يبدو الخوض في ملف الإهدار والفساد في لبنان، من أعقد الأمور التي يمكن أن يتناولها المرء، ومن أكثرها حاجة الى الوقت والدقة والتبويب. فالإهدار لا يقتصر فقط على السرقة الموصوفة للمال العام والخاص، وإنما يتعداه الى سوء الإدارة وترهلها، وانتفاخها بآلاف الموظفين القادمين اليها من أهوائهم السياسية ومواقعهم الطائفية، والى تحول ادارات خدماتية إقطاعات سياسية يتوزعها المسؤولون وأزلامهم. وعلى هامش أبواب الإهدار الكبرى وفي غفلة منها، فتح مسؤولون وإداريون كوى صغيرة لا تقل أهمية إذا جمعت أرقامها عن تلك الأبواب الكبرى، وكل ذلك كان يتم وفق معادلة أرستها ظروف التوافق بين القوى السياسية التي أريد لها أن تؤلف هذا الوطن الجديد لبنان ما بعد الحرب. فعلى مدى ست سنوات، كانت معادلة الاستقرار السياسي تستبطن كمية لا تحصى من التناقضات، خنقت على مستويين الاول خارجي اقليمي يتمثل بالسقف السوري الذي اصطدمت به الأزمة عند كل انفجار لها، والثاني داخلي تمثل بتسوية أي خلاف بمزيد من الوضوح في تقسيم الجبنة وتوزيع حصص المال العام، وهذا أمر لم يخجل المسؤولون أنفسهم من إعلانه وحتى التباهي به أحياناً. وطبعاً تداخل عاملا الضبط الإقليمي والداخلي وترابطا، وسهل كلاهما وظيفة الآخر، وأمَّن مصالحه. ثم ان وجود لبنان في معادلة إقليمية ودولية معقدة، أرخى بثقله على أوضاعه الاقتصادية، فحرمت الدولة اللبنانية حقها في اتخاذ اجراءات تكفل حماية سياستها المالية وخططها الاقتصادية، فاستمرار الجنوب اللبناني جبهة مفتوحة على احتمالات التصعيد، لا يتناسب أبداً مع الخطط الاقتصادية والإعمارية والإنفاق الهائل على مشاريع اعادة البناء التي تفترض استقراراً ناجزاً، إذ ثبت أن الحربين اللتين خاضتهما اسرائيل في العامين 1993 و1996 أعاقتا هذه الخطط، وأرهقتا الخزينة اللبنانية، ولم تنفع بعدهما كل الإغراءات الاستثمارية التي قدمتها الحكومة الى رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال للمجيء الى لبنان والاستثمار فيه. وبعيداً من الكلفة الحقيقية لحجم الدمار الذي ألحقته هاتان الحربان، فإنهما أيضاً فتحتا الباب لتعويضات مالية تولت قوى سياسية توزيعها فكانت لها الحصة الأوفر منها. الأرقام الفلكية التي يرددها اللبنانيون في أحاديثهم عن الإهدار والفساد، قد يكون الكثير منها صحيحاً. لكن لها أيضاً دلالات ووظائف أخرى. فاللبنانيون غير ناجين بدورهم من حمى الفساد، وهم على رغم استهوالهم أرقامه، فقدوا حساسية المحاسبة الحقيقية للمتورطين فيه، فانتخبوهم أكثر من مرة ممثلين لهم في المجالس النيابية والبلدية، وتواطأوا مع بعض رموز الإهدار. وأخذت استباحة الأموال العامة مناحي شعبية في الكثير من الأحيان، فانخرطت في المطالبة السافرة بأموال الدولة فئات اجتماعية واسعة، أرادت ثمناً لسكوتها عن تقاضي فئاتٍ من مناطق وطوائف أخرى تعويضات وأموالاً من دون وجه حق. هذا ما حصل عندما طالب "فقراء منطقة الطريق الجديدة" في بيروت رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري بتعويضات غير واضحة الأسباب، في مقابل تقاضي نظرائهم في "الفقر" أبناء القرى الجنوبية تعويضات كبيرة من جراء الاعتداءات الإسرائيلية خلال عملية "عناقيد الغضب" عام 1996. وهذا المنطق ينسحب على معظم قنوات الإهدار. إذ قد نفاجأ حين نعلم أن المبالغ التي يمكن ملاحقة المسؤولين السابقين لإعادتها الى الدولة، أي تلك التي يمكن اتهامهم بها مباشرة لن تكون إلا نسباً صغيرة، في حين أن أبواب الإهدار الضخمة، هي تلك التي اتسعت قاعدة المستفيدين منها. لذلك يبدو لغواً كاملاً الكلام على أن استعادة الدولة الأموال المسروقة والمهدورة سيمكنها من سداد ديون أو تعويض عجز الموازنة، فما يمكن استعادته فيما لو ثبتت العزيمة في ملاحقة المسؤولين عن الإهدار، لن يتجاوز إلا ملايين قليلة من الدولارات بينما تتجاوز قيمة الديون 17 بليون دولار. ففي ملف المهجّرين الذي أنشئت من أجله وزارة وصندوق مستقل شأنه شأن المجالس الأخرى الإنماء والإعمار والجنوب، تابع لمجلس الوزراء وغير خاضع لرقابة ديوان المحاسبة. وشهد هذا الملف، أسوة بملفات أخرى، تجاذبات سياسية وروايات كثيرة عن مبالغ خيالية دفعت لمحسوبيات وأزلام وغير مستحقين في أكثر من اتجاه، من الإخلاءات الى الترميم واعادة الاعمار. فالكلفة الأولى لإقفال هذا الملف كاملةً قدّرت بنحو 2،1 بليون دولار، قبل بدء عمل الوزارة عام 1993، وما أنفق الى العام 1999 بلغ نحو 815 مليون دولار من دون أن يقفل ملف قرية واحدة نهائياً. إذ اعتبر سابقاً ان ابن المهجر مهجّر، ودفعت مبالغ كثيرة للأصول والفروع وربما لفروع الفروع، وكان المدير العام السابق للوزارة هشام ناصر الدين يقول "إذا دفعنا لاثنين أو ثلاثة من العائلة بدل واحد فقط فهذا يعني أننا ندفع للناس، وبالتالي نحن في هذا الموضوع نعتز بالإهدار، فإذا كانت ضيعة مؤلفة من 50 بيتاً وأصبحت مئة ودفعنا لمئة، أين المشكلة؟". ولكن بعد الإعتزاز هذا، وانفاق نحو 75 في المئة من التخمين الأول لكلفة العودة لا تزال الى اليوم تقدر الكلفة بنحو بليون دولار وأن نسبة 38 في المئة من المهجرين فقط وضعت على سكة العودة، ولم تعد. وربما لم تكمن المشكلة في اعادة الاعمار والترميم والبنى التحتية ورفع الأنقاض بل كمنت في دفع بدل الإخلاءات، "من دون تحديد أسباب الاحتلال وصفة المصادِر"، على ما قال ل"الحياة" رئيس الصندوق الوطني للمهجرين شادي مسعد. وأضاف "عدم تحديد صفة المصادِر ومكان تهجّره، سبب في صرف أموال كثيرة في غير مكانها، كي لا أقول "اهدارها". وعندما تدفع أموال من غير معرفة السبب "تفلت" القصة ويروح كل واحد يستغل هذا الوضع ويسجل اسمه في أي منزل مهجور ويقبض بدل اخلاء". ورفض مسعد الخوض في الأرقام والتفاصيل "كي لا نعود الى الماضي، ولكن مستقبلاً سنتحقق من الملفات وندفع للمستحق فقط ضمن أولويات"، متوقعاً "ان تبلغ كلفة اقفال الملف نحو بليون دولار". وأظهر تقرير للصندوق أعد حديثاً أن نسبة 40،61 في المئة دفعت على الإخلاءات بينما صرفت نسبة 1،38 في المئة على أعمال الترميم والإعمار والبنية التحتية ورفع الأنقاض، واقتصرت النسبة في المصالحات والمساعدات الاجتماعية على 50،0 في المئة فقط. وبلغ عدد المستفيدين من الإخلاءات نحو 74 ألفاً تقاضوا نحو 751 بليون ليرة معظمها في بيروت، إذ بلغ الانفاق فيها على الإخلاءات 495 بليون ليرة بينها 318 بليوناً من شركة "سوليدير"، من أجل إخلاء المهجرين الذين كانوا احتلّوا أبنية في وسط بيروت التجاري. أما ما أنفق على اخلاءات سائر أحياء بيروت فبلغ نحو 177 بليون ليرة، وهذا يجعل ما أنفق في جبل لبنان، حيث مشكلة التهجير الرئيسية، أكثر من 300 بليون ليرة. وعلمت "الحياة" أن دراسة أجريت عام 1993، قبل إنشاء الصندوق، أظهرت أن "عدد العائلات المصادرة المساكن، في بيروت ثلاثة آلاف"، ولكن بعد إنشاء الصندوق وانطلاق عملية الدفع تضاعف العدد كثيراً وقارب 30 ألف عائلة صرفت لها بدلات الإخلاء بطلبات لم تمر من خلال الوزارة، إضافة الى ما دفعته شركة "سوليدير" في وسط بيروت إذ كان القاطنون في "وادي الذهب" أبو جميل والنافذون فيه والمحازبون، يسجلون أسماء كثيرة لعائلات تسكن في غرف وردائف لها. وإذا كان البعض يرى الى ما دفع من شركة "سوليدير" أنه مال شركة خاصة، فإن مسعد يرى ان "الأموال دفعت من خلال الصندوق، ومجرد دخولها اليه يصبح مالاً عاماً، وهو صرف بطريقة ضيّعت الكثير منه". وما يؤكد اهدار أموالٍ كثيرة خلال دفع تعويضات الإخلاءات أن عدد المستفيدين من تعويضات اعادة الاعمار والترميم من أصحاب المنازل التي أخليت بلغ نحو 35 ألفاً، في حين بلغ عدد المستفيدين من بدلات اخلاء هذه المنازل التي أخليت نحو 74 ألفاً، وهذا يعني أن تعويضاً واحداً دفع لصاحب البيت المخلى، ودفع تعويضان للذين أخلوا المنزل نفسه، علماً أن الرقم الأول يجب أن يكون ضعفي الرقم الثاني لأن القانون حصر دفع بدل الإخلاء بالمحتل الذي أحتُل منزله في المنطقة التي تهجر منها. وأكدت مصادر في الإدارة الجديدة لصندوق المهجرين لپ"الحياة" أن نسبة 90 في المئة من التعويضات التي دفعت في الجبل كانت تدفع بأمر مباشر من الوزير، وتطاول قرى لم يتخذ قرار في مجلس الوزراء بفتح ملفها، ولكن كان الدفع يتم لأسباب سياسية. وذكر الرئيس الجديد للصندوق الوطني للمهجرين لپ"الحياة" أن كلفة اقفال ملف المهجرين نهائياً، بعد كل التعويضات والأموال التي دفعت، هي نحو بليون دولار. وإذا أضفنا اليها ما دفع الى الآن، أي نحو 815 مليون دولار، يصبح الرقم النهائي للكلفة 815،1 بليون دولار، أي بزيادة نحو 615 مليون دولار عن الرقم الذي أعلن عام 1993. وإذا اعتبرنا أن هذا الرقم هو كمية الأموال المهدورة في الوزارة، وحاولنا توزيعه على المستفيدين والمسؤولين عن إهداره فإن مروحة واسعة من السياسين والإداريين والشركات الخاصة والأحزاب وحتى المهجرين أنفسهم سيكونون في عداد المستفيدين، وسيكون تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمراً بالغ التعقيد. وقد تكون وزارة الإعلام عينة أخرى من عينات الإهدار، على رغم صغر موازنتها التي بلغت عام 1998 نحو 33 بليون ليرة لبنانية يدفع أكثر من 90 في المئة منها رواتب موظفين ومتعاملين يبلغ عددهم نحو 1800 موظف سبق أن صنفهم مصدر في الوزارة ثلاثة أصناف. الأول، الذين يعملون فعلاً ولا يتجاوز عددهم 600، والثاني، الذين يعملون جزئياً ولا يتجاوز عددهم 250، والثالث، الذين لا يعملون نهائياً ويتقاضون رواتب، ويبلغ عددهم نحو ألف موظف. ولا تخلو مؤسسة صحافية في لبنان من متعاملين مع وزارة الإعلام، إذ تبلغ نسبة من يتقاضى رواتب من الوزارة في مديرية الأخبار في تلفزيون لبنان، عدا رواتبهم من التلفزيون، نحو 90 في المئة من الموظفين. ويقول مسؤول سابق في الوزارة أن جداول الرواتب التي تتضمن أسماء الموظفين كانت تكتب بخط اليد، وكان يكتشف كلما أرسل اليه الجدول لتوقيعه أن أسماءً جديدة أضيفت اليه. وثمة فئة رابعة من المتعاملين مع الوزارة اكتشفت أخيراً، بعدما دعي كل المتعاملين الى الحضور شخصياً لقبض رواتبهم، فتبين أن هناك أسماءً وهمية أضيفت الى الجداول، لا وجود لأشخاصٍ يحملونها، ويرجح أن ثمة من يقبض رواتب إضافية من خلالها. ولاحظ مسؤول آخر أن نظام العمل بالفاتورة حصر التعامل في المشتريات بأسماء محددة، تتكرر هي نفسها في معظم الأعمال التي تحتاج اليها الوزارة. فالتاجر الذي يبيع الوزارة ماءً هو نفسه من يبيعها مفروشات وهو نفسه من يبني جداراً لموقف السيارات، وأن فواتير بملايين الليرات اللبنانية تدور على أختام متماثلة، وتصيب المبلغ المسموح به تماماً لشراء نثريات المكاتب وحاجاتها اليومية. وطبعاً لا يعني توزيع مسؤوليات الإهدار والسرقات على قاعدة واسعة من المستفيدين، أن المسؤولين كانوا في منأى عنها، ولا يعني صغر موازنة الوزارات والأموال المنتهكة في بعض أبواب الإهدار، أنها من ذلك النوع الذي لا يهدد وضعاً اقتصادياً كاملاً. فمطلق صحافي لبناني يدرك أنه على مدى ست سنوات تجمع في ذاكرته وفي أدراجه عدد من الفضائح المدوية، هي على هامش موازنات الوزارات، كفضيحة شراء الأبقار الأميركية، إذ كفلت وزارة الزراعة الأميركية قرضاً لنظيرتها اللبنانية، على أن تشتري هذه الأخيرة أبقاراً تبيعها لمزارعي البقاع ضمن مشروع دعم الزراعات البديلة، بأسعار متدنية ومقسطة، فكان أن اشترت الوزارة اللبنانية أسوأ أنواع الأبقار، ووزعتها على المزارعين بأسعار مرتفعة مستفيدة من إقبال المزارعين على شرائها بسبب تقسيط السعر على ثلاث سنوات. وبعد أشهرٍ قليلة اكتشف المزارعون أن هذه الأبقار تدر حليباً بنسب قليلة، وبعضها مات بسبب عدم تهجينها. وبرر وزير الزراعة في حينه شوقي فاخوري الأمر، بأن شراء هذا الصنف من الأبقار كان أحد شروط القرض الأميركي، في حين نفت السفارة الأميركية في بيروت لپ"الحياة" هذا الكلام وأكدت أن الوزارة الأميركية كفلت القرض فقط، وأن لبنان اشترى الأبقار من مزارعين أميركيين من دون أي تدخل من الإدارة الأميركية. وكذلك في موضوع الشمندر السكري الذي تدعم الدولة انتاجه من خلال شرائها منتوج المزارعين منه سنوياً. وتبلغ قيمة الدعم السنوي لهذه الزراعة نحو 25 بليون ليرة لبنانية. وهذا الدعم هو أيضاً ضمن مشروع دعم الزراعات البديلة. لكن المفارقة أن معمل السكر الوحيد في لبنان هو من يتسلم من المزارعين محصولهم ويحوله سكراً، ويتقاضى من الدولة ثمن الشمندر ويوزعه على المزارعين، لكن ثمة مادة ثالثة تستخرج من الشمندر هي غير السكر، أي التفل والدبس ويستفاد منها كأعلاف للماشية يبيع منها المصنع بقيمة ستة ملايين دولار سنوياً، بينما الدولة غافلة، أو مستغفلة عن حقها فيها وهي التي تشتري الشمندر، علماً أن حكومات لبنانية عدة رفضت اعطاء رخصة لبناء مصنع ثانٍ للسكر. كثر من الوزراء والمديرين أحكموا اخراج عمليات مشابهة بصيغ قانونية قد لا يتمكن أحد من أخذها عليهم. لكنها كانت تتم في وضح النهار، وكان من المتفق عليه بين المتعاملين فيها حصة كل مسؤول منها. الأملاك النهرية كانت واحدة من مواضيع مشابهة، إذ تملك الدولة معظم المساحات المحيطة بالأنهار، وأجَّرت وزارة الموارد المائية مساحات منها لراغبين في إنشاء مشاريع سياحية وزراعية الى جانب الأنهار بمبالغ زهيدة، ومثلها في الأملاك البحرية بموجب عقود أبرمت بين الدولة وهؤلاء، في حين صرح كثر من هؤلاء المستأجرين أنهم دفعوا مبالغ كبيرة لسماسرة ووسطاء حتى تمكنوا من اجراء العقود. وسبق أن طلبت "الحياة" من وزارة الموارد تزويدها مساحات الأملاك النهرية، والمؤجر منها وقيمة الإيجارات، فكانت أجوبة الوزارة تارة أن لا سجلات لديها تحدد فيها هذه المساحات وتارة أخرى أن الأمر يتطلب وقتاً. وايراد هذه الأمثلة هو على سبيل الذكر لا الحصر، ويأتي وضعها الى جانب أبواب الإهدار الكبرى ليكمل مشهد الفساد في لبنان الذي يشعر المرء كلما قطع شوطاً في عرضه ملفاته كم أن عناصره متداخلة ومترابطة، وأنه ثمرة أوضاع سياسية كاملة. فملف النفط الذي فتح أخيراً، وأوقف على أثر التحقيقات فيه وزير النفط السابق شاهي برصوميان يبدو كأنه نزع من سياقه، وتبدو عناصر التحقيق القضائي في موضوع النفط كأنها تتعاطى مع أدوات الجناية لا مع الجناية نفسها، وهذا ما دفع الكثيرين الى التساؤل: الى أين يمكن أن يصلوا في موضوع النفط؟ فما كان يصل الى أسماع اللبنانيين عن "مافيات النفط" يتعدى تلك الأرقام التي أعلنت وسربت عن الصفقات الى شبكات اتجار يشترك فيها أكثر من مسؤول لبناني وشركاء لهم من جنسيات مختلفة. ويبقى أن الأرقام التي أفادت مصادر قضائية "الحياة" بها تشي بأن أوضاعاً ممسوكة سياسياً وأمنياً لا يمكن تمرير خمسين باخرة نفط عبرها من خلال اشتراك وزير واحد في العملية. وشملت الصفقات بالتراضي التي قامت بها وزارة النفط واحدة بقيمة 300 مليون دولار وأخرى بقيمة مئة مليون دولار، ولزمت هاتان الصفقتان الى شركة انكليزية لا يتجاوز رأسمالها العشرة آلاف دولار. وعلم من وزارة النفط أنها منذ تولي الوزير والمدير العام الجديدان، أجرت مناقصتين اشتركت فيهما شركات عدة وتمكنت من ايصال سعر النقل والتأمين على مادة الفيول أويل الى 22 دولاراً للطن الواحد، بينما كانت الوزارة السابقة تستورده من دون مناقصة بقيمة 33 دولاراً للنقل والتأمين أيضاً، علماً أن التحقيقات أثبتت أن الشركات التي تعاطت مع وزارة النفط في علميات الإهدار كان بين أعضاء مجالس إداراتها أبناء لمسؤولين سابقين كأسعد روفايل نجل المدير العام السابق للأمن العام ريمون روفايل. في موضوع الهاتف الخليوي النقال، اعتبر الإهدار من نوع آخر، أي أنه لم يكن على شكل انفاق مال في غير مكانه أو تسربه الى جيوب المستفيدين، بل كان تقاعساً وتواطؤاً من الدولة في تنفيذ المشروع وبيعها هي خدماته لتدخل عائداته الكبيرة جداً الى الخزينة. لكنها أعطت الحق الحصري للعمل في هذا الميدان لشركتين: فرنسية "فرانس تيليكون" وفنلندية "ليبانسيل"، بموجب عقد لبناء الشبكة وتشغيلها لمدة 12 عاماً تنتقل بعدها ملكية الشبكة الى الدولة. على أن تدفع الشركتان 20 في المئة من ايراداتهما السنوية للدولة في أول سنتين ثم ترتفع النسبة تصاعدياً حتى السنة الثانية عشرة. وحدد العقد المبرم بين الدولة والشركتين عدد الخطوط ب500 ألف خط، لكنهما استحدثتا خدمات للمشتركين تقتطعان عليها رسوماً كبيرة هي خارج ضرائب الدولة وحصتها من ساعات التخابر، وقدرت أرباح الشركتين من التخابر وحده عام 1997 بنحو 400 مليون دولار، بلغت حصة الخزينة منها نحو 160 مليون دولار. وقد يكون من الصعب تحديد الخسائر أو مدى ما أهدرته في تلزيمها قطاع الخليوي الى شركات خاصة، لكن الإشارة الى أن الشركتين تمتان بصلاتٍ عضوية الى وزيرين الأول حالي والثاني سابق، تثبت من جديد مدى ارتباط القطاعات الخدماتية بمصالح السياسين. ويؤشر ذلك الى أن النخب التي تصدرت وتتصدر الحياة السياسية اللبنانية في العهدين السابق والحالي متشابهة الملامح والعلاقات، ومتداخلة المصالح على نحو يزيد من تعقيدات المشهد، ويعسر محاولة اعطاء تعريفات مختلفة لنخب العهدين، خصوصاً أن في موضوع الهاتف الخليوي تحديداً دأبت جهة سياسية محلية كانت متصدرة في السابق وما زالت الى اليوم، تلوح بضرورة ادخال شركة ثالثة، بعدما شعرت بغبنٍ من جراء اقتسام سوق الخليوي من جانب شركتين لهما علاقة بمسؤولين يفترض أن يقاسموهما هذا السوق وفق ما تقضي المعادلة، وهذه الجهة لم تطالب بحصة لها أثناء البحث في القانون في المجلس النيابي لجهلها قيمة عائدات هذا القطاع. أما وقد ظهر حجم هذه العائدات، فإن هذه الجهة لم تفوت مناسبة إلا ذكرت فيها بضرورة ادخال شركة ثالثة "لزيادة المنافسة وخفض الكلفة على المواطن"، وهنا لا بد من التذكير بأن لبنان من أكثر دول العالم استعمالاً واستهلاكاً للهاتف الخليوي. وكان توزع نافذين امتياز الخليوي مشابهاً لتوزع مسؤولين ورؤساء تراخيص وسائل الإعلام المرئي والمسموع التي لا يخلو اقتسامها على النحو الذي حصل من إهدار للمال العام من خلال حرمان تلفزيون لبنان حق البث الحصري على الأراضي اللبنانية حتى العام 2012، وفق ما نص عليه قانون انشاء التلفزيون، وبالتالي حرمان التلفزيون الرسمي عائدات السوق الإعلانية اللبنانية التي يبلغ التلفزيوني منها نحو 40 مليون دولار، واشراك مؤسسات خاصة يملك الرؤساء والمسؤولون معظمها في عائدات هذه السوق حتى من دون أي تعويض مادي للتلفزيون الرسمي، علماً أن تلفزيون لبنان يعاني أزمات مالية خانقة، طالما هددت استمراره في العمل. وتبلغ قيمة الفاتورة الصحية في لبنان نحو 8،1 بليون دولار، وهي تساوي قيمة الفاتورة الصحية في المملكة العربية السعودية. في حين يبلغ عدد سكان المملكة أكثر من 15 مليون نسمة ولا يتجاوز عدد سكان لبنان الثلاثة ملايين ونصف المليون. أي أن الكلفة التي تتحمل الدولة اللبنانية معظمها هي أربعة أضعاف الكلفة في السعودية، والحديث عن الإهدار في القطاع الصحي لا ينتهي. فالدولة اللبنانية متعاقدة مع معظم المستشفيات الخاصة من خلال المؤسسات الضامنة، أي الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة والجيش وقوى الأمن الداخلي وصندوق التعاضد، ودورة السياسة الصحية في لبنان تكاد تقتصر على المبالغ التي تدفعها الدولة للمستشفيات من خلال هذه القطاعات. ومعظم المؤسسات الرسمية الضامنة تعاني ضعفاً في أجهزتها التي يفترض بها أن تراقب دورات العلاج التي تقوم بها المستشفيات للمرضى، وبالتالي فإن الرقابة على فواتير المستشفيات والتأكد من مدى شغور أسرة الصحة يبقى ناقصاً ومعرضاً لزيادات من المستشفيات وهو أمر مؤكد الحصول في ظل الارتفاع الهائل للفاتورة الصحية في لبنان. وعلى رغم هذه الكلفة المرتفعة التي تدور أرقامها بين الوزارات والمستشفيات الخاصة، فإن 6،16 في المئة من الأسر اللبنانية لا تستطيع معالجة مريض لديها لأسباب مادية على ما أظهرت دراسة صادرة عن إدارة الإحصاء المركزي، وأن 6،12 في المئة من الأسر استفادت من علاج على نفقة وزارة الصحة بلغت كلفتها في العام 1997 نحو 120 مليون دولار، وبلغت ديون الدولة المستحقة للمستشفيات الخاصة الى الآن نحو مئتي مليون دولار. ولملف الصحة في لبنان شق ثانٍ يتمثل بقضية الدواء، وأنشئ مكتب له، الغاية منه استيراد الدولة الدواء مباشرة ومنافستها المستوردين الذين يتحكمون بأسعاره. لكن المكتب الذي أنشئ وعين له مدير بعد تجاذبٍ انتهى الى اختياره من المقربين لرئيس المجلس النيابي نبيه بري، واستأجر له مكتباً ضخماً في منطقة الرملة البيضاء الفاخرة، لم يعمل منذ تأسيسه قبل أكثر من سنتين. ثم أن روائح فضائح عدة خرجت منه، كان آخرها تلك التي تم تداولها على أثر استقالة عدد من أعضاء مجلس إدارته، التي اتهم فيها مديره بصرف أموال المكتب لشراء منزل له في إحدى مناطق بيروت الفاخرة. واجاب المدير المذكور في السابق عن سؤال لپ"الحياة" يتعلق بهذا المنزل: "نعم اشتريت منزلاً في بيروت، فأنا طبيب وكنت املك مبلغاً من المال واستدنت 90 ألف دولار من قريب لي واستعنت بالسلفات التي كنت اقبضها رواتب لي من الحكومة واشتريت المنزل". تعتبر تلزيمات المشاريع الإعمارية من قبل مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الأشغال ومجلس الجنوب وصندوق المهجرين ومجلس تنفيذ المشاريع الكبري ووزارة الموارد المائية والكهربائية، في ما يخص محطات الكهرباء والشبكة وغيرها من الوزارات وأعمال تركيب السنترالات وشبكة الهاتف الجديدة، من أكبر أبواب الهدر إذ جرى تلزيم بعض العقود لمقاولين بسعر، ثم أعاد المقاول نفسه تلزيم بعض أشغال العقود هذه الى شركات أخرى Sub Contractors بنسبة 60 أو 70 في المئة من قيمة العقود بما يعني أن الملتزم الأساسي ربح من العقود من دون أن يشتغل بل عبر تلزيم جزء من الشغل الى شركات صغرى 30 أو 40 في المئة أحياناً. هذا لم يحصل في كل العقود لكنه حصل في بعضها، ما يعني أن التلزيم حصل بأسعار فوق قيمة الأشغال، أو أن تنفيذ هذه الأشغال عاد فتم بمواصفات كلفتها أقل من المواصفات التي جرى فيها التلزيم الأساسي. وفي الحالتين هناك إهدار وتنفيع. وكشف تلزيم بعض الأشغال في الأوتسترادات عن أن الأسعار لشق طرقات كانت أعلى بكثير من أسعار شق طرقات أخرى... وتلزيم بعض الأشغال لشركات معينة تم مثلاً في الكهرباء بعد أن رست المناقصة على شركات أخرى. وتم التفضيل على أساس عوامل سياسية لمصحلة شركات يرغب المسؤولون في تحسين العلاقات معها. وتبقى عبارة وزير الأشغال الحالي نجيب ميقاتي معبرة أكثر على الحال إذ قال "أن توقف الهدر في الوزارة لا يعود لمجيئي اليها وإنما لعدم وجود أموال في الوزارة، في هذه الفترة التي تسبق إقرار الموازنة". وتبقى الوزارات غير الخدماتية، وهي تعاني إهداراً من نوعٍ آخر. فعدد المدرسين في وزارة التربية يقارب 5 آلاف أي بمعدل أستاذ لكل ثمانية طلاب. وكذلك الجامعة اللبنانية. وتبلغ قيمة موازنة الأسلاك العسكرية بعد حذف خدمة الدين العام من الموازنة العامة نحو 34 في المئة منها، وهو أمر قد يأخذنا الى نقاش آخر. ويرى وزير الدولة السابق للشؤون المالية فؤاد السنيورة أن الاهدار الأساسي يتمثل في تضخم عدد الموظفين في الإدارات العامة والوزارات، وفي عدم توزعهم في شكل صحيح ومنتج، وأن وقف الإهدار يتوقف على الشروع في اصلاح إداري. وبين نظرية الإصلاح من طريق الإصلاح الإداري، بحسب السنيورة، والإصلاح من طريق فتح الملفات، بحسب العهد الجديد، يبقى الإصلاح السياسي خطوة صعبة التحقق في الظروف الراهنة على الأقل.