من يراه وهو يلهو مع طفلته المتبناة "نيها" لهو الأطفال الأبرياء في حديقة منزله المتواضع في ضواحي نيودلهي، أو من يقرأ له ديوان شعر من تأليفه يفيض بالصور، أو من يستمع إليه وهو يلتقط ملاحظات أتباعه أو معارضيه الجافة ليحولها بسرعة بديهة نادرة الى قفشات مدرة للضحك، بما في ذلك الضحك على استمراره عازباً، لا بد وأن يتساءل ان كان صاحب كل هذه المزايا هو فعلاً أتال بيهاري فاجبايي الوجه القيادي الأبرز في حزب "بهاراتياجاناتا" حزب الشعب الهندي، صاحب الأفكار والسياسات القومية الهندوسية المتطرفة، وزعيم كتلته البرلمانية الذي صار اليوم - بحسب نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة - رئيساً لحكومة الهند الجديدة. فإن جاءته الاجابة بالتأكيد، فلا بد أن يتساءل عندئذ عما يدفع الرجل المعروف ببشاشته الدائمة وتواضعه ومرحه وحبه للحياة ناهيك عن افقه الفكري الواسع وتهذيبه الرفيع ورومانسيته المتدفقة شعراً، الى العمل تحت جناح حزب متعصب شوفيني النزعة، ووسط ساسة مغالين في تطرفهم وحماقاتهم الايديولوجية. بل ان الأمر قد يستدعي التساؤل ابتداء عن دوافع خوضه لغمار الميدان السياسي الشائك. على نطاق واسع ومتزايد صار فاجبايي يعرف بأنه "الرجل الصحيح في الحزب الخطأ" أو "الوجه الأكثر اعتدالاً في حزب لا يعوزه دليل على التطرف". ورغم ان الرجل كرر مراراً أنه لا يحبذ مثل هذه النعوت لأن حزبه "صاحب وجه واحد لا عدة وجوه"، ورغم اصراره على التمسك بفكرة "الهندوتفا" لب فلسفة بهاراتياجاناتا التي تدعو ضمن أمور أخرى الى اقامة دولة هندوكية الصبغة ذات ثقافة احادية مهيمنة وإحلال قانون مدني موحد يخضع له جميع الطوائف والأقليات الدينية المكونة للموزاييك الهندي وإعادة بناء معبدالإله "رام" وغيره على انقاض الجوامع الاسلامية التاريخية فإن ما رصد عنه حتى الآن يحمل قدراً كبيراً من البراغماتية والازدواجية، بما يوحي أنه حائر بين التزامه الايديولوجي ونزعة الاعتدال. ففي أثناء انتخابات 1996 التي جعلته نتائجها قاب قوسين أو أدنى من الوصول الى السلطة، رصد عنه قوله انه متمسك بعلمانية الهند وتعددها الثقافي لكنه لا يريد علمانية أو تعددية قائمة على الغش والتدليس! وأنه متمسك بتطبيق "الهندوتفا" لكن دون إراقة للدماء أو التسبب في انفصام عرى وحدة الأمة الهندية! وأنه مع اقامة معبدالإله "رام" في مكان المسجد البابري في ايوديا لكن في ظل الاجماع والتوافق الوطني! وهذا الاستدراك المتكرر هو الذي أشاع صورة الاعتدال في شخصيته بالمقارنة مع شخصيات رفاقه الذين يخلو خطابهم السياسي من مفردة "ولكن" ويقودهم التطرف الى عدم التردد في اطلاق شعارات مخيفة مثل طرد الأقلية الهندية المسلمة 120 مليون نسمة الى الباكستان وتنمية القدرات النووية الهندية. على أن هذا الاعتدال لم يحقق للرجل ما كان يطمح إليه وقتذاك في بلوغ قمة السلطة المركزية. فقد قيل فيه انه اعتدال لا يسري على مكونات فلسفة "الهندوتفا" وانما على وسائل تحقيقها، بمعنى أن فاجبايي مؤمن بأصل العقيدة وأهدافها لكنه يختلف مع رفاقه على سبل تطبيقها وزمانه. وهكذا وقف قادة حزب المؤتمر وكتلة الجبهة المتحدة في وجهه وأفشلوا محاولة تشكيله للحكومة فلم يجد الرجل حرجاً من الاعتراف بفشله، ليدخل التاريخ كأقل رؤساء الحكومات الهندية بقاء في السلطة 13 يوماً تقريباً. وحينما لاح أن فرصة اللجوء الى صناديق الاقتراع مرة أخرى باتت خياراً لا مفر منه في أعقاب سقوط حكومة انديركومار غوجرال الجبهوية، كان فاجبابي قد تعلم الدرس واستفاد من التجربة، واقتنع بأن زيادة نفوذه الشعبي ومقاعد حزبه البرلمانية عملية لا يمكن تحقيقها من دون اضفاء لمسات ملطفة اضافية على صورة حزبه أولاً وعلى مواقفه الشخصية كزعيم برلماني له ثانياً. فكان أن شهدت حملات 1998 الانتخابية تراجعاً في عملية الاصرار على "الهندوتفا" مقابل المزيد من شحن الخطاب السياسي بعبارات التودد للمسلمين وبمفردات مثل الاستقرار ومحاربة الفساد والانفتاح الاقتصادي الحذر والعلاقات السلمية القائمة على المساواة والاحترام والتعاون مع جميع الدول المجاورة وعلى رأسها الباكستان. وهذا ما جعل قطاعات من المسلمين المفترض أنهم أكثر المتضررين من وصول بهاراتياجاناتا الى السلطة تراهن على شخصية فاجبايي واعتداله وتصوت بالتالي لحزبه. ولد فاجبايي في 1926 في بلدة غواليور في أواسط الهند لأسرة يعمل ربها في سلك التدريس. وبدأ نشاطه السياسي في سن المراهقة المبكرة عبر الالتحاق بالتيارات والتنظيمات الشبابية المحاربة للوجود الاستعماري البريطاني، فقاده هذا النشاط الى المعتقل لفترات وجيزة. وفي مرحلة لاحقة استهوته الأفكار الشيوعية واليسارية فمال نحو تنظيماتها الحزبية، إلا أنه عاد وانعطف عنها بحدة حينما اتضح ان الشيوعيين الهنود لا يمانعون في فكرة تقسيم الهند الى كيانين على أسس طائفية. ولشدة انشغاله بالسياسة ومعاركها وبالتالي تغيبه المستمر عن دراسته في كلية الحقوق، فصلته هذه الكلية فاتجه الى العمل كمحرر لمطبوعة تصدر باسم حركة "راشتريا سوايمسيفاك سانغ" السرية المعروفة اختصاراً ب "آر. إس. إس" والتي كانت قد تأسست في 1925 ثم انجبت لاحقاً معظم الساسة الكبار العاملين حالياً في صفوف بهاراتياجاناتا. ويبدو أنه في هذه المرحلة تحديداً بدأ الانعطاف الحقيقي في حياة وأفكار فاجبايي السياسية. فالعمل في مطبوعة ترفع شعارات قومية هندوسية متطرفة ووسط جماعات لا تخفي اعجابها بقادة الحركة الفاشية في أوروبا وممارساتهم، معطوفاً على حماسة الشباب المتأججة وطموحات السياسي المراهق الباحثة عن الأدوار، دفعه شيئاً فشيئاً الى تشرب أفكار حركة "آر. إس. إس" والانخراط الرسمي في صفوفها وممارسة طقوسها بما في ذلك ارتداء البذلات الكاكية المميزة والمجسدة لطابعها العسكري، والانتظام اليومي في طوابيرها الصباحية وتمارينها الرياضية والقتالية. ولم يلاحظ على فاجبايي أي تغير لجهة التزامه بعقيدة هذه الحركة، حتى بعدما أقدمت - عبر أحد أعضائها - على اغتيال المهاتما غاندي في 1948 كعقاب له كما قيل على تأييده لفكرة تقسيم الوطن الهندي. ونتيجة للعار الذي لحق بها باغتيالها أب الأمة، ورغبة منها في دخول البرلمان، كان على قادة الحركة أن يتخفوا وراء اسم وثوب جديدين، فقام عدد منهم باطلاق حزب "جان سانغ" الذي شارك في الانتخابات البرلمانية لعام 1957 بعدد من المرشحين كان على رأسهم فاجبايي. واستطاع الأخير أن يدخل البرلمان وان يبقى فيه لسنوات عدة، يعارض ويجادل ويقارع لكن من دون أن يحقق شيئاً ملموساً في ظل هيمنة حزب المؤتمر وقادته التاريخيين على كامل الساحة السياسية. وكغيره من آلاف الساسة المعارضين للمؤتمر، ألقت به السيدة أنديرا غاندي في المعتقل على اثر اعلانها قانون الطوارئ في السبعينات، ليعود ويخرج من سجنه ويساهم مع غيره في اقامة تحالف ما بين "جانغ سانغ" وعدد من القوى المعارضة تحت اسم "جاناتادال" حزب الشعب، وهو الحزب الذي استطاع بقيادة الراحل موراجي ديساي في 1977 أن يلحق أول هزيمة بالمؤتمر ويطيح زعيمته. وشارك فاجبايي في الحكومة الائتلافية التي تشكلت على أثر ذلك كوزير للخارجية، إلا أنه لم يهنأ كثيراً بهذا المنصب، إذ سرعان ما أطاحت الخلافات السياسية ما بين تيارات جاناتادال المتصارعة الحكومة في نهاية 1979، لتجرى انتخابات برلمانية جديدة في 1980 ولتعود غاندي الى السلطة بتخويل شعبي كاسح. ولا شك أن هذه التطورات سببت احباطاً لفاجبايي ورفاقه، كان من نتائجه قرارهم في 1980 اطلاق حزب "بهاراتياجاناتا" كخليفة لحزب "جان سانغ". وكنتيجة لكثرة الاحتكاك ما بين هذا الحزب الجديد وبقايا حركة "آر. إس. إس"، اضافة الى أداء بهاراتيا جاناتا الضعيف في انتخابات 1984، تكونت قناعة في صفوف الحزب أن اسم فاجبايي قد استنفد أغراضه ولم يعد ورقة جماهيرية رابحة، فجرى استبداله بلال كريشنا أدفاني كزعيم جديد. واستطاع الأخير عبر اضفاء جرعة أكبر من الحدة على خطاب بهاراتياجاناتا السياسي، وعبر دغدغة مشاعر الأغلبية الهندوسية أن يقود الحزب من نصر الى نصر 89 مقعداً في انتخابات 1989، و119 مقعداً في 1991، و162 في 1996، فيما ظل فاجبايي الذي كان قد استعاد مقعده البرلماني وفياً للخط العام لسياسات حزبه ومعترضاً في الوقت نفسه على نظرية زعيمه القائلة بأن الطريق الى نيودلهي يمر عبر أيوديا. واثبتت الأيام وتحديداً الحوادث الدموية التي أعقبت عملية هدم المسجد البابري صحة مواقف فاجبايي لجهة استحالة تطبيق برامج الحزب المتطرفة من دون اسالة قدر كبير من الدماء، مما دفع بهاراتياجاناتا وبضغط من الرجل الى مراجعة طروحاتها والظهور أمام الرأي العام المحلي بمظهر أقل صدامية وان لم تتخل عن مبادئها الأساسية التي راح يجسدها بعض حلفائها الأكثر عنصرية وتزمتاً مثل حزب "شيف سينا" في ولاية مهاراشترا بصورة أكثر حماقة. ويعتبر فاجبايي اليوم من ضمن القلة من السياسيين الذين لم يتورطوا في قضايا الفساد بعكس زعيمه ادفاني، كما أنه أحد الوجوه القليلة في حزبه ممن يمتلكون خبرة سياسية ثرية تعود الى أكثر من نصف قرن.