على اثر المقالة التي نشرتها في "الحياة" منذ اسبوعين تلقيت مجموعة من الملاحظات من القراء الكرام يشاركونني الرأي في ان اليابان معروفة مجهولة، معروفة اقتصادياً، ومجهولة تاريخاً وثقافة، ويشاركونني الرأي، ايضاً، بأن التجربة اليابانية تجربة غنية بالدروس والعبر. جدير بنا ان ندرسها بطريقة تساعدنا في التغلب على الصعوبات والتحديات التي تواجهنا. وانه باعتبار اليابان قد نجحت في ان تحول الهزيمة الى تنمية شاملة وان تتحول الى احدى القوى الاقتصادية الكبرى بعد دمار شامل فنحن في حاجة لمعرفة سيكولوجية هذا الشعب وثقافته لكي نتمكن من التعامل معه بما يحقق المصالح المشتركة، وهي كثيرة. ولن يكون ذلك الا بالتواصل المستمر والتعرف على جماعاته ومراكز دراساته وابحاثه. وقد شجعتني ردود الفعل على المقالة الاولى على تسليط الاضواء لجوانب اخرى لتجربة هذا البلد المهم ودوره في العالم. ولا مبالغة في القول ان اليابان امة معروفة مجهولة، فلسنا وحدنا الذين نقول هذا. بل ان الاميركيين الذين هزموا اليابان واحتلوها لمدة ست سنوات وثمانية شهور يعتقدون انهم لا زالوا يجهلون الكثير عن هذا البلد، فلقد صدر في هذا الشهر في نيويورك كتاب في غاية الاهمية للكاتب الاميركي جون دور وهو استاذ التاريخ الياباني في "أم آي تي" في بوسطن تحت عنوان "احتضان الهزيمة" معتمداً على المحفوظات واليوميات وإعادة القراءة لاحداث ما بعد 1945 بالتفصيل. ورغم الخبرة الاميركية الكبيرة في اليابان فان المؤلف يرى "انه نظراً لحساسية هذه الفترة بالمقارنة لأحداث شبيهة في التاريخ، فانه قليلاً من النقاش والتفكير حول ما حدث دار في اليابانوالولاياتالمتحدة، وحول شعور الناس خلال فترة الاحتلال، على الاقل بالمقارنة حول ما قيل عن الحرب وولادة اقتصاد اليابان" وحسب رأي المؤلف، فإن "الاحتلال" كان ناجحاً، فرغم ما تواجهه اليابان من مشاكل اقتصادية فانها لا زالت دولة مساواة وديموقراطية منذ ان فرضت عليها اميركا الدستور الذي يرفض الحرب ويتوصل المؤلف الى نتيجة مثيرة "ان كثيراً من الغموض الذي ينتاب سلوك اليابانيين في علاقاتهم مع شركائهم التجاريين، في قراراتهم الحاسمة ليس نابعاً من الاحساس الياباني تجاه قوات الاحتلال تحت قيادة الجنرال دوغلاس مكارثي بل بما يسمى النموذج الآسيوي للرأسمالية حيث يزود بيروقراطي الحكومة بالدليل التجاري للتجارة والصناعة الذي يناقش مع خبراء متأثرين بالقيم الكونوفوشوسية، وينبع ايضاً الى حد كبير من الاحساس بأن قوات الاحتلال تريد ان تبقى بنية اليابان الاقتصادية المتأثرة بالحرب، واستعمال النخبة اليابانية لتنفيذ سياساتهم". والدكتور جون دور حصل على عدة جوائز تقديراً لكتابه "حرب دون رحمة" الذي صدر عام 1986، هذا الكتاب الذي فتح أعين الكثيرين بتوثيق الحقد والقسوة من الطرفين. ويرى الدارسون لهذه المنطقة ان أكثر الأمور اثارة في دراسة الدكتور دور الأخيرة هو كشفه لوثائق تتعلق بالامبراطور هيرو هيتو، هذه الوثائق تؤكد ان الجنرال ماك ارثر أصر على ابقاء الامبراطور ليكون سداً في وجه الفوضى والشيوعية في المجتمع الياباني، ولكن وفي الوقت نفسه هدد بإبعاد هيرو هيتو ليحصل على موافقة البرلمان الياباني على الدستور. وينظر السيد دور ان في عدم اعتبار هيرو هيتو مسؤولاً عن التصرفات خلال الحرب سمح للشعب الياباني الاعتقاد انه مثله مثل الامبراطور، اختطف من جانب العسكريين ولا يتحمل مسؤولية عن الحرب. ويرى المؤلف ان الصورة لدى اليابانيين ان الامبراطور نجح في اقناع الاميركيين انه لا يعرف شيئاً عن بيرل هاربر مقدماً، ولكن الأدلة التي توصل اليها الدكتور دور تثبت انه عرف مقدماً. وبغض النظر عن دقة التحليل وصواب المعلومات في هذا الكتاب فإن الاميركيين الذين احتلوا اليابان احتلالاً مباشراً لمدة سبع سنوات مع حضور على كل الأصعدة لمدة خمسين عاماً لا زالوا يرون أنهم لا يعرفون ما يكفي عن هذا الشعب. والزائر لليابان الآن يسمع ويلمس انها تقوم بمراجعة لسياساتها الأمنية والاقتصادية. وقد فرضت هذه المراجعة مجموعة التطورات التي شهدتها المنطقة المحيطة باليابان أو العالم كله. ان نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي أوجدا شعوراً بأن مصدراً للخطر قد انتهى. كما ان حرب الخليج الثانية أوضحت مدى العزلة التي تشعر بها اليابان. ولأول مرة يظهر من يدعو الى ضرورة التخلص من المعاهدة الأمنية التي تربط اليابانبالولاياتالمتحدة والتي تشكل الاساس للسياسة الدفاعية في اليابان، وتقنن لوجود القوات الاميركية على الأرض اليابانية، وكانت هذه النقطة من المحرمات التي ما كان يمكن التفوه بها قبل ذلك. والى مدى طويل فإن اليابان اكتفت باعتماد المساعدات الخارجية لخدمة مصالحها الحيوية في الخارج، فاليابان تمنح أعلى نسبة تقدمها الدول المتقدمة كمساعدات للدول النامية. وعلى سبيل المثال فإن اليابان التزمت في 19 من تشرين الثاني نوفمبر 1998 بتقديم مساعدات بمبلغ 200 مليون دولار للفلسطينيين في العامين القادمين. ووزعت ما يقرب من 376 مليون منذ عام 1993 وحتى الآن. واليابان تعتبر من أكبر المانحة للفلسطينيين بالمقارنة بالولاياتالمتحدة وبقية الدول الأوروبية الى جانب المساعدات التي تقدم لدول العالم الثالث ككل. لكن مع تردي الأوضاع الاقتصادية في اليابان فان هناك جدلاً كبيراً يدور حول هذا الموضوع، فدعاة اعادة النظر في المساعدات الخارجية يعتمدون على تردي الأوضاع الاقتصادية، وعلى تدني مساهمة الدول المتقدمة الأخرى في المساعدات للدول النامية. بينما دعاة الاستمرار في هذه السياسة يرون ان اليابان دولة تعتمد في اقتصادها على التصدير، ومن مصلحتها ان تكون الأسواق متطورة ومستقرة، وانه كلما تردت الأوضاع الاقتصادية في دول الأسواق كلما أثر ذلك سلباً على اقتصاد اليابان، ولذلك فان هذه المساعدات تصب في نهاية المطاف في مصلحة الاقتصاد الياباني. وحتى الآن فان وجهة النظر هذه هي الغالبة اذ تعتبر هذه القضية الى جانب كونها قضية اجتماعية وانسانية فانها تشكل دعماً غير مباشر لتجارة اليابان ومصالحها. والأمر الآخر ذو العلاقة بالأوضاع الاقتصادية وحصص اليابان في ميزانية الأممالمتحدة ومنظماتها المتخصصة، فهي تأتي مباشرة بعد الولاياتالمتحدة الأميركية اذ ان حصة اليابان في ميزانية الأممالمتحدة عام 98 كان 8 في المئة و 19 في المئة عام 1998 ليصل الى 20 في المئة عام 2000، مع ملاحظة ان اليابان تدفع حصتها من الميزانية في الأممالمتحدة بصورة منتظمة، بينما لا تدفع الولاياتالمتحدة ما عليها من حصص، مما أدى الى خلق أزمة مالية خانقة في الأممالمتحدة. ولكن السؤال الى أي مدى سيستمر كل ذلك مع تردي الأوضاع الاقتصادية في اليابان، وتلكؤ الدول الغنية الأخرى في تقديم المساعدة للدول الفقيرة؟. وكنت في مقالتي السابقة عن اليابان أشرت الى انه خلال زيارتي لمتحف هيروشيما رأيت ان هناك كرة أرضية حيث وضعت علامة مميزة على كل دولة تقوم بتجارب نووية، كما ان مدينة هيروشيما توجه رسالة لرئيس كل دولة بعد أي تجربة نووية. وقد لفت نظري أنه لم توضع علامة مميزة لإسرائيل ولم ترسل رسائل احتجاج لقيادتها وقد ناقشت هذا الأمر مع مدير المتحف. وكنتيجة لهذه المعلومات فانني تلقيت نسخة من رسالة وجهها الأخ ياسين الشريف سفير فلسطين في قطر الى السفير الياباني في الدوحة بين فيها خطورة انتشار الأسلحة النووية، وتعاطف الفلسطينيين مع الشعب الياباني لما حدث لمدينتي هيروشيما ونغازاكي، وفي نفس الوقت عبر عن النظر بإعجاب الى ارادة الشعب الياباني في اعادة بناء هاتين المدينتين وتحويلهما الى قلاع صناعية وسياحية ورمزاً للتحدي ورسالة سلام الى العالم. ولفت نظر السفير الياباني الى مفاعل ديمونة في بئر السبع، وبين الوثائق امتلاك اسرائيل للسلاح النووي، بالاضافة الى العديد من القنابل محدودة التدمير جهزت للمدن الصغيرة. وأشار الى رفض اسرائيل لتوقيع اتفاقية انتشار الأسلحة النووية، ورفض التفتيش على مفاعلها النووية. وليس هناك أسعد على الكاتب من ان يرى صدى طيباً لما يكتب. * عضو الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لدول الخليج العربية.