يكاد عجز الموازنة في لبنان وعبء الدين العام وتفاقمه، ينسحبان عجزاً وانكماشاً في القطاعات الاقتصادية كافة، اذ هناك توافق على تشخيص "المرض" الاقتصادي المتأتي من نقص السيولة في الاسواق وتوقف العجلة الاقتصادية او تعثرها على غير صعيد وفي غير قطاع. والسوق العقارية او تجارة العقارات، هي احد اكثر القطاعات التي تشهد الآن انكماشاً حاداً وجموداً كبيراً، لم يشهد لبنان مثيلاً لهما من قبل لناحية انخفاض الاسعار وجمود البيع. .مالك القعقور يكتب من بيروت عن اسباب الازمة التي تواجه السوق. اذ اعتبرت الحكومة السابقة ان كساد السوق العقارية وجمودها، سببهما ارتفاع رسوم التسجيل على الاجانب 5،16 في المئة واعدت مشروع قانون لخفضها الى عشرة في المئة، فان تجار العقارات يتوافقون معها في هذا الجانب ولا يتوافقون في جانب آخر اذ يعتبرون ان العقارات جزء من الوضع الاقتصادي "وهو صعب ومترابط بعضه ببعض. ولن يحل او يعود الى حاله الطبيعية اذا لم تخفّض الفائدة ليجد المستثمر في العقارات حافزاً افضل من سندات الخزينة"، على ما قال ل"الحياة" نائب رئيس جمعية تجّار بيروت صاحب احدى الشركة العقارية، فادي شحرور. في حين اعتبر رئيس شركة "فيدوس" المالية سمير عون ان "مع فوائد 16 في المئة لا يمكن تسويق العقار. فلماذا يشتري احد عقاراً ما دام يجد في الفوائد التي تدر عليه من ايداع امواله في اي مصرف ارباحاً افضل. فقاتل العقار هو الفوائد". وشهدت السوق العقارية بين عامي 1992 و1995 ازدهاراً كبيراً لكنه كان عشوائياً وغير مدروس اذ وجد المستثمرون، بعد انتهاء الحرب، فرصة سهلة وطريقاً سريعة للاستثمار في لبنان من دون ان يكون هدفهم الاول الاستثمار في القطاع العقاري، بل لأنهم اكتشفوا عدم توافر مقومات الاستثمارات الصناعية والتجارية في حينه. فبدأ "الهجوم" في شكل كبير، لا سيما من اللبنانيين المقيمين في الخارج، على شراء الاراضي التي كان سعرها رخيصاً، وتحركت سوق العقارات غير المبنية وارتفعت اسعارها نظراً الى ضخامة ما وظف من استثمارات، ثم تلتها عملية تسابق على انشاء المباني عليها حتى فاق العرض الطلب كثيراً. وتزامن هذا العرض الكثيف مع مشارفة اعمال البنى التحتية على الانتهاء، لكن السيولة خفّت وتالياً غاب المشترون وخصوصاً في ظل غياب سياسة اسكانية لاعطاء ذوي الدخل المحدود قروضاً طويلة الامد. وهذا ما لم تستطع الحكومة السابقة تأمينه لناحية صعوبة توفير الموارد ما حدا بها الى انشاء "المؤسسة العامة للاسكان" بهدف تمويل القروض من المصارف التجارية، وهي تقوم بخطوة ملحوظة في هذا الاطار، بموجب بروتوكول بينهما. لكن المؤسسة لم تبدأ عملها في ظل العهد السابق، ومن المتوقع ان تباشر العمل بعد صدور موازنة السنة الجارية اذ اقر مجلس الوزراء الاسراع في الشروع في بعض المشاريع الحيوية ومنها مشروع اسكان يقضي بمنح قروض اسكانية لذوي الدخل المحدود بالتعاون بين الادارة والمصارف الخاصة. وقال شحرور: "منذ عام 1996 بدأنا نلاحظ، للمرة الاولى في تاريخ لبنان، ان هناك انحداراً او هبوطاً في اسعار العقارات اذ انخفضت نحو 20 و25 في المئة". واضاف: "ربما انخفضت الاسعار لان ارتفاعها كان غير طبيعي اذ بلغ اكثر من مئة في المئة، فاعتبرنا الانخفاض نوعاً من التصحيح للاسعار لكن السوق تجمّدت، وهذا ما اسهم في انكماش الوضع الاقتصادي لأن معظم الاموال يصعب تسييلها لتوظف في قطاعات اخرى، وهي لا فوائد لها مطلقاً". وافاد ان "عدد الشقق غير المبيعة، بحسب احصاء عام 1997، ناهز 120 ألفاً، وقيمتها تقدر بنحو ثمانية بلايين دولار"، معتبراً انها "لو سيلت ودارت في السوق لحركت الدورة الاقتصادية". وعن البيع بالتقسيط قال: "في هذه المرحلة ، في ظل كثرة العرض وقلة الطلب، ادت المنافسة الى هبوط الاسعار والى تقديم تسهيلات بالدفع لا سيما من الذين يواجهون صعوبات مالية. وبعضهم يبيع باسعار دون الكلفة وبعضهم لا يزال صامداً ومترقباً لانه غير مدين". واكد ان "المشكلة ليست في الاسعار، وهي ليست مرتفعة في لبنان قياساً الى دول المنطقة، بل تكمن في قلة السيولة لدى الأفراد التي من ابرز اسبابها بعض السياسات النقدية التي اتبعتها الحكومة السابقة اذ وضعت فوائد عالية على سندات الخزينة بلغت 30 في المئة وعلى مراحل طويلة، ما دفع بعض المستثمرين والمدخرين، في آن، الى توظيف اموالهم فيها لأن ارباحها كبيرة ومكفولة". والى تقاعس التجار عن العقارات ثمة تقاعس من المواطنين اللبنانيين، لا سيما الطبقة الوسطى، عن شراء العقارات، مبنية وغير مبنية، وهم الذين طالما تغنّوا ب"الارض" وتفاخروا بامتلاكها ووجدوا فيها المكان الأكثر اماناً والأفضل للادخار. فراح كثر منهم هذه الايام بسبب صعوبة الاوضاع المعيشية يعرضون قطع ارض ورثوها عن "آباء نقبوها بالدم وعرق الجبين"، ولكن لا مشترين ولا "مَنْ يشترون"، على ما وصف الحال ابو فيصل 55 عاماً الذي عرض ارضه للبيع قبل نحو سنة لاعناً الايام التي ارغمته على ذلك من دون أن تجد له غير مشترين بالتقسيط، وهو عازم البيع نقداً. ويصف المهندس حسن دمج، وهو صاحب مكتب عقاري، سوق العقارات بأنها "صفر. فقلة الاموال مع الناس تجعلهم يبيعون اراضيهم بعدما كانوا يشترونها ترفاً". ومن يشتري اليوم؟ اجاب "الموسرون جداً او من انهى خدمته وتقاضى تعويضاً كبيراً واراد ان يورّث اولاده ارضاً". ورأى صاحب شركة عقارية تمنى عدم ذكر اسمه ان "المشترين اليوم هم اقطاعيون اذ يستغلون هبوط الاسعار ويشترون مساحات كبيرة ويفرزونها قطعاً صغيرة ويبيعونها بأغلى الاسعار". ويؤكد هذا التاجر انه كان يبيع يومياً، قبل نحو ثلاث سنوات، 15 شقة اما اليوم فلا يبيع خمس شقق في الشهر، معتبراً ان الاسباب كثيرة منها ان المغتربين والمقيمين في الخارج توقفوا عن ضخ الاموال الى الداخل بسبب جمود الوضع الاقتصادي العالمي. وتوقف دفع بدلات الاخلاء من صندوق المهجرين اذ كان المستفيد يدفع ما يتقاضاه دفعة اولى من ثمن شقة ويقسط الباقي. واي شرائح تبيع اراضيها اليوم؟. اجاب "انها ثلاث: المحتاجون مادياً، ومالكو عقارات فيها مشكلات ارث، والمهاجرون وهم كثرة". واذا كانت هذه حال صغار التجار ومتوسطيهم فحال الشركات العقارية الكبيرة ليست افضل ومنها شركة اعادة اعمار وتطوير وسط بيروت التجاري "سوليدير"، التي حظيت بهالة كبيرة حين انشئت عام 1994 واعطيت "طابعاً وطنياً" بهدف اعادة اعمار وسط بيروت لجعله مركزاً حيوياً. وراحت الشركة تشهد تطوراً تصاعدياً في تحقيق الارباح بلغت 05،18 مليون دولار عام 1994 وصولاً الى 8،77مليوناً عام 1997. ثم بدأت بالانحدار في العامين الأخيرين لتصل الارباح الى 40 مليوناً. وشهدت اخيراً تراجعاً في اسعار الاسهم. واظهرت الشركة في بيان لها تراجعاً في ارباحها بنسبة 33،30 في المئة العام الماضي. وافادت ان "هذه النتيجة تعكس تأثير الغاء عدد من عمليات بيع عقارية او تأجيلها بقيمة 66 مليون دولار". وشرح أحد المستثمرين في هذا القطاع ل"الحياة" ان معظم التجار "متريث الآن لسببين الأول رغبتهم في بيع المخزون الجاهز من العقارات المبنية الشقق، والثاني ترقبهم لمعرفة السياسة الاقتصادية الجديدة في البلد وفرص العمل فيه. وليعرفوا اين يقفون". وقال ان "المستثمر اللبناني ضائع في هذه المرحلة ولا يعرف مصلحته اين تكمن". وسأل "هل نحن في بلد خدمات ام زراعة ام صناعة؟. فليقولوا لنا اي قطاع يريدون. نريد احداً يرسم لنا السياسة الاقتصادية العامة ويوجه المستثمرين نحو الحقل الاستثماري الصحيح الذي يعود بالمنفعة على الجميع". واشار الى ان الهيئات الاقتصادية في لبنان قدمت الى الحكومة الحالية اقتراحات حلول للوضع الاقتصادي ضمنها اقتراحات في شأن القطاع العقاري وهو "احد اهم القطاعات التي من شأن انطلاقها ان تسهم في كسر الإنكماش الإقتصادي ويؤدي الى معالجته اذا تحركت البلايين الثمانية من الدولارات وأخذت طريقها الى قطاعات اقتصادية اخرى، وراحت تسهم في رفع الناتج المحلي في شكل كبير". ومن الاقتراحات: مطالبة بتسهيلات تشريعية تكفل خفض رسوم التسجيل على الأجانب من 16 في المئة الى 5،6 في المئة اسوة باللبنانيين. وإذا كان هناك خوف من خفضها فيمكن حصر الخفض بتملك الأقسام المبنية لا العقارات، وتوفير قروض اسكانية لذوي الدخل المحدود من الدولة او من المصارف الخاصة بالتعاون مع الدولة بفوائد مخفوضة على مدد طويلة، اضافة الى تعديل الرسوم على رخص البناء وهي مرتفعة جداً او اقل من الواقع لناحية التخمين. اضافة الى اقرار قانون للايجارات يسمح بتأجير الفائض من الشقق شققاً مفروشة للسياح سيما أن هناك شكوى تصدر أحياناً من غلاء كلفة المبيت في لبنان مقارنة مع دول المنطقة. وكانت الحكومة اللبنانية السابقة تقدمت بمشروع قانون لخفض الرسوم من 17 في المئة الى عشرة في المئة بهدف تشجيع الاجانب والخليجيين خصوصاً على تملك شقق في لبنان لان اللبنانيين لا يمكنهم تملك الشقق المبنية كلها، لكن المجلس النيابي رفض، وبقيت من دون استجابة مساعي تحريك السوق العقارية بهدف زيادة دخل الخزينة من رسوم التسجيل في الدوائر العقارية التي كانت ولا تزال، تسيطر عليها "حال عشائرية" ذلك أن كل التسجيلات في امانة السجل لا يمكن ان ينجز إلا من خلال معقّب معاملات، وكذلك الأمر مع بيوعات العقارات غير المبنية. يذكر في هذا الصدد أن دخل الدوائر العقارية عام 1997 ناهز 325 بليون ليرة لبنانية بعدما كانت قيمته قبل خمس سنوات 70 إلى 80 بليوناً.