يؤكد(بول ريكور)، وهو أبرز فلاسفة الغرب المعاصرين، فيما يرويه عنه الدكتور هاشم صالح في كتابه: ( معضلة الأصولية) ، على أن" التعصب يعبرعن ميل طبيعي موجود لدى الكائنات البشرية. فكل شخص أو فئة أو جماعة، تحب أن تفرض عقائدها وقناعاتها على الآخرين. وهي تفعل ذلك عادة إذا ما امتلكت القوة أو السلطة الضرورية. وبالتالي فالتعصب يعني، أولاً، تسفيه عقائد الآخرين وقناعاتهم، أو احتقارها. وهو يعني، ثانياً،منع الآخرين من التعبير عنها بالقوة". أما (جاك لوغوف)، وهو أبرز مؤرخي فترة القرون الوسطى, فيستنتج, وفقاً لهاشم صالح في كتابه الآنف الذكر، بعد أن سبر أغوار الصراع الديني بين المذهبين الرئيسيين في الغرب،المذهب الكاثوليكي والبروتستانتي، أن" التعصب هو الموقف الطبيعي للإنسان، وأن التسامح شيء مكتسب ولا يحصل إلا بعد تثقيف وتعليم وجهد هائل تقوم بها الذات على نفسها.فالشيء الطبيعي هو أن أحب أبناء ديني أو مذهبي أو طائفتي، أو حتى قبيلتي وعشيرتي على المستوى العرقي. والشيء الطبيعي هو أن أكره كل من عداهم. وبالتالي فلا ينبغي أن نزاود على بعضنا البعض فنقول:نحن متسامحون، ولكن الآخرين متعصبون!. ولا ينبغي أن نلقي مواعظ أخلاقية في التسامح ونتحدث عن فضائله ومزاياه ونقول انتهى الأمر. فالمواعظ لا تحل المشكلة، إنما تحلها المصارحة الفكرية وترسيخ مفهوم المساواة بين جميع المواطنين. هذا هو التسامح الفعلي الذي ينبغي أن يسبقه تفكيك فكر التعصب لكي يظهر عارياً على حقيقته، ويفقد مشروعيته. وهذا ما فعله فلاسفة التنوير الأوروبي". وفي بحث بعنوان:(سيكولوجية التعصب)، ألفه مجموعة من الباحثين الغربيين وترجمه إلى العربية الدكتور خليل أحمد خليل أستاذ الاجتماع في الجامعة اللبنانية، يشير(هالدن) إلى أن كلمة:((Fanatique ومعناها: متعصب، "مشتقة من الأصل اللاتيني (Fanum) ومعناها المعبد أو الهيكل"، وهو اشتقاق يؤكد على أن منشأ التعصب كان في الأصل دينيا. ثم يذكر:" أن المتعصبين يظنون ،من خلال توهمهم باكتشاف المطلق وما فوق البشري، أنهم أمسكوا بالحقيقة التي تمنحهم كل العلم،كل القوة والسلطان والعصمة، وكل أشكال التفوق على البشر.إنهم يتراجعون إلى مراحل القدرة الكلية الطفيلة( من الطفولة) التي تتضمن تحقيق الرغبة على حساب الواقع الذي يجري إدراكه بالمعارف وبحدود الإمكانات الإنسانية". والميل الطبيعي للتعصب وفرض القناعات الدينية والمذهبية على الآخرين له شاهد من القرآن الكريم في قوله تعالى:" كلا إن الإنسان ليطغى،أن رآه استغنى". فبغض النظر عن"خصوص سبب" نزول هذه الآية،إلا أن"عموم لفظها"، وخاصة أن الآية استصحبت اللفظ المجرد: الإنسان، يشهد أن الإنسان متى ما امتلك القوة اللازمة، بغض النظر عن التمظهر الذي ستكون عليه تلك القوة ،إن كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعي،أو حتى ثقافية ناتجة من سيطرة ثقافة بعينها على مجتمع معين، فإنه سيميل ،حتماً، إلى الطغيان والاستبداد، وإلى فرض ما يعتقده صواباً على الآخرين. وإذا كان التعصب يمثل ، كما رأينا، الأصل في حياة الإنسان، فإن القيمة المقابلة له،وهي التسامح، تمثل، بلا شك، الاستثناء أو الطارئ في الحياة الإنسانية ولكنه،أي التسامح، لازم للتعددية التي تعبر،هي الأخرى، عن أصل طبيعي آخر مناقض ل"أصل" التعصب.مما يعني أننا سنصبح أمام عدة متناقضات تجتمع مع بعضها لتشكل عماد الحياة الإنسانية!. بجانب أصل التعصب ،فإن التعددية،دينية كان، أو سياسية أو عرقية أو مذهبية، تشكل ، هي الأخرى،أصلاً بنيوياً من أصول الاجتماع البشري، تشهد لذلك تفاصيل الواقع الإنساني منذ أن"تأنسن" الفرد عقب دخوله في تعاقد اجتماعي مع بني جنسه للعيش وفق حدود على حريته التي كانت،قبل ذلك التعاقد، لا تحدها أية حدود أخرى إلا قصور قوته عن بلوغ ما يريده . كما تشهد لذلك نصوص الكتب السماوية التي يأتي القرآن مصدقاً لما بين يديها ومهيمناً عليها. وهي نصوص تؤكد على(كونية) التعددية، كقوله تعالى:" ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم،الآية". وكقوله جل ذكره:" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين،إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم،الآية". وقد عبر الله تعالى عن(كونية) الاختلاف الناتج،ضرورة، من تعددية المشارب والأفهام والرغبات، بالفعل الناسخ:لا يزال، وهو،كما نعرف من علم النحو، يقتضي ملازمة الخبر للاسم حسبما تقتضيه الحال. والاسم في الآية هو: الضمير المعبر عنه بالواو في:لا يزالون، والتي ترجع إلى الناس. وإذا ما طبقنا قواعد النحو العربي على مضمون الآية الكريمة، فسيكون علينا أن نقول:إنه طالما أن حال الناس في هذه الدنيا ستظل موشحة بالاختلاف، فستظل التعددية ملازمة لهم حسبما اقتضت حالهم ذلك الخلاف، وهو اقتضاء دائم لازم لا ينفك أبدا. التعددية خيار وجودي لا محيد عنه، ليكن ذلك. ولكن ثمة معضلة أخرى، وهي أن التعددية لا يمكن أن تعيش باستقرار وطمأنينة، كما هي عليه الآن في المجتمعات الغربية، ما لم تكن مؤطرة بالتسامح!.مما يعني أننا أمام عدة متناقضات لا محيد عن التعامل معها في حياتنا على هذا الكوكب. متناقضات يمكن تبيانها تفصيلاً على النحو التالي: التعصب للرأي والعقيدة والمذهب والعشيرة والطائفة يعبر عن حالة طبيعية في حياة الإنسان. والتعددية والاختلاف الناتج منها يشكلان قانونا كونيا حتميا لا يملك الإنسان إزاء كونيته إلا الامتثال له. وهما أصلان،كما نرى، متناقضان تماما. من ناحية أخرى، فإن التعددية لا يمكن أن تمارس دورها الطبيعي إلا بإحلال التسامح الذي هو نقيض التعصب. وهو،أي التسامح، شيء طارئ على حياة الإنسان. والسؤال هنا هو:كيف يمكن لنا أن نُحِل قيمة طارئة واستثنائية في الحياة الإنسانية، لكنها ضرورية لكفالة قيمة كونية مطلقة لا سبيل لضمان الحياة الإنسانية والاجتماع البشري بدونه، والتي تشكل من جانب نقيضاً لأصل آخر هو أصل التعصب؟. نحن هنا أمام معضلة خِلقية فلسفية تحتاج إلى مواءمة بين عدة نقائض!. والسؤال مرة أخرى: كيف يمكن الجمع بين تلك النقائض، من أجل توفير حد أدنى من مقومات الاستقرار الاجتماعي؟. من نافلة القول أن انعدام التسامح, لا يعني انعدام التعددية غير القابلة بطبيعتها للإخفاء أو التذويب. بل يعني أن المجتمع الحاضن سيدفع ثمناً باهظاً من دماء وأرواح أبنائه للتمسك بأهدابها قبل أن يتوصل إلى الاعتراف بها والتعامل معها كواقع أمام عينيه . ولحسن الحظ،فإن لدينا تجربة بشرية حية هي تجربة أوروبا الغربية، وهي تجربة تشكلت من مرحلتين تاريخيتين, ابتدأت أولاهما بمحاولة القضاء على التعددية، وما ترتب على تلك المحاولة من أثمان باهظة دفعتها المجتمعات الغربية جراء ذلك. ثم تلتها بإقرار التعددية، كثمرة من ثمار فلسفة التنوير. وهي حدث تاريخي يستحق أن تضمن فصوله المناهج الدراسية لدينا لتتعلم منها الأجيال على مر الدهور. ونحن هنا، من جانبنا، سنحاول أن نمر عليها مرور الكرام، وسنبدأ بالمرحلة الأولى:مرحلة محاولة وأد التعددية وما ترتب عليها من نتائج مروعة مرت بها المجتمعات الأوروبية. من المعلوم,تاريخيا,أن الكنيسة الكاثوليكية ، ومنذ إقرارها كمذهب رسمي للإمبراطورية الرومانية في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي، قد حاولت وأد كافة المذاهب المسيحية المخالفة لها، بما فيها المذاهب التوحيدية التي تقول بطبيعة واحدة للمسيح عليه السلام،ناهيك عن وأدها للديانات الأخرى, خاصة منها اليهودية أولاً، ثم الإسلام فيما بعد. ونتج عن ذلك حروب ومجازر طبعت بالطابع المذهبي المرتكز على القول بالتثليث من عدمه، وقد استمرت تلك الحروب تستمد وقودها من ذلك الطابع المذهبي الثنائي( القول بالتثليث من عدمه) حتى مطلع القرن السادس عشر الميلادي، عندما ظهر المصلح الديني المسيحي:(مارتن لوثر) الذي دشن المذهب البروتستانتي في الغرب، والذي قطع مع كثير من قدسيات المذهب الكاثوليكي. الأمر الذي أدخل خلافات مذهبية جديدة إلى ساحة الصراع،مما دفع الكنيسة الكاثوليكية مرة أخرى إلى شن الحرب المروعة ضد ذلك المذهب وأتباعه في كل مكان، فكان من نتيجة ذلك الحروب الدينية المروعة التي شهدتها القارة الأوروبية التي تستحق أن نروي طرفاً منها في الأسطر التالية. في كتاب:(التسامح بين شرق وغرب) يقول أحد مؤلفي الكتاب وهو:سمير الخليل ما معناه:" خلال القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر، كانت أوروبا قد تحولت إلى خراب ينعق فيها البوم نتيجة للحروب الدينية. في تلك الحروب خسرت ألمانيا وحدها نصف سكانها.كما حل الخراب بمساحات شاسعة من الأراضي بما فيها القرى التي كانت تعمرها. أما الهولنديون فقد عاشوا حرباً دينية لمدة ثمانين سنة بدأت من سنة 1568وحتى 1648م، أكلت خلالها الأخضر واليابس لمجرد الاختلاف حول تأويلات العقيدة المسيحية.أما في أسبانيا،البلد الكاثوليكي الأكثر تزمتاً بجانب فرنسا، فلا تذكر حتى تذكر محاكم التفتيش سيئة الذكر، والتي أُنشئت بقرار من البابا غريغورس التاسع لملاحقة المبتدعة الخارجين على مبادئ العقيدة القويمة!.(قارن مع ديوان ملاحقة الزنادقة الذي أنشأه الخليفة العباسي المهدي، وقارن أيضاً مع مرسوم العقيدة القويمة الذي دشنه الخليفة القادر بالله!). وقد حكمت محاكم التفتيش في أسبانيا وحدها على مائة ألف شخص بالموت حرقاً خلال الفترة من عام 1480 وحتى عام 1834م. أما في فرنسا، البلد الحاضن لتزمت كاثوليكي لا يقل عن تزمت الكاثوليكية الأسبانية، فقد شلت حركتها حروب دينية استمرت زهاء ستين سنة. وهي حروب تستحق أن تروى بعض فصولها لما فيها من عبر وعظة.فقد حاولت الملكية الفرنسية ابتداءً من عام 1562م أن تفرض التسامح بين أبناء المذهب الكاثوليكي،الذين كانوا يشكلون الأكثرية في البلاد، وبين أبناء المذهب البروتستانتي، الذين كانوا يشكلون الأقلية، والذين اُعتُبروا من طرف الكاثوليكيين بمثابة هراطقة مبتدعين أحدثوا في الدين المسيحي ما ليس منه!، وذلك بنشر ما عرف ب"مرسوم التسامح"، والذي عاد الملك هنري الرابع فأكد عليه عام 1695م، وهو بمثابة محاولة لتنظيم العلاقة بين أبناء الطائفتين. ولكن لأن التسامح لايمكن أن يستمر ما لم يُفرض ثقافيا، وهذا ما سنتعرض له لاحقا، فقد قام الملك لويس الرابع عشر بإلغائه عام 1685م، في محاولة منه لحماية السلفية الكاثوليكية من بدع المبتدعة!. وليدشن بذلك أكبرعملية اضطهاد ضد أبناء الطائفة البروتستانتية، نتج عنها مجازر وحشية لقرى وأحياء البروتستانت، أدت بالكثيرين منهم إلى الهجرة إلى بلدان أوروبا البروتستانتية من أجل إنقاذ أرواحهم. وقد عانت فرنسا كثيراً من تلك الحوادث إلى حد اضطرت معها العالم الفرنسي:(جورج ديموزيل) أن يعتبر إلغاء ذلك المرسوم وما تلاه من مجازر وحشية بحق أبناء الطائفة البروتستانتية، بمثابة أكبر جرح في تاريخ فرنسا.(يتبع).