سقوط حكومة القوميين الهندوس بزعامة أتال بيهاري فاجباي في السابع عشر من نيسان ابريل الجاري في اقتراع حول الثقة في البرلمان الهندي لوك سابها، حدث يستدعي الوقوف عنده مطولاً وتأمله جيداً لما ينطوي عليه من دلالات، يبدو انها، وجرياً على عادتنا في العالم العربي، لم تثر احداً. فقد لا يهم كثيرا وقد سقطت حكومة فاجباي بعد نحو 13 شهراً من وصولها الى السلطة، من سيحكم الهند. فسواء دعا الرئيس الهندي نارايانان الى اجراء انتخابات نيابية جديدة - وهو ما لا يحبذه الكثيرون لنفقاته المالية الباهظة والتي تصل في بلد شاسع يسكنه نحو مليار نسمة كالهند الى اكثر من خمسمائة مليون دولار - او لم يدع، وسواء ذهب التكليف الوزاري الى حزب المؤتمر او الى غيره من القوى السياسية، وسواء كانت الحكومة القادمة حكومة ائتلافية او حكومة اقلية مدعومة من الخارج، فإن الأمر الاهم هو اعاقة مشاريع "بهاراتيا جاناتا" وظهيرها الايديولوجي المتمثل في حركة RSS المتطرفة المتمحورة حول فكرة "الهندوتفا" او تأسيس دولة هندوسية احادية الثقافة الى جانب اجتهادات لاسدال الستار على سياسة عدم الانحياز الهندية وتحويل الهند الى دولة توسعية مرتبطة بالسياسات الغربية لها حدودها الاستراتيجية البعيدة جدا عن حدودها الجيوبوليتيكة الراهنة. وهي الأفكار التي لولا وجود شخصية عاقلة ومعتدلة نسبيا مثل فاجباي في صفوف بهاراتيا جاناتا لكانت وجدت طريقها الى التطبيق العملي خلال الفترة المنصرمة. وبعبارة اخرى فان هذا "الأهم" هو عودة الهند الى طبيعتها وتقاليدها المتناغمة مع حضارتها وتاريخها والتي جسدها غاندي ونهرو في مبادئ العلمانية والتعددية الثقافية والتسامح داخلياً، وفي مبادئ التعايش السلمي وعدم الانحياز والوقوف الى جانب الحق خارجياً. وهي مبادئ تمثل ركناً اساسياً في سياسات واستراتيجيات حزب المؤتمر وكافة القوى والتيارات السياسية الهندية باستثناء تيار المتطرفين الهندوس. وبالمثل، فلا يهم كثيرا ان تحكم الهند سيدة ذات اصول ايطالية وعقيدة كاثوليكية ومتهمة بقلة الخبرة والتجربة. فالمخاوف المؤسسة على اصلها وعقيدتها الدينية لا يثيرها سوى القوميون الهندوس الاكثر تطرفاً في محاولة للاساءة الى حزب المؤتمر الذي استطاع مؤخراً لملمة صفوفه وتنظيفها من الفاسدين وانتخاب زعيمة يكفي ترديد اسمها المرتبط بقادة البلاد التاريخيين لدغدغة عواطف الهنود، وصار بالتالي مؤهلاً لاستعادة وهجه المفقود. ناهيك عن ان مثل هذه الأقاويل تتفق مع برامج التنظيمات الهندوسية المتطرفة في استعداء الغالبية الهندوسية ضد كل من لا يدين بعقيدتهم ابتداء بالمسلمين فالمسيحيين فالسيخ. اما الشعب الهندي بصفة عامة فقد تجاوز كثيرا ظاهرة النبش في الأصول العرقية والدينية لمن ينخرط في العمل السياسي من تلك الملازمة لحالات المجتمعات المتخلفة الاخرى، وصار المعيار عنده هو ولاء الشخص للكيان والوطن الذي يحمل هويته ومدى اخلاصه لدستوره. وأما المخاوف المؤسسة على ضعف خبرتها السياسية فليست في مكانها، اولاً لأن حزب المؤتمر ليس بحزب الفرد الواحد وانما مؤسسة ديموقراطية عريقة ومتجذرة في تاريخ الهند ومرتبطة بكفاح طويل وانجازات عديدة، وبالتالي فما ستقرره سونيا غاندي في حال قيادتها للهند لن يكون قرارها وحدها وانما قرار حزب يضم في قيادته العليا كفاءات أسياسية لا يمكن التقليل من شأن مؤهلاتها وخبراتها. وثانياً يجب الا ننسى حقيقة ان سونيا تعلمت في مدرسة انديرا غاندي التي قيل في حقها يوم طرح اسمها لزعامة الهند في منتصف الستينات كلاماً مشابهاً حول قلة الخبرة السياسية فاثبتت سريعاً امتلاكها لمواهب قيادية وفكر استراتيجي ناضج ربما فاق ما كان عند والدها نهرو. ومن تعلمت في هذه المدرسة وعاشت سنوات طويلة تحت سقف واحد مع صاحبتها ورافقت احداث الهند وخاضتها يوماً بيوم على مدى اكثر من عقدين لا يمكن التقليل من شأنها وشأن خبرتها. على ان ما يجب الوقوف عنده اكثر من هذا وذاك هو ان الهند اثبتت من خلال ما حدث مؤخراً، وربما للمرة الألف، انها صاحبة ديموقراطية تستفز الآخرين وتجبرهم رغم انوفهم على احترامها، مع كل ما يشوبها من وقت الى آخر من نواقص مرتبطة أساساً بسماتها الشرقية وبتقاليدها وموروثاتها الاجتماعية. فأن يقبل حزب قومي متطرف وصاحب برامج مزلزلة لكل ما تم التعارف والتوافق عليه منذ نحو خمسة عقود، ولم يحقق احلامه في الوصول الى السلطة الا مؤخراً وبشق الأنفس، بأن يتخلى عن هذه السلطة بعد حجب الثقة عنه برلمانياً، ويذهب زعيمه فوراً ودونما مماحكة او مداورة او تأخير، لتقديم استقالته الى رئيس الجمهورية مثلما تقتضي الاعراف، فهو بلا شك دلالة مؤكدة على مدى تجذر اسلوب العمل الديموقراطي والايمان بالتداول السلمي للسلطة في فكر وعقول ساسة الهند بمختلف فئاتهم وتصنيفاتهم الايديولوجية، الى الدرجة التي صاروا معها لا يجيزون لأنفسهم الخروج على الاعراف والمسلمات الديموقراطية حتى وان دعت مصالحهم وبرامجهم خلاف ذلك. فأتال بيهاري فاجباي لم يلجأ بعد اسقاط حكومته الى رفض النتيجة والاحتجاج بفارق الصوت الوحيد الذي اخرجه من السلطة لأنه يعلم انه ليس اسوأ من السقوط بفارق صوت واحد الا فوز المعارضة بهذا الهامش الضئيل والمحدود جدا. وهو لم يؤلب الجيش على زملائه المدنيين ويحتمي خلفه سبيلا لاستمراره في الحكم، وهو لم يدع منظماته الحزبية الى حمل الفؤوس والسواطير والنزول الى الشارع في مظاهرة لعرض العضلات يخيف بها معار ضيه، ولم يقرر الانسحاب والنزول للعمل من تحت الارض واطلاق اتهامات الخيانة والمؤامرة والتزوير، كما انه لم يحتج على مساعي خصومه لجذب بعض حلفائه وتأليبهم عليه عبر وعود بمكافآت سياسية على نحو ما يبدو ان حزب المؤتمر قد فعله مع زعيمة المعارضة في ولاية تامو نادو الجنوبية جايالاليتا جاليرام التي يحتفظ حزبها ب18 مقعدا في البرلمان المركزي، لأنه يعرف ان الأنظمة الديموقراطية تبيح عقد التحالفات وفكها ما بين الاحزاب السياسية في اي وقت وان اللعبة السياسية تسمح باستخدام كل الوسائل السلمية المتاحة للقفز الى السلطة بما في ذلك استغلال تطلعات بعض الاحزاب والشخصيات الانتهازية الفاسدة مثل جايالاليتا وحزبها. وبعبارة اوجز فان فاجباي لم يقم بأي شيء من تلك التي اعتاد ساسة العالم الثالث على فعله حينما يدنو اجل حكمهم او يستشعرون الضعف السياسي واحتمالات خسارتهم للعملية الانتخابية او الاقتراعية، وفي هذا منتهى الحرص على استمرارية العمل الديموقراطي. والمفارقة انه على حين كان يحدث كل هذا في الهند، كان يحدث بالتزامن شيء مغاير على ارض جارتها الباكستانية محوره تشبث رئيس الحكومة نواز شريف بالسلطة بكل ما أوتي من نفوذ وقوة بما في ذلك ضرب زعيمة المعارضة بي نظير بوتو وتهجيرها من الساحة بمحاكمات كيدية وعلى ايدي قضاة مشكوك في نزاهتهم القاضي الذي اصدر احكام السجن والغرامة والاقصاء من العمل السياسي ضد بوتو هو ابن القاضي الذي حكم على والدها بالاعدام في السبعينات، مما يثبت كم هو شاسع ذلك البون الفاصل ما بين الديموقراطيتين الهندية والباكستانية، بل ما بين البلدين التوأمين.