في كتابه «الحالة دايت... سيرة الموت والكتابة» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، يضعنا الروائي والناقد المصري سيد الوكيل، من الوهلة الأولى، في غمار تأمل سيرة الموت. لم يؤجل الوكيل طرح الأمر، فاستهل نصه هكذا: «أعطانا أبي فرصاً عدة لموته، ومع ذلك لم نُعِدّ له مقبرة تليق بغربته الطويلة». حالة الأب هي الأبرز، لكن الوكيل يتوقف كذلك أمام موت آخرين من عائلته وأصدقائه، في الجزء الأول من الكتاب المخصص لسيرة الموت والذي يتسم بالسرد الروائي، فيما الجزء الثاني من الكتاب المخصص لسيرة الكتابة يغلب عليه الطابع النقدي. ثمة سبيكة واحدة إذن تجمع السرد الروائي والنقد الأدبي، لكن الامتزاج هو الذي قاد الكتابة منذ الاستهلال الأول حتى الخاتمة، والكاتب كما يتحدث عن أبيه وأمه، يتأمل ظاهرة الموت عبر كتابات لأبناء جيله، يتأمل مأساة جيله (الثمانينات) عندما ترصدهم الموت واحداً بعد الآخر: مجدي الجابري، محمد عبد المعطي، حاتم عبد العظيم، إبراهيم فهمي، علي شوك، وآخرين. لم ينصب الوكيل مائدة عامرة ليستدعي أفكاراً فلسفية من سفر الموت، بقدر ما وضعنا أمام الموت كظاهرة موجودة في قلب الحياة، فالإنسان لا يموت، بل يتحول إلى كائن شفاف ولكننا لا ندركه بيننا، فالأب ينادي أمه، ويتحول إلى طفل يلهو مع ابن الجيران، وتكون هذه إنذارات متعددة للعائلة، تنبئ بقدوم الموت لا محالة، لكن العائلة لا تقوم بالواجبات اللازمة لاستقبال هذا الموت، والكاتب يجدها فرصة لطرح أفكار عدة حول طقوس الحزن على الموتى، وأصولها، ولا يجد غضاضة وهو في سياق السرد الروائي أن يقتبس فقرات من أبحاث، ويستند إلى آراء مأخوذة من كتب، كما أنه لا ينسى أن يكتب في الخاتمة :»جميع الأسماء الواردة هنا لكُتّاب معروفين، تتجاوز الحقيقة بقوة الخيال». سنلاحظ أن الكاتب وهو يقتبس عبارات وأفكاراً عن الموت، من كتابات أصدقائه الأدباء، سرد معاناتهم. هكذا فعل مع علي شوك، الذي ذهب إلى الخليج للبحث عن نافذة جديدة للحياة، ولكنه لم يعد إلا بالمرض الذي أفضى به إلى الموت. ونجده يفتش في أشعار محمد عبد المعطي، أو في روايات وقصص نعمات البحيري، فينقل عنهما عبارات مفعمة بالحياة. الكاتب إذن لا يسرد سيرة الموت، بقدر ما يسرد سيرة الحياة لجيل – كما يعتقد – لم تتوافر له سوى عناصر الإحباط. وعلى رغم ذلك لا نشعر بالمناخ الإحباطي والكافكاوي الذي يخيم على روايات تتناول ظاهرة الموت، فالموت – كما أسلفت – وكما يبدو في الكتاب، ليس مجرداً، فهو يولد مع ولادة الحياة، وهو مقرون بها دوماً، لذلك سنجد أن الكاتب وهو يسرد حيوات موتاه، يسرد تجارب عشقه ونزواته وخياناته الصغيرة، فالراوي، وهو في حضرة الموت - موت أبيه - يناوش جارته عاطفياً، على سبيل المثال، ويستدعي مواقف موتاه المفعمة بالحياة والضاجة بمطالبها. لا يتوقف الوكيل عند أصدقائه الراحلين فقط، بل أيضاً يكتب عن تجارب إبداعية عن وفي الموت، مثل روايتي «شجرة أمي» لسيد البحراوي، و «بمناسبة الحياة» لياسر عبد الحافظ. وينوه إلى أنه على رغم وضوح الموت بقوة في رواية ياسر عبد الحافظ، إلا أنه يختار له عنوان «بمناسبة الحياة» وتختلط عنده سيرة الموت بالحياة، اختلاطاً مدهشاً. ورواية «شجرة أمي» لسيد البحراوي؛ الذي كتب هذا العمل بعد تجربة طويلة في ممارسة النقد الأدبي، تستدعي أيضاً أشكال الحياة كافة، ولا يتوقف صاحبها كثيراً عند لحظة الموت، وهو يسرد مفردات الحياة كأنها مقدمات لحياة أخرى، اتساقاً مع اعتقاد قدماء المصريين أن الموت ليس إلا الشكل الأمثل لحياة أكثر خلوداً، وأكثر قداسة، وأكثر نقاء.