لم تسفر نتائج الانتخابات المحلية في تركيا عن مفاجآت كبيرة، وقد تمكنت إحدى شركات سبر اتجاهات الرأي العام من توقع النتائج بدقة عالية، في آخر مسح أجرته قبل يومين من موعد الانتخابات. وإذا كان الخبر الأبرز يتمثل في تراجع نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بمعدل 3 نقاط عن الانتخابات المحلية في 2004، و8 نقاط عن الانتخابات العامة في صيف 2007، فقد كان الحزب نفسه يخشى من الأسوأ، خاصة بعدما بدأت آثار الأزمة المالية العالمية بالظهور في الاقتصاد التركي، انكماشاً اقتصادياً وارتفاعاً في معدلات البطالة، الأمر الذي من شأنه أن يخفض من مستوى شعبية أي حزب حاكم. في المقابل أظهرت النتائج أن الحزب الحاكم قد "تنافس مع نفسه"، على حد تعبير رئيسه رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، في غياب معارضة فاعلة ذات مصداقية. والحال أن المفاجأة الحقيقية تمثلت في تقدم حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري بقيادة دنيز بايكال، نقطتين بالقياس إلى الانتخابات العامة قبل عامين. ورأى المحللون السياسيون أن مرد هذا التقدم هو تراجع تمركز خطاب الحزب حول العلمانية، وتقدم اهتمامه بملفات الفساد والشأن الاقتصادي، الأمر الذي يعني تقدم السياسة على حساب الإيديولوجيا، فضلاً عن انفتاح الحزب على البيئات المحافظة وقبوله بالنساء المحجبات في صفوفه. لكن المتأمل لتوزع شعبية الأحزاب وفقاً للمناطق الجغرافية، سيصدمه انقسام جغرافي – سياسي لافت. وإذا كان الفوز الكاسح لحزب المجتمع الديموقراطي في جنوب شرقي الأناضول ذي الكثافة السكانية الكردية أمراً مفهوماً، فإن الفوز المماثل لمرشحي حزب الشعب الجمهوري في المناطق الساحلية، قد لا يكون مفهوماً بالدرجة نفسها. ففي الوقت الذي استولى فيه الحزب العلماني على بلديات إزمير جميعا بفارق كبير عن أقرب منافسيه، تمكن مرشحوه من استعادة رئاسة البلدية في أنطاليا، المدينة السياحية على ساحل المتوسط، من حزب العدالة والتنمية. وعموماً فاز مرشحو الحزب ذي الإرث الكمالي في معظم المناطق الساحلية، كما نافسوا الحزب الحاكم بجدية في أنقرة واسطنبول، الأمر الذي يرده محللون إلى حسن اختياره لمرشحيه من أصحاب الشعبية الواسعة في العاصمتين. أما حزب الحركة القومية بقيادة دنيز بهتشلي فقد فاز عموماً في مناطق نفوذه التقليدية، على ساحل البحر الأسود وبعض بلدات وسط الأناضول. حزب العدالة والتنمية وحده أثبت أنه "حزب تركيا". وإذا كان قد خسر 11 بلدية في المناطق ذات الكثافة الكردية لصالح حزب المجتمع الديموقراطي، وأخفق في تحقيق حلم أردوغان بالاستيلاء على "قلعة ديار بكر"، كما يسميها الحزبان المتنافسان معاً، فقد حافظ على شعبية واسعة بين الأكراد، وظل المنافس الوحيد للحزب الكردي. فإذا أضفنا توزع الهويات الصغرى على الأحزاب السياسية، انكشفت أمامنا لوحة من الانقسام الجغرافي – الأهلي – السياسي – الإيديولوجي، تحت قشرة الدولة - الأمة الأحادية الصارمة التي قام بتصميمها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. في مقالة لكاتب هذه السطور نشرت في "الحياة"، صيف 2007، وصف تفصيلي لتوزع الهويات الجزئية بين الأحزاب السياسية المتنافسة. سأذكّر هنا بأبرز ما فيها: يصوّت القسم الأكبر من العلويين، تقليدياً، لحزب الشعب الجمهوري، مدفوعين بمخاوفهم من هيمنة الأغلبية السنية، الأمر الذي ازداد حدة منذ وصول حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية إلى الحكم في 2002، برغم أن الحزب العلماني لم يحقق لهم أي شيء مما يصبون إليه كجماعة مذهبية، في الفترات القليلة التي حكم فيها، كما أنهم مهمشون في بنية الحزب كما الأحزاب الأخرى، وإن كانت هذه جميعاً "تضطر" إلى ترشيح عدد من العلويين على لوائحها كلما جرت انتخابات، رغبة منها في كسب أصوات هذه الأقلية الكبيرة التي تميل عموماً إلى التصويت كجماعة واحدة. الأتراك من ذوي الأصول الخارجية (من بلغاريا والقفقاس وتركمان العراق وغيرها، وعددهم غير معروف بدقة لكنه كبير) يميلون عموماً إلى التشدد القومي، ويصوتون لحزب الحركة القومية وأحزاب صغيرة أخرى يمينية قومية. ولن نضيف جديداً بقولنا إن الأكراد يصوتون بأغلبية كبيرة للأحزاب الكردية، ينافسهم حزب العدالة والتنمية، ويصوت قسم من الأكراد العلويين لحزب الشعب الجمهوري (منطقة ديرسم بخاصة). وبصورة مفارقة يصوت قسم كبير من الجماعة الأرمنية لحزب العدالة والتنمية، وهي جماعة صغيرة لا يبلغ تعدادها مئة ألف. الظاهرة اللافتة الأخرى تتمثل في غياب تام لليسار الذي كان طموحاً جداً في الستينات والسبعينات. حزب الشعب الجمهوري العضو في الاشتراكية الدولية، هو الممثل الوحيد لليسار، فيما يقتصر استقطابه الأفقي على الطبقة الوسطى المتعلمة ذات نمط الحياة العصرية، الأمر الذي يفسر شعبيته في المدن الساحلية والعاصمتين. أما اليسار الحقيقي، إذا فهمنا بالصفة هذه الخطاب الماركسي بتنويعاته، فيتمثل أساساً في حزب العمال التركي الذي سيطرت على خطابه، في العقدين الأخيرين، النزعة القومية المتشددة في غلاف استقلالي معاد للإمبريالية، الأمر الذي ينتقده اليسار الليبرالي بوصفه مفارقة تاريخية. كذلك امّحت من الخريطة السياسية أحزاب اليمين التقليدي، كالطريق القويم والوطن الأم، وهي التي احتكرت تقريباً تشكيل الحكومات، منذ الخمسينات حين تم الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، فلم تعد قادرة على بلوغ حاجز ال 10 في المئة الضروري لدخول البرلمان. ومثل ذلك ينطبق على حزب السعادة الذي يدين بالولاء لنجم الدين أربكان، الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا منذ أواخر الستينات، برغم تحقيقه تقدماً ملموساً بالقياس إلى الانتخابات العامة في 2007. ما يعدّل من هذه الصورة السلبية المتمثلة في الانقسامات المذكورة، الإقبال الكبير من الناخبين، وقد بلغ في الانتخابات الحالية معدلاً قياسياً بلغ 83 في المئة ممن يحق لهم الاقتراع، الأمر الذي يشير إلى ارتفاع سوية الوعي الديموقراطي لدى المجتمع التركي، وانكفاء الحالمين بالانقلابات العسكرية إلى مواقع الدفاع، يمثلهم المتهمون القابعون خلف القضبان في قضية شبكة أرغنكون الإرهابية. * كاتب سوري.