، فهل نتقدم نحن الى الأمام على أبواب نهاية المدة الزمنية المفترضة لاتفاقية ترتيبات المرحلة الانتقالية بوقف العمل بجميع الالتزامات المؤقتة لتلك الاتفاقية، وفي المقدمة منها هذه التقسيمات الأرض الفلسطينية التي مزقت الوحدة الإقليمية للضفة الغربية وقطاع غزة ونعلن قيام الدولة الفلسطينية وحقها في ممارسة سيادتها على جميع أراضيها المحتلة بعدوان 1967، وندخل في مواجهة جادة وحقيقية مع سلطات وقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، لنصون الأرض الفلسطينية من الضياع ونحمي الإنسان الفلسطيني من هذه الممارسات البربرية. الشعب يريد ذلك، فهل تستجيب السلطة الفلسطينية لإرادة الشعب. عن ايار مايو 1999 المقبل تفصلنا أسابيع قليلة، وهي أسابيع بعمر الدهر ينبغي أن نهيأ فيها لتحرير الإنسان الفلسطيني من قهر الاحتلال، وننتقل فيها بقضيتنا الوطنية من مربع الأزمة الثانوية الى مربع الأزمة الساخنة التي تفرض نفسها على الرأي العام في اسرائيل وفي الولاياتالمتحدة الأميركية وعلى المجتمع الدولي بأسره. * عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.