لم أتردد في قبول دعوة من الحكومة اليابانية لزيارة اليابان، حيث كانت لدي الرغبة الشديدة لمعرفة هذا البلد الذي لا يجادل احد في اهميته وفي ما حققه من تطور علمي وتكنولوجي واقتصادي كان ولا يزال مثار اعجاب العالم. ولم تكن الأوضاع الاقتصادية على اهميتها هي دافعي الأول، فالبلد معروف باعتباره احدى القوى الاقتصادية الكبرى في العالم الى جانب الولاياتالمتحدة واوروبا. ولكن دافعي الرئيسي التعرف الى هذا الشعب الذي حقق معجزة في التنمية والاقتصاد بعدما خرج مهزوماً من حرب عالمية، خصوصا ان الدعوة لم تكن مقصورة على العاصمة طوكيو بل تتعداها الى مدن مهمة اخرى، لكل منها شخصيتها ودورها في ماضي وواقع اليابان. وبالترتيب مع السفارة اليابانية في الدوحة كان علي ان القي محاضرة في معهد الشرق الأوسط التابع لوزارة الخارجية اليابانية. وكان الموضوع المطلوب طرحه هو المسألة العراقية بجوانبها المختلفة، ومواقف دول الخليج من هذه المسألة، ولكني رأيت ايضا ان اتعرض للعلاقات العربية اليابانية بصورة عامة. ولا املك الا ان اسجل اعجابي لإعداد البرنامج المفصل للزيارة الذي يدل على حرصهم على الاستثمار الأقصى لهذه الزيارة ان باللقاءات او بالأماكن التي اختيرت. كما يدل على حرصهم على الوقت الذي يشكل عاملاً أساسياً من عوامل نجاح تجربة اليابان. ولا يملك زائر اليابان الا ان يعجب بمدى الدقة في تنفيذ البرنامج، والحفاوة التي يقابل بها الأجنبي اينما حل من المسؤولين والمواطنين. وكان من ضمن الزيارات المتفق عليها زيارة ثلاث مؤسسات تلعب دوراً أساسياً في صناعة القرار السياسي والاقتصادي في اليابان. وهي معهد الشرق الاوسط التابع لوزارة الخارجية، ومعهد اليابان للدراسات الدولية، ووكالة التخطيط الاقتصادي. وأدركت خلال اطلاعي على مهمة هذه المؤسسات، ولقائي مع المسؤولين فيها، دور مراكز الدراسات والأبحاث في صنع القرار في اليابان. فمعهد الشرق الأوسط أسس منذ عام 1956 بعد حرب السويس التي اوجدت وعياً لديهم لأهمية منطقة الشرق الأوسط وافريقيا، فتشكل هذا المعهد من مجموعة من اساتذة الجامعات، والمثقفين الذين يعيشون في طوكيو وقد بدأ مؤسسة خاصة، ولكن منذ عام 1960 اصبح قانونياً تابعاً لوزارة الخارجية، ما عزز مكانته وتأثيره. ومهمة هذا المعهد ان يساهم في تشجيع التعرف الى دول منطقة الشرق الاوسط، وتقديم معلومات وتقييمات عن اوضاعها السياسية والاقتصادية والثقافية. وقد كانت محاضرتي في هذا المعهد، في حضور عدد كبير من اعضائه ومن المهتمين بالمنطقة في وزارة الخارجية، وأنصح اخواني المثقفين العرب الاهتمام بهذا المعهد وضرورة الاتصال به، وتزويده المعلومات التي تساعد على فهم اصح لأوضاعنا السياسية والاقتصادية والثقافية. اما المؤسسة الاخرى فهي معهد اليابان للدراسات الدولية، الذي أسس تقريباً في الفترة نفسها مع معهد الشرق الاوسط عام 1959، لكنه يغطي مناطق اخرى كجنوب آسيا والصين وكوريا، والولاياتالمتحدة، ودول الاتحاد السوفياتي سابقاً واوروبا الشرقية. ويرأسه ديبلوماسي صاحب خبرة كبيرة في العلاقات الدولية هو السيد اوادا صهر ولي العهد الياباني، وهو شخصية مثقفة ومطّلعة، وقد كان لقائي به مفيداً اذ كانت وجهات نظرنا متطابقة في اهمية التواصل واللقاء بين المثقفين اليابانيين والعرب، بما يحقق فهماً افضل للعلاقات. اما وكالة التخطيط الاقتصادي فهي اهم الأجهزة الاقتصادية في اليابان ولها وظائف متعددة ذات طابع اقتصادي وتقدم تقريراً شهرياً للحكومة يشكل المصدر الأول للمعلومات والتقويم الذي تعتمد عليه الحكومة في قراراتها الاقتصادية. وقد التقيت بالمدير العام لهذه الوكالة المهمة الذي قدم تقريراً عن الأوضاع الاقتصادية الراهنة لليابان. وفي محاضرتي عن الأوضاع في المنطقة وبالذات المسألة العراقية في معهد الشرق الاوسط، حاولت ان اشرح خلفيات الأزمة الراهنة وأهمية العراق بلداً وشعباً حضارياً واقتصادياً وسياسياً، وما يعنيه غيابه من خلل وأكدت على مسؤولية القيادة العراقية في ما وصل اليه العراق والعرب من تردٍ. كما شرحت الموقف الاميركي الذي يتسم بالغموض وعدم وضوح الأهداف ووقوع الشعب العراقي أسيراً لسياسات حكومته وغموض الموقف الاميركي. وبينت ان العلاقات بين العرب واليابان ليست مشوبة بظلال ماضٍ استعماري شأن العلاقات مع الغرب، مما يمهد لعلاقات جيدة خالية من العقد. وأكدت اهمية العلاقة الثقافية كركيزة للتفاهم الذي يقود الى تحقيق المصالح المشتركة. وفي النقاش الذي تلا المحاضرة، وجدت رغبة شديدة لدى الحاضرين في معرفة الأوضاع في منطقتنا، كما طرحت الكثير من التعليقات والأسئلة التي تدل على متابعتهم لتفاصيل الأحداث في منطقتنا العربية وبالذات منطقة الخليج. وقد وجد طرحي المتعلق بالتركيز على اهمية العلاقات الثقافية والحضارية اهتماماً كبيراً من الحاضرين اذ اكدوا ما يشهده العالم من ظاهرة العولمة ومحاولة سيطرة ثقافة على الثقافات الاخرى، ما يثير مواجهات بين الأمم غير محمودة العواقب ووجدت تجاوباً مع طرحي ضرورة ان يقوم عالم اليوم على الحوار بين الحضارات وليس على الصدام بينها، وذلك بالاحترام المتبادل، والتعايش. وكانت لإحدى الشخصيات اليابانية مداخلة سرد فيها بالكثير من التفصيل تاريخ العلاقات الثقافية بين العرب واليابان، وهو البروفسور ماساو إيي الأستاذ المحاضر في جامعة تاكائي الذي أشار الى بعد اليابان الجغرافي عن العرب، وقال ان بداية اهتمام العرب باليابان كانت خلال الحرب الروسية اليابانية 1804 1805 واستشهد بقصيدة كتبها حافظ ابراهيم عن ذكرياته في اليابان. وقال أيضاً ان العلاقات الجوهرية بدأت مع التطور الاقتصادي السريع لليابان بعد تمكنها من التغلب على حالة الدمار الشامل خلال الحرب العالمية الثانية. وأبدى اعجابه بملاحظتي ان اليابان ليس لها ماضٍ استعماري في المنطقة العربية ما يسهل الاعتماد عليها في مسيرة البناء. واستعرض دعوة وزير الخارجية الياباني لزملائه العرب لزيارة اليابان اثناء اشتراك اليابان في مؤتمر باندونغ 1955، وقال ان الكثير من الشباب الياباني درسوا الحضارة المصرية وحضارة مابين الرافدين وقرطاج والأردن، والحضارة الاسلامية. وأكد ان علينا كمثقفين عرب ويابانيين ان نتواصل بصورة مستمرة خصوصا من خلال وسائل المعرفة الحديثة. وأتيحت لي زيارة مدينة هيروشيما التي دخلت التاريخ من اصعب ابوابه وذلك من خلال تدميرها في السادس من آب اغسطس عام 1945، حين القيت عليها اول قنبلة ذرية في التاريخ، وحولتها الى هشيم تذروه الرياح وقضت على عدد كبير من البشر، وشوهت عدداً كبيراً آخر، وسببت دماراً شاملاً، بالاضافة الى الاشعاع الذي تسبب بمآسٍ انسانية لا تزال آثارها واضحة للعيان وأحدثت دماراً نفسياً واضحاً هائلاً. ومن يزور هيروشيما يرى آثار هذا الدمار ويدرك ما يمكن ان تجره اسلحة الدمار الشامل من ويلات على الانسانية، خصوصاً بعد زيارة متحف هيروشيما الذي يحكي قصة هذه الدراما الانسانية. ولكنت الزيارة لهيروشيما هذه الأيام تظهر لك وجهاً آخر يتمثل في قوة إرادة البناء اذ تحولت المدينة الى واحدة من احدث المدن وأجملها، ولم يبق من اثار القنبلة الا المتحف، والنصب التذكاري وهيكل البناية الوحيد الذي بقي صامداً، وذكريات تلك الفترة المؤلمة. وتدل اعادة بناء هيروشيما، وما تحتويه من حدائق غناء وجسور ومصانع وفنادق وميادين، وبنية تحتية، وأسواق تجارية، على قوة الارادة البشرية في البناء كقدرتها على الهدم. ولاحظت اثناء زيارتي للمتحف برفقة مديره خارطة للكرة الأرضية وضعت عليها علامات خاصة للدول التي تمتلك اسلحة نووية، كما لاحظت صوراً لرسائل موجهة من مدينة هيروشيما الى قيادات الدول بعد كل تجربة نووية. كما لاحظت انه لم توضع على خارطة اسرائيل اي اشارة تدل على امتلاكها للسلاح النووي ولم توجه الى قياداتها رسائل. وسألت مدير المتحف عن ذلك؟ فقال: في ما يتعلق باسرائيل فان هناك شكوكاً لم تتأكد، وقلت له ان المسؤولين الاسرائيليين لا ينكرون ذلك، كما ان اسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي ترفض التوقيع على اتفاقية انتشار الاسلحة النووية وترفض التفتيش على مفاعلاتها النووية. واذا كنتم لم تضعوا علامة عليها، فهل وجهتم رسالة الى حكومتها! فصمت، وكان في صمته ما يكفي. وقد كانت مناسبة للإسترسال مع صديقي الياباني في بعض الخواطر ذات العلاقة بما شاهدته من مأساة هيروشيما. اذ سألته ما هي مشاعر الناس تجاه من ألقوا القنبلة، قال: في البداية كانت قاسية، ولكنها تتضاءل يوماً بعد آخر، خصوصا مع الأجيال الجديدة التي لم تشهد المأساة. سألت: لمن تحملون المسؤولية، اجاب: نحمل المسؤولية لأنفسنا ولتصرفاتنا قبل الحرب وقياداتنا التي قادتنا الى الهاوية. وماذا تقولون لأبنائكم في المناهج التعليمية؟ قال: نعلمهم ألا يحقدوا، كما نعلمهم ان على اليابان ان تركز على المستقبل، وألا تستعدي احداً، وان أطماعها الخارجية والتوسعية هي التي أدت الى الهزيمة. قلت له انني احاول ان اقارن بين موقفكم المتصف بالسماحة وتخطي الماضي، وتحملكم المسؤولية والاعتراف بالأخطاء، وموقف الصهاينة الذين يستغلون ابشع الاستغلال ما تعرضوا له من مشاكل في المانيا، رغم انهم ليسوا الجنس الوحيد الذي تعرض لهذه المشاكل، ولا يزالون حتى اليوم يتخذونها وسيلة للابتزاز والتخويف وتحقيق المكاسب المالية، ولا تزال شعوب كثيرة يطلب منها باستمرار ان تدفع الثمن لأخطاء لم ترتكبها… وهزّ مضيفي رأسه من دون تعليق، وفي ملامح وجهه ما يكفيني من الجواب. اليابان بلد في غاية الأهمية، ومشاهدة انجازاته تؤكد انه من قوى المستقبل، وعلاقتنا معه تحقق المصلحة لنا وله، واذا كنا نسعى الى علاقات اقتصادية وتجارية فإن ضرورة معرفة هذه الأمة وثقافتها امر أساسي للتعامل معها، كما ان علينا ان نستفيد من تجربة هذه الأمة التي خرجت مهزومة مدمرة ممزقة، وانتهت الى ان تكون واحدة من اكبر القوى الاقتصادية والتكنولوجية وقد لمست لديهم تعطشاً ورغبة في معرفة الثقافة العربية الاسلامية. وعلينا ان نقوم بواجبنا من خلال التواصل الثقافي والفكري، في وقت نرى السبيل الوحيد لاستقرار العالم وسلامه هو تحقيق الحوار بين الحضارات لا الصدام، الحوار القائم على الاحترام المتبادل على أساس العدل والانصاف. ولعل ما لمسته ويلمسه كل زائر لليابان تطور المؤسسات العلمية ومراكز الدراسات وتفريخ الأفكار والجامعات، وقيام قراراتهم على اساس ما تقدمه هذه المراكز والمؤسسات من رؤى وتحليلات وتوصيات، ما يدفعنا الى ان نسعى الى توثيق عرى الاتصال مع هذه الجامعات والمراكز وتبادل الزيارات والدراسات والمحاضرات والمؤتمرات والندوات مع المسؤولين فيها. * كاتب سياسي قطري.