بعد ساعات قليلة على إقفال صناديق الاقتراع، كانت تركيا على موعد مع "زلزال" انتخابي لم تشهد له مثيلاً ربما منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وانتهت الانتخابات وفشلت استطلاعات الرأي بصورة ذريعة في التكهن، ولو بنسبة ضئيلة بالنتائج. وباستثناء توقع احراز زعيم حزب اليسار الديموقراطي تقدماً ملحوظاً لكن ليس بالنسبة التي حصل عليها، فإن نتائج الانتخابات النيابية خصوصاً، قلبت الخريطة السياسية في تركيا رأساً على عقب، طاوية مرحلة ومدشنة أخرى تحمل الكثير من الدلالات والاحتمالات والمضاعفات والتعقيدات. حقق حزب اليسار الديموقراطي بزعامة رئيس الوزراء التركي بولنداجاويد نسبة 22 في المئة بنتيجة الانتخابات. لكن المفاجأة الكبرى والضخمة كانت حلول حزب الحركة القومية، اليميني المتشدد الذي يتزعمه دولت باغجلي، وهو خليفة الزعيم التاريخي للحزب ألب ارسلان توركيش، في المرتبة الثانية، حاصلاً على نسبة 18 في المئة. لكن النظام الانتخابي في تركيا أتاح لحزب الحركة القومية عدداً من النواب قريباً مما ناله حزب اليسار الديموقراطي 128 للأول و135 للثاني. وكانت المفاجأة الثالثة، التراجع الكبير في شعبية حزب الفضيلة الاسلامي وهو الذي كان ينتظر هذه الانتخابات بفارغ الصبر لكي يرد التحدي على مرحلة 28 شباط فبراير 1997، بداية حملة العسكر عليه كان حينها حزب الرفاه وليؤكد ان الأمة تؤيد معركته ضد النظام. إذ نال الحزب 15.6 في المئة فقط بعدما كانت النسبة عام 1995 21.4 في المئة، أي انه فقد على الأقل ربع قاعدته الانتخابية. لكن احتفاظ الاسلاميين برئاسة بلديتي اسطنبولوانقرة وبفارق مريح من الاصوات، عوض بعض الشيء خسارتهم في الانتخابات النيابية. كما تقدم الفضيلة في الانتخابات البلدية على مستوى تركيا ككل بنسبة 23 في المئة، في مقابل 19 في المئة لحزب اليسار الديموقراطي و16 في المئة لحزب الوطن الأم. الفضيلة للخدمات ولعل في هذه المفارقة ما مفاده ان الناخب صوت لمصلحة حزب الفضيلة "الخدماتي" فيما عارض توجه الحزب "السياسي". وتركت هذه النتيجة صدمة في قاعدة الحزب وفي قمته، وأدرك زعيمه رجائي كوتان النتائج باكراً، فعقد بعد 3 ساعات على اقفال الصناديق، مؤتمراً صحافياً في المقر العام للحزب في محلة مالتبه حضرته "الحياة"، داعياً للمصالحة بين الاحزاب وملمحاً الى انه سيستقيل من رئاسة الحزب اذا فشل في الانتخابات "اسوة بزعماء الاحزاب التي تخسر في أوروبا الغربية مثل هلموت كول". وكان الانهيار مدوياً ومفاجئاً ايضاً على جبهة اليمين، وبعدما دعت تانسو تشيلر منافسها مسعود يلماز الى الانسحاب لأن نسبة أصواته ستتراجع، فاذا بحزبيهما معاً: الطريق القويم والوطن الأم يتسابقان الى الانهيار. وتراجعت نسبة الاصوات التي حصل عليها الطريق القويم بزعامة تشيلر من 19.2 في المئة عام 1995 الى 12.4 في المئة في انتخابات الأحد الماضي، كما تراجعت نسبة أصوات الوطن الأم الى 13.4 في المئة بعدما كانت عام 1995 19.7 في المئة، أي ان أصوات حزبي "مركز اليمين" تراجعت مجتمعة بنسبة تقارب الپ13 في المئة. وستثير هذه النتائج هزة كبيرة حول زعامة الحزبين اللذين أمضيا وقتاً طويلاً خلال السنوات الماضية في مناكفات شخصية. وهذا التراجع في أصوات اليوم لم يكن أحد يتوقعه. أما على جبهة "اليسار العلماني"، فقد فشل حزب الشعب الجمهوري حزب اتاتورك في تخطي حاجز العشرة في المئة المطلوبة للتمثل في البرلمان، ونال بحدود 8.9 في المئة بتراجع نقطتين عن العام 1995 حين نال 10.7 في المئة. ما يعني ان تقدم حزب "اليسار العلماني" الآخر، حزب اليسار الديموقراطي بنسبة 8 نقاط عن انتخابات 1995، لم يكن فقط على حساب حزب الشعب الجمهوري، بل كذلك على حساب أحزاب اليمين العلماني. وعلى الصعيد الكردي، حل حزب الشعب الديموقراطي الكردي في المركز السابع، ولكنه لم يستطع ان يزيد من نسبة الأصوات التي حصل عليها عام 1995، بل تراجعت هذه النسبة بعض الشيء الآن فبلغت 4 في المئة مقابل 4.7 في المئة قبل أربع سنوات. ومع انه تصدر النتائج في معظم المناطق الكردية ولا سيما في كبرى مدنها ديار بكر، إلا انه سيبقى خارج البرلمان لعدم حصوله على نسبة العشرة في المئة. لكن حزب الشعب الديموقراطي وضع الدولة أمام واقع جديد بسيطرته على معظم المجالس البلدية في جنوب شرقي تركيا ولا سيما في ديار بكر وباتمان وسعرت وحقاري وفان وآغري وقارص، وهذا سيتيح له فرص تأثير "رسمية" في تلك المناطق. أما بقية الاحزاب فحققت نتائج ضعيفة جداً، ونال حزب الوحدة الكبرى اليميني 1.3 في المئة ومثله حزب تركيا الديموقراطية بزعامة حسام الدين جيندوروك، فيما قلت نسبة الاصوات التي نالتها الاحزاب الأحد عشر المتبقية أقل من واحد في المئة واقتصر بعضها على بضعة آلاف من الأصوات. وحقق كل من النائب السابق عن حزبي الطريق القويم محمد اغار الذي كان وزيراً للداخلية لدى كشف "فضيحة صوصورلت" قبل 3 سنوات حين فاز مستقلاً عن دائرة ايلازيغ، وكذلك أحمد أوزال، ابن الرئيس الراحل تورغوت أوزال، عن دائرة والده التقليدية ملاطيا، ويحتمل ان يرتفع عدد المرشحين الناجحين من بين المستقلين الى ستة مع اكتمال ظهور النتائج. حجاب في البرلمان؟ ونجحت كل من المرشحتين المحجبتين: مروة قافقجي عن حزب الفضيلة الدائرة الأولى في اسطنبول ونسرين اونال عن حزب الحركة القومية دائرة انتاليا، اضافة الى المرشحتين عن حزب الفضيلة: الصحافية المعروفة نازلي ايليجاق دائرة اسطنبول الثالثة وأديا آق غونينتش الدائرة الأول في انقرة. وسيفتح نجاح نائبتين محجبتين سجالاً واسعاً حول امكان دخولهما البرلمان وهما يرتديان غطاء الرأس، علماً ان المادة 56 من النظام الداخلي للبرلمان تحدد ضرورة ارتداء المرأة "تايوراً" ولا تشير البتة الى مسألة إبقاء الرأس سافراً أم لا. وهي النقطة التي سيسعى الاسلاميون للاستفادة منها واعتبار ان القانون لا يشير الى منع المحجبة من دخول البرلمان. وينتظر نجاح 22 امرأة في البرلمان الجديد. كيف توزع نفوذ الاحزاب بعد انتخابات الاحد الماضي؟ اسفرت النتائج عن حصول حزب اليسار الديموقراطي أجاويد صفة "الحزب الأول" ويقدر عدد النواب الذين سيمثلونه في البرلمان بحوالى 135 الى 140 نائباً. وتركزت قوة الحزب في المناطق الأكثر تطوراً في تركيا، اي مناطق شمال غربي تركيا الشطر الأوروبي من تركيا، ومحافظات ساحل ايجه وبحر مرمرة والبحر الأسود واسكي شهر ومناطق شمال شرقي تركيا على الحدود مع جورجيا، اضافة الى انقرةواسطنبول. وسيطر حزب الحركة القومية على عدد كبير من الدوائر الانتخابية في وسط البلاد، المعقل الرئيسي لحزب الفضيلة، وفي مناطق في جنوب غربي البلاد، مثل سيواس واضنة وقيصري ويموزغات وامنيون وسمسون وتشوروم وغيرها. ونجح حزب الفضيلة في عدد محدود من الدوائر مثل قونية وارضروم ونهرمان مراش وآدي يمان وطرابزون، فيما توزعت دوائر الوطن الأم والطريق القويم على مناطق في جنوب شرقي البلاد وفي انتاليا واسبارطة وفوتاهية. وفي اسطنبول، حقق حزب اليسار الديموقراطي انتصاراً كاسحاً وتمثل بحوالى نصف عدد نواب المدينة البالغ 69 نائباً تلاه حزب الفضيلة بحوالى سدس النواب، ثم حزب الوطن الأم فالحركة القومية. وفي انقرة، تقاربت أصوات أحزاب الحركة القومية واليسار الديموقراطي والفضيلة. أما على صعيد الانتخابات البلدية، فحافظ حزب الفضيلة على سيطرته السابقة، ففي انقرة فاز مرشحه مليح غوكتشيك بحوالى 30 في المئة من الاصوات على منافسه الأقرب مراد قره يالتشين من حزب الشعب الجمهوري الذي نال حوالى 24 في المئة. وفي اسطنبول تقدم مرشح حزب الفضيلة علي مفيد غورتونا بحوالى 27 في المئة في مقابل 21 في المئة لمرشح حزب اليسار الديموقراطي زكريا تميز ايل، وحل مرشح الوطن الأم علي طالب اوزده مير ثالثاً بعشرين في المئة. كما فاز الفضيلة بنصف بلديات مناطق اسطنبول. وحصلت في أزمير مفاجأة حين فشل المرشح الأقوى رئيس البلدية الحالي برهان اوزناتورا ونال فقط 16 في المئة في مقابل 30 في المئة لمرشح حزب اليسار الديموقراطي أحمد بيريشتينا. أما البلديات الكبرى الأخرى فتوزعت كما يلي: أضنة، سمسون للوطن الأم، بورصة واسكي شهر وايتشيل لحزب اليسار الديموقراطي، قيصري وقونية للفضيلة. انتاليا وغازي عينتاب وقوجالي لحزب الشعب الجمهوري، ارضروم لحزب الحركة القومية، وديار بكر لحزب الشعب الديموقراطي الكردي.