هناك أسئلة كثيرة من الرأي العام عن حقيقة الرد الروسي على العمليات الجارية في يوغوسلافيا، وبقدر متساوٍ يتساءل المرء عن مصير ذلك التوازن في سلاح الرعب الذي استطاع الاتحاد السوفياتي تحقيقه مع القوة النووية الضاربة وتطويره والمحافظة عليه مطوراً طوال عشرات السنين. الأسئلة مشروعة ومنطقية لكن الإجابة عنها كانت تحاط في الغالب بكم كبير من الدعاية الأميركية، ساعد في بلورة اعتقاد خاطئ أضاع وجه الحقيقة وسط زحام الدعاية. الصحيح هو تأثر العسكرية الروسية كلها بالظرف الاقتصادي السيئ للبلاد وليس فقط مصانع التسليح الحربي، التي لم تتعرض إلى عمليات التطوير الضرورية، غير أن الصحيح أيضاً استمرار امتلاك الجيش الروسي إلى ترسانة هائلة من السلاح النووي التي ورثها عن الاتحاد السوفياتي. ويذكر ان الجيش الذي ما زال ممتلكاً لعناصر الدمار الشامل لا بد أن يحسب له حساب يتجاوز في النتائج المشاق الاقتصادية والمشاكل المالية التي تعانيها روسيا ومثيلاتها. يقول رئيس أركان القوات الروسية المسلحة أناتولي كفاشينين: "إن روسيا مستعدة لإمداد الحلفاء في يوغوسلافيا بأكثر من مجرد الرجال والخبراء، سنمد الصرب بأنواع الأسلحة المتطورة، لكن الأمر يقتضي مراقبة التطورات جيداً، ومدى الحاجة الفعلية للحلفاء من السلاح المتطور الذي نمتلكه". وتحدث الجنرال كفاشينين عن أمور كان الكثيرون لا يعتقدون بجرأة الروس على البوح في تفاصيلها علناً، خشية إغضاب واشنطن ومصادر البنك الدولي الأخرى، لكن ذلك حدث بقوة، تحت تأثير ثقل أحداث البلقان الحالية، خصوصاً تهديدات الأطلسي التي تجاوزت، وفق مصادر المراقبين، كل الحدود الممكنة. يقول الجنرال الروسي: "إن وصول سفينة الاستطلاع الروسية ليمان إلى سواحل الادرياتيكي، حيث يمكن من مراقبة عمليات الناتو عن قرب، سيعني الخطوة الأولى في ما الذي ستفعله العسكرية الروسية لدعم القوات اليوغوسلافية الصربية، وعندما نرى ان الحاجة تقتضي الإقدام على تنفيذ خطوات أخرى سنفعل من دون أن نحتاج إلى الكثير من الدعاية". صيغت هذه التصريحات بعناية لمعالجة التصدع الخطير الذي أصاب صدقية القيادة الحالية للرئيس يلتسن، وثقة المواطن الروسي بالامكانات العسكرية لبلاده، بعد أن كانت واحدة من أقوى قوتين في العالم. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر أريد على ما يبدو من الاشارات القوية التي وجهها القائد العسكري البارز إلى الداخل، ان تكون بوابة تطل على تغيير ايجابي في الوضع النفسي العام في كل البلاد. إذ ليس من الأمور الخافية كون العلة المرضية أثرت بقوة في هذا الجسد تأثيراً ربما يخطط له من الدوائر الخارجية والداخلية المرتبطة بها، على أن يطوي صفحة القوة السابقة طياً يجعل كل معالم القوة السابقة من أخبار الماضي. ويلاحظ البعد العسكري والنفسي للعمل المشترك بين صربيا وروسيا، المتجسد في إعلان الحكومة الصربية أنها نقلت على وجه السرعة إلى موسكو حطام طائرة الشبح الأميركية، بناء على رغبة وزارة الدفاع الروسية والوفد الروسي الذي كان في زيارة لصربيا أثناء اسقاطها بالقرب من العاصمة بلغراد، وكان يعتقد على نطاق واسع استحالة إصابة هذا النوع من الطائرات من قبل رادرات العدو. أراد الجانبان المتحالفان الايحاء بأن صناعة التسليح السوفياتية، العملاقة سابقاً، ما زالت تشكل بعد انتقالها إلى الوريث الروسي منافساً قوياً للتسليح الغربي والأميركي. ومع الافتراض بعدم تطابق هذا الافتراض والواقع، إلا أن تأثيرات حادث الاسقاط ستظل فترة تشغل المسؤولين عن صناعة الأسلحة الأميركيين. من مؤشرات حال القلق التي رافقت الحادث، تأكيد الدوائر الأميركية "ان طائرة الشبح من النماذج التصنيعية القديمة، ولا توجد خشية من انتقال الحطام إلى الروس"، بينما لم يكشف الأميركيون عن وجود أي بديل ل"الشبح" حتى الآن، وإلا لكانوا جربوه خلال غارات التحالف ابان حرب الخليج الثانية، أو على الأقل عرضوه للتفاخر، كما هي العادة عند المسؤولين في البنتاغون. الثابت الآن هو ان الرئيس الصربي وضع رسمياً الكرة في ملعب موسكو، عندما طلب إمدادات تسليحية للمساعدة في تحسين التصدي لغارات الأطلسي المستمرة. كما أن الثابت وجود حال تعاطف قوية للغاية مع الصرب لدى الشارع الروسي وغالبية الشارع في الجمهوريات السوفياتية السابقة، والأسباب، كما هو معلوم، ليست عقائدية دينية وحسب، بل وقومية أيضاً، وان هذه الصورة عكست التصريحات التي أدلى بها قادة برلمانيون من جمهوريتي روسيا وبيلاروسيا الذين كانوا في زيارة تضامنية إلى بلغراد. إذا أخذنا الوعود التسليحية التي اتخذت حداً يوحي بأنه لن يكون مجرد تصريحات في حال التوسع بالعمليات، وتعرض أمن روسيا القومي لأخطار جدية، فلم يكون مناص يحول دون الاستجابة الفعلية للوعود، لأن الأمر هنا مقترن مع أمر آخر لا يقل أهمية، وهو وصول ست سفن حربية روسية، سيعني المزيد من دفع الأمور إلى التعقيد وربما إلى شكل متنام من الغضب، قد لا ينتهي إلا باندلاع مواجهة، لم يكن أحد في روسيا يريدها أو يحسب لها حساباً جدياً من قبل. أعلنت تركيا أن السفن الروسية الست، ومنها سفينة تعمل ضد الغواصات تدعى "كيرش" وأخرى للاستطلاع أيضاً تدعى "سيميتيليفي" والطراد "كولينكو" مأذون لها بعبور مضيق البوسفور لترابط في الأدرياتيكي. وبهذا تكون التصريحات الانفعالية التي صدرت عن القائد العام لقوات الناتو الجنرال ويسلي كلارك مفهومة، من منطلق التحذير من مغبة الخطوة الروسية وتنبيه الساسة في دول الأطلسي كي يتعاملوا مع الاحتمالات التي تنجم عن "هذه المشكلة التي يتطلب حلها تدخلاً ديبلوماسياً". من الثابت تقريباً وجود قدر لا بأس به من التعاون والتنسيق بين المخابرات الروسية والاستخبارات الصربية، يمكن القوات الصربية من الاطلاع على المعلومات التي تنقلها أقمار التجسس الروسية عن الخط الجوي الذي تسلكه الطائرات المغيرة مع تحديد لأنواعها وأعدادها، خصوصاً قاذفات القنابل وطائرات التجسس الأميركية، ولا يعتقد ان الروس يعانون هنا تحديداً من أي مشاكل عند نقل هذه المعلومات إلى القيادة الصربية عبر الأقمار الاصطناعية أيضاً. ولو نفذ الجيش الروسي ما صرح به ناطق عسكري، بأن بلاده ستنقل قريباً إلى بلغراد أعداداً من المتخصصين في مجال الدفاع الجوي الروسي، للعمل على تحسين أداء زملائهم الصرب في التصدي لقاذفات الأطلسي ومقاتلاته، فإن الوضع العسكري العام سيأخذ وجهة ميدانية أكثر تعقيداً. القلق الألماني لعل أفضل متفهم لكل القلق الألماني من الموقف الروسي الغامض، حتى الآن، هو المانيا نفسها، بعد أن كانت دفعت 130 بليون مارك الماني إلى الجيش الروسي، للقبول بمغادرة الأراضي الشرقية، وطي مرحلة تقسيم المانيا إلى الأبد. لكن هناك الكثير من الساسة الألمان ممن باتوا يعتقدون بخطورة المسلك السياسي للدولة الحالية في بون التي نفضت عن كاهلها، بالمشاركة في العمليات الحالية، عقدة كيان ضعيف اختير كي يكون كذلك إلى الأبد، وهي مشاركة تحدث بهذا الشكل للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، ومع الدولة الخصم نفسها: يوغوسلافيا. يقول المستشار الألماني السابق هيلموت كول "إن بلادنا سلمت كل مقاديرها الآن للولايات المتحدة، وبات مصيرنا رهناً بالأيادي الأميركية، انه لوضع خطير ومهدد". يحدث هذا في الوقت الذي نجد ان السياسي الألماني غيرد شموكله يقترح، في تصريحات مربوطة بعناية مع تفاقم الوضع المهدد في المنطقة، ان يتولى المستشار السابق كول مهمة التوسط بين الجانبين المتناحرين، من أجل وقف الأعمال الحربية، قبل أن يصبح هذا الأمر متعذراً، ربما في المستقبل القريب. ويرى في تبريره لهذا المقترح أن الزعيم الألماني السابق يحتل مكانة مرموقة في واشنطن عدا عن صداقته الوثيقة مع الرئيس الروسي بوريس يلتسن. ويعتقد شموكله إن الأمور بحجمها الحالي ستكون ميسرة أمام كول، ومن هذا المنطلق قد تكون انتقاداته الحادة مفهومة أميركياً، على أساس أن القصد من ورائها ترطيب الأجواء المتوترة في بلغراد والتخفيف من آثار التصعيد المعادي للحكومة الألمانية. إذا أخذنا في الاعتبار ان شموكله جنرال متقاعد كان يعمل نائباً للقائد العام لقوات الأطلسي، فإن العجب يبطل من الطريقة التي صيغت بها تصريحاته، والطريقة الأخرى التي اختار كول بموجبها مفرداته في انتقاد الولاياتالمتحدة، وتصب كلاهما في محاولات قصد منها التقليل من احتمال المخاطر المهددة للألمان على أساس قربهم الجغرافي من ساحة العمليات. ومن المؤكد أن واشنطن تقدر تماماً حجم المخاطر الجدية التي باتت المانيا تعاني من تأثيراتها المحتملة والمخاوف المرتبطة بها، لكنها لن تفعل شيئاً يهدئ من روع الألمان، طالما كان الأمر متعارضاً مع احتمالات حرف المخطط الأميركي عن مساره الحالي. وقد لا تكون قضايا حقوق الإنسان والغالبية الألبانية من سكان كوسوفو في رأس قائمة الأهداف الأميركية من العمليات الحالية في البلقان، لكن من شبه المؤكد الاعتقاد أن الإدارة الأميركية لم تكن منذ الطلعة الهجومية الأولى ضد بلغراد تجهل حقيقية الموقف الروسي، والاسناد المحتمل تقديمه إلى الصرب على أساس قومي وديني لا مفر منه. لكن في المقابل، توفر أكثر من عنصر مقنع للاستراتيجيين الأميركيين، أن احتمال توسع النزاع سيحقق لواشنطن على المدى الأبعد الكثير من الفوائد السياسية والاقتصادية، أبرزها إعاقة تهديد "اليورو" للدولار الأميركي، وجعل الأوروبيين ينشغلون عن تطوير كيانهم السياسي الجديد. هناك مبادرات لبعض الدول الاقليمية التي لها مصلحة في خلط جديد للأوراق سواء حققت كسباً بسبب عمليات الناتو الحالية أم لم تحقق. ونموذج هذه الدول هو البانيا ومقدونيا، إذ من المسلم به أن تكون للألبان مساع للتوصل إلى نتيجة، تقودهم إلى تصفية حسابات سابقة مع القوميين الصرب، الذين لم يكتفوا بإلحاق كوسوفو لسيطرتهم المباشرة، بل أقدموا بعد سنوات وجيزة اعقبت وفاة الرئيس تيتو على إلغاء نظام الحكم الذاتي الذي كان سائداً في الاقليم حتى العام 1989. مصالح البانيا تصب خطوة الرئيس الألباني رجب ميداني في هذا الاتجاه، حين دعا قوات الأطلسي إلى دخول بلاده والمرابطة فيها واستخدام قواعدها العسكرية ومطاراتها منطلقاً لشن الحرب البرية على كوسوفو، وطرد الصرب منها. لكن الرئيس الألباني لم يشر في دعوته المنشورة في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية إلى مأساة اللاجئين الألبان المتفاقمة، الذين لم يجدوا مكاناً أكثر أمناً من العراء والغابات فاختاروها مأوى لاقامتهم، بينما ينحصر الهم الألباني الرسمي في كسب رضى الأميركيين، حليفهم القوي الجديد، طمعاً في بعض المكاسب الثانوية التي لا تعالج بجد أياً من المشاكل الألبانية، خصوصاً الاقتصادية، ومن المحتمل أن يعول الألبان على إعادة توحيد اقليم كوسوفو في حل جزء من مشاكلهم الاقتصادية لتميّز كوسوفو بالثروات المعدنية والطبيعية. ومن المؤكد أن الأمور لن تكون بهذا التبسيط، حتى يصبح الجهد الأميركي، وتخطيط الاستراتيجيين البعيد المدى في الولاياتالمتحدة، مكرساً لخدمتهم. من الواضح اليوم بروز مأساة إنسانية كبرى في محيط الاقليم الألباني تجسدت في هجرة أو تهجير ما يزيد عن مليون إنسان من مناطقهم، ولعل صورة القطارات المعبأة باللاجئين الكوسوفيين تعيد إلى الذاكرة الصور المفزعة للآلام التي تسببت بها النازية إبان الحرب العالمية الثانية، ولعل توجه الأطلسي لتوزيع أعداد كبيرة من هؤلاء على دول الحلف، بما فيها الولاياتالمتحدة، أمر يثير الكثير من مشاعر الخشية بأن يؤدي الاجراء إلى تغيير الواقع البشري القائم حتى الآن في الاقليم، لأن رقم المليون يعني في الحسابات التقليدية نصف سكان الاقليم، فإذا رحل هؤلاء أو رحلوا فإن المعادلة ستتغير حتماً لصالح الأقلية الصربية، وفي النتيجة سنجد أن ما جرى للبوسنة والهرسك يتكرر في كوسوفو مع بعض التغييرات في التفاصيل ويؤدي إلى أمر معكوس، يصبح أول المتضررين منه الكوسوفيون أنفسهم من دون أن يكون لديهم الفعل والاقتدار على التغيير في غضون زمن منظور. لن نصل الآن إلى نتيجة، عبر الحديث عن الوضع الميداني على الأرض، لكن الذي يبدو من أي قراءة متأنية لما يجري أن الأمور ستستمر سجالاً لبعض الوقت، من دون ان يتحقق هدف أو أكثر من أهداف الناتو المعلنة على أقل تقدير. وسنرى، ربما خلال الفترة المنظورة، كيف ان الأطلسي بجناحه الأوروبي سيصل إلى مرحلة عض الأصابع، ندماً على الايغال في السير وراء المخططين الأميركيين، على رغم أن كثيراً من تفاصيل ذلك تم، عبر التلويح بالاجراءات العقابية التي اشتهرت واشنطن بها.