ليس بسام طيبي مستعدا، "كما يفعل البعض"، لتجاهل التحدي الاصولي بصفته مجرد لغو. وكتابه الجديد "تحدي الأصولية - الاسلام السياسي والفوضى العالمية الجديدة" كاليفورنيا، هو صرخة تحذير لكنها موجّهة أساساً الى الغرب والغربيين ممن يسيؤن الفهم مرات، ويسيؤن التصرف احياناً. فاذا صح ان الاصوليين لن يمكنهم، بطبيعة الحال، فرض "نظام"هم على العالم، الا ان في وسعهم اثارة الفوضى على نطاق واسع جداً. وهذا ما يفعلونه بالضبط على نطاقات وطنية في الجزائر وأفغانستان ومصر وغيرها من البلدان. ويصر الكاتب على ضرورة التفريق الدائم بين الاسلام والاصولية الاسلامية، معتبراً أن كل تصعيد للعداء الموجه الى الاسلام بذريعة "صراع الحضارات" لا بد ان يفيد الاصوليين ويقض مضاجع الغرب نفسه. وهو، في خط أراده متجانساً، لا يكف عن التوكيد على ايمانه وكونه "مسلماً ليبرالياً". بل لا يتردد في الخروج بهذا الوصف الذاتي: "في قلبي أنا صوفي، ولكني في عقلي انتسب الى العقل". واذا صح ان الاسلام قابل للتعايش مع الديموقراطية، وهو كذلك في رأي طيبي، فان شرط هذا التعايش هو التأويل المنفتح للاسلام نفسه. على أن مؤلف "تحدي الأصولية" يرى، من ناحية أخرى، ان بعض الدارسين الغربيين للاسلام المعاصر يخطئون بدورهم اذ يعتبرون ان هدف الاسلام السياسي "أسلمة الديموقراطية"، فيما الاصوليون يشكلون الخطر الاكبر على الديموقراطية في عصرنا. والمحاجّة التي يدافع عنها مفادها ان عالمنا يتحول بسرعة الى "قرية كونية"، والقضايا الكونية انما ينبغي تناولها من ضمن نطاق الحلول الكونية. فقد فشلت محاولات ادخال الحداثة الى صلب الحضارة الاسلامية، وهو الفشل الذي تلا الهزيمة العسكرية المذلّة في حزيران يونيو 1967 والتي كانت الأم المرضعة للايديولوجيا الاصولية ومشروعها في بث الفوضى العالمية الجديدة. والاصولية الاسلامية هي ببساطة احدى تنويعات الظاهرة الكونية الجديدة في السياسات العالمية. فإن لم تكن هي سبب الازمة الراهنة لعالمنا، الا انها في آن معاً تعبير عنها واستجابة لها. وفي اية حال فهي ليست حلاً: انها احد اعمدة الفوضى العالمية الجديدة المتصاعدة. فهذه الفوضى المنبعثة من بلدان الاصوليين كافية على المدى البعيد لأن تفضي الى فوضى كونية واقليمية مركّبة. والاصولية، عند طيبي، شيء آخر يتعدى التطرف او الارهاب. انها بالاحرى تحدٍ قوي للنظام الدولي القائم والمؤسس على الأمم - الدول العلمانية. وما دام ان الاخيرة غربية الأصل والمنشأ، فان الثورة عليها هي أيضاً ثورة على الغرب. لكن على عكس الأصولية الهندوسية المحصورة جغرافياً، فالاصولية الاسلامية ذات اطلاقية كونية، وذات نظرة الى العالم مؤسسة على الاسلام. لهذا السبب، وليس بسبب اي "عداء للاسلام"، ينبغي للسجال حول الاصولية والسياسات الدولية ان يتركّز حول الاسلام والغرب. فتقليدياً امتلك كل من الاخيرين صورة عدائية عن الآخر، الا ان مضمون العولمة والاصولية هو، وبمعزل عن التشابهات، بالغ الافتراق. ونقطة الانطلاق في الكتاب، كما يرسمها صاحبه، هي المحاجّة القائلة ان العولمة ساطعة في الاقتصاد والسياسة والمواصلات والاتصالات والتقنية، لكن ليس في الثقافة والحضارة. فالامم - الدول معايير وقيم سياسية وثقافية، غربية المنشأ ولم تصبح كونية. وفي القرن الماضي، لم يتواكب التقدم في عولمة البنى مع تقدم مماثل في كوننة المعايير والقيم. فاذا صح ان صعود التعليم الغربي وانتشاره قد ساهما في ظهور النُخب المُغرّبَة في الحضارات غير الغربية، الا ان النخب هذه فشلت في ان تتجذّر هناك. ففي العوالم غير الغربية، وعلى عكس حال الامم - الدول الاوروبية، لم تنتزع مؤسسات الدولة لنفسها غير شرعية ضعيفة. فالاصوليون ينظرون الى هذه الدول ك"حلول مستوردة". ولئن لم تكن ازمة شرعية الامة - الدولة في العالم الاسلامي من فعل الاصولية الدينية، الا ان الاصولية هي، مرة اخرى، صياغة الازمة هذه وتعبيرها. وهذا ما لا يقتصر على العالم الاسلامي اذ تنظر الاصوليات جميعا الى الدول القائمة كدول زائفة. وبسبب حركات العداء للدولة، فالاصولية في البلدان ذات الكثافة السكانية الاسلامية سوف تعمل على ابطاء اي تقدم، مهما كان محدوداً، نحو اي شكل من اشكال الديموقراطية الليبرالية. وما يرجّح شيوعه، بالتالي، هو اعمال التقسيم والاشتباكات الحدودية والحركات الانفصالية. ففي محيط عريض قليل الاكتراث بالدولة الوطنية، يسلك الاصوليون الاسلاميون استراتيجية مزدوجة: يؤكدون على اطارهم الحضاري المميز لكي يميزوا انفسهم جماعياً عمن يقعون خارج ذاك الاطار، فيما يعملون داخل جماعاتهم وأُطُرهم المحلية على تعبئة روابطهم الاثنية والقرابية وتفعيلها. ويقدم المثال الاوضح على هذه الاستراتيجية "المجاهدون" الأفغان ماضياً وحاضراً. فهم المقاتلون المسلمون ضد السوفيات وجيشهم ممن استطاعوا انشاء رابط جامع في ما بين مجموعاتهم السبع الاساسية. لكنهم، بعد رحيل السوفيات، ما لبثوا ان تقسّموا على خطوط اثنية متحاربة. وعملا بهذه الحال يمكن القول ان الولاءات الاثنية تميل الى تصديع الرؤية الأصولية العُلوية والمتعالية. ويرى الاصوليون ان لا مكان للسلام بين العالم الغربي وبين عالم الاسلام، والدليل حرب البلقان التي افادتهم كثيراً، وقبلها حرب الخليج الثانية التي لعبت، في السياق هذا، اكبر الادوار. فهذه كلها، في نظرهم، توكيد على الحملة الصليبية المسيحية على الاسلام. ولما كان الشرق الاوسط اقل بقاع الاسلام استقرارا، كما انه اشدها، بالمعنى الجيوبوليتيكي، اهمية، فان مفاقمة عدم الاستقرار في هذه المنطقة كانت اقوى ادوات انبعاث الاسلام الاصولي. من ناحية اخرى فإن العلاقات الدولية في حقبة ما بعد الحرب الباردة تغدو اقل فاقل تمركزا حول الدولة، لتكسب بُعدا آخر هو العلاقة بين الحضارات، وهذا مع استمرار الدولة، بطبيعة الحال، كفاعل اولي في السياسات العالمية. بيد ان الاصوليين، وبوضوح يصعب كتمانه، هم اكثر سياسية منهم دينية. فهم اشد انشدادا الى الحداثة منهم الى التقليد. بل انهم حداثيون لا تقليديون، لأنهم يقوّمون التقليد على ضوء الحداثة، ويأخذون بشكل انتقائي بعناصر من الطرفين لكي يشكلوا منها مفهومهم للنظام السياسي، اكان محليا كما في الحالة الهندية الهندوسية، ام كونيا كما في الحالة الاسلامية. وما دام الاصوليون يمزجون بين حساسية ما قبل حديثة وبين تأويل وظيفي للحداثة مثلاً، استخدام الأسلحة والتقنيات، فان تسييس الدين الذي يمارسونه يبقى التحدي الاخطر للحداثة الثقافية والخطر الافدح على الاستقرار الدولي. ففي عالمنا الراهن لا يمكن للسلام العالمي ان يقوم الا بوصفه سلاما بين الحضارات. وما دمنا نتعامل مع ظاهرة كونية فعلينا ان نتعرف اكثر على طرق اشتغال الاصوليين كيما نستطيع مواجهة الخطر الذي يطرحونه. فالاصولية، اذن، لا تعبر عن انبعاث ديني بقدر ما تعلن عن قيام نظام جديد. ذاك ان معتنقيها يحاولون ازاحة البنى القائمة واحلال نظم شاملة محلها، نظمٍ ربما انبثقت من المبادىء الدينية الا انها تتناول القانون والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة. وهكذا تحمل الاصولية فيها زخما توتاليتاريا. ويتجه اصحابها الى تسييس الدين بقدر ما يعملون على تجزئة الولاءات. والأمر ليس يسيراً بحال من الاحوال: فصعود الاديان السياسية المتنافسة، وكل منها مصحوب بهوية اثنية، هو من الملامح المهمة لزمننا، ولسوف يبقى معنا في القرن المقبل. ذاك ان انهيار الشيوعية في الشرق وازمة المعنى التي تضرب الغرب، مهّدا الطريق معا للحضارات غير الغربية، كيما تطرح تحدياتها على الحداثة والهيمنة الغربيتين. بيد ان الاسلام غدا التحدي الرئيسي للغرب لسبب بسيط: فلأن المفاهيم والتصورات الاسلامية اوسع بكثير من مثيلتها الهندوسية الضيقة، جاز اعتبار الاسلام شبيها للحضارة الغربية لجهة كون الاثنين كونيين في نظرتهما الى العالم وصورتهما عن نفسيهما. لهذا يمكن بسهولة فهم السبب الذي يجعل الاسلام والغرب يتصادمان بتماسك ارفع من ذاك الذي تنطوي عليه الصدامات الاخرى. الا ان الاسلام، على رغم عالميته، لم يستطع ان ينشر دعوته في العالم الحديث. وجاءت العالمية التي لم تظهر الا في سياق الانتشار الغربي لتجعل المنافسة اكثر حدةً وضراوة، فبدا الغرب، في نظر المسلمين، كأنه يحرم الاسلام فرصته ويصادر وظيفته. ويزكّي الرغباتِ الصِدامية ذاك الرأي القائل ان الاسلام، وبسبب حرب افغانستان، قد ساهم بحصته في انهيار الشيوعية. اذن لماذا لا يتم الحاق هزيمة اخرى تنزل، هذه المرة، بالغرب؟ وهذا ما يقود مجدداً الى مسائل الحضارة لا الدولة وحدها. فالحق ان السجال حول "صراع الحضارات" الذي أطلقه صموئيل هنتنغتون، يدل على تغير مُرحَب به في اوساط العاملين بالعلاقات الدولية، في ما خص معاني "الحضارة" و"الثقافة". فالاثنتان كثيراً ما تجاهلهما الاكاديميون والدارسون ممن صبوا معظم جهدهم على "الدولة" ومتفرعاتها. وجاءت حرب الخليج، الحدث الذي كان ذات مرة الأكثر اثارة على شاشات التلفزيون، لترمز في التصور الاسلامي الى حقل التنافس بين صيغة "النظام العالمي الغربي الجديد" ونظامٍ عالمي اسلامي مُتَصَوّر. لكن مع خسارة الرئيس جورج بوش الانتخابات الرئاسية في 1992، اختفى تصوره التبسيطي عن "النظام العالمي الجديد". والآن اذا ما فشلت الانسانية في العثور على قواعد مشتركة تتصل باخلاقية عالمية جديدة، فان عالمنا سوف يصبح مجالا لفوضى عالمية جديدة. ومن البائس ما يُلاحَظ، في ظل عدم التقدم على هذه الجبهة، من تنامٍ مؤكد للاصوليات الدينية في الحضارات كلها. هذه الافكار التي يدافع عنها بسام طيبي على امتداد 250 صفحة كانت لتبدو أمتن لو اكترثت قليلاً بالجوانب الديموغرافية ومسائل التمديُن، ولو ركّزت قليلاً على مسؤوليات الأطراف الأخرى العسكر، خطط التنمية، التكوينات الأهلية فلا يبدو الاصوليون الشر الوحيد الذي ولد هكذا. وبالطبع فان التخفيف من صيغة الأنا، ومن الجزم التقريري واحيانا الوعظي، ومن التكرار، ومن الاصرار على التعليم، ومن المزج بين الانطباعي والتأملي والتحليلي، كانت لتمنح الكتاب قوة يفتقدها. * كاتب ومعلّق لبناني.