القصة العاطفية المؤثرة لمجنون ليلى لا تزال تشحذ الكثير من المخيلات الإبداعية وتضرم النار تحت العديد من الاعمال الأدبية العربية والإنسانية. فهذه القصة تمتلك بما تختزنه من ايحاءات ودلالات جميع العناصر التي ترفعها الى مرتبة الاسطورة وتجعلها نموذجاً في الحب والحرمان والطهر قلّ نظيره. وقد ذهب البعض الى التشكيك بشخصيات القصة من الأصل واعتبروها من نسيج خيال بعض الشعراء نظراً لندرة الوقائع التاريخية الحقيقية المتصلة بشخصية قيس بن الملوح. كما ينسب الى احد شبان بني عذرة ان مئات معدودة من العشاق الذين انتهى بهم الامر الى الجنون أو الموت كانوا يحملون الاسم نفسه. والقضية في أي حال لا تتعلق بالوجود الواقعي لقيس بن الملوح بل بالبعد الرمزي لظاهرة الحب العذري التي حملت لنا نماذج اخرى كجميل بثينة وكثير عزة وقيس لبنى، والتي تناولها العديد من الباحثين بالنقد والتحليل. فمنهم من ردها لاسباب دينية ذات صلة بالتوحيد وتعاليم الاسلام ومنهم من ردها، كالطاهر لبيب، لاسباب اقتصادية اجتماعية تتعلق بالتحولات العميقة التي أصابت العديد من القبائل بعد ظهور الاسلام وحرمان بعضها من امتيازاتها السابقة. ومنهم من عزاها لاسباب نفسية وشخصية تتصل بنرجسية الشعراء العشاق وطمعهم في التميز والخلود، كما فعل صادق جلال العظم. غير ان المجمع عليه في كافة الاحوال هو تلك الفرادة في التجربة والتعبير التي جعلت من الحب العذري أحد أجمل الظواهر وأكثرها غرابة وإثارة للاهتمام في التاريخ الشعري العربي. وكانت قصة ليلى والمجنون واسطة العقد بين القصص كافة والتجلي الأبعد للهيام والوجد وذوبان العاشق في المعشوق حتى الإمحاء الكامل. لهذا السبب تخطت القصة جدران المحلية الضيقة وتجاوز تأثيرها الشعراء والكتاب العرب، ومن بينهم أحمد شوقي، ليبلغ مسامع الكتاب الغربيين ويهز وجدانهم ويدفع بشاعر من وزن لويس أراغون لكتابة عمله الملحمي المميز "مجنون إلسا" متماهياً مع مجنون ليلى ومستنداً الى حكايته الأم. وديوان "حجر النار" للشاعرة الإسبانية كلارا خانيس هو بدوره احدى ثمرات تلك التجربة العاطفية الفريدة لقيس بن الملوح. فهذا الديوان الذي نقله الى العربية طلعت شاهين، والصادر عن المجمع الثقافي في دولة الإمارات، هو قراءة جديدة ومختلفة لما حدث في جزيرة العرب قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمن. واذا كان أراغون قد رأى في أسطورة قيس وليلى نوعاً من اليوتوبيا الحضارية التي تنطلق من سقوط غرناطة لتؤسس مملكة الحب والفقدان في الأزمنة كافة فإن كلارا خانيس ترد من خلال الاسطورة نفسها على الحضيض المادي للحياة الغربية وتستعيد تلك اللحظات الأبهى للحب الإنساني. غير ان إسبانيا، ممثلة بالأندلس، هي في الحالين بقعة التواصل الأكثر ملاءمة بين الشرق والغرب وبقعة الترنح الملتبس بين الروح والجسد. والشاعرة التي تنتمي الى جيل الستينات والتي تفتحت موهبتها إبان انفجار الحركة الطلابية في أوروبا، ومعها انفجار الجسد والرغبة، وجدت نفسها تتطلع في الاتجاه المعاكس نحو الينبوع الروحي الذي يتغذى من مكان آخر والذي يتجاوز الاندلس وصولاً الى صحراء البدايات المسكونة بالشغف. لقد تجاوزت خانيس شرطي الزمان والمكان في بحثها عن الإقامة الملائمة والمسكن المجدي ووصلت الى ما عبرت عنه في بداية الديوان بالسطور التالية: "أنت لا تعيش في حياتك / ولا في الأزمنة التي تمضي / إنهم يتساءلون: أين تعيش؟ / فتجيب: في العشق". ولأن الأمر كذلك فقد تحوّلت شرايين الشاعرة الى "وديان من المرايا تمنح الأسطورة مجراها" وتساعد على رواية ما حدث. ذلك لان في داخل كل منا قيسه وليلاه، عطشه الى الحب ورغبته المضمرة في الاتحاد بنيرانه حتى الذوبان. تقسم الشاعرة ديوانها الى 12 فصلاً يتناول كل منها جزءاً من المغامرة الانسانية الخالدة لقيس وليلى بدءاً من فصل "الطفولة" الاستهلالي وحتى فصل "نهاية الكلمة" الختامي مروراً بفصول اخرى تتناول الجنون والفراق وحياة الصحراء والاستسلام للشعر وزواج ليلى وموتها واتحاد قيس بتراب قبرها الندي. لكن اللافت في التجربة ان الشاعرة خانيس لا تعمد في الديوان الى تقمص شخصية ليلى، مثيلتها في الأنوثة، بل تذهب على العكس من ذلك الى تقمص روح قيس والتماهي به بشكل كامل. كأنها بذلك لا تقلب المعادلة فحسب بل تزيل الفوارق المصطنعة بين الذكورة والأنوثة لتدخل في ما هو أبعد من خانة التذكير والتأنيث، أي في الشرط الإنساني الأعمق الذي يمحو الأجناس ويحوّلها الى ذرات متجاذبة من الإئتلاف المبهم. ومع ذلك فان الشاعرة في قراءتها للأسطورة تنحاز للمجنون باعتباره القطب الفاعل والمؤثّر الذي يحرك النار تحت الرماد الساكن ويضع نفسه في الأتون المشتعل المفضي الى الجنون والموت. تحتفظ خانيس بجوهر المعادلة التي تقوم على الغياب وتصعيد الحرمان من أجل الاحتفاظ بالآخر نقياً كالثلج ومتأججاً كالنار، وإن كانت تعمد بين حين وآخر الى تحريف الوقائع والتفاصيل عن مسارها المعروف. فالمجنون الذي تحاول ليلى ان تبذر زهورها في أرضه الخراب وان تقترب من مساقط شغفه وينابيع انخطافه يريد لمحبوبته ان لا تكتسي باللحم والدم الحقيقيين بل ان تظل كما يريد لها ان تكون: مجرد حلم أو طيف. لذلك يخاطبها عبر الشاعرة: "ابتعدي أيتها المحبوبة / لا تصرفي الصورة التي أحفظها لك". وهو ما يذكر بمعادلة الحب / الغياب التي عبّر عنها جميل بثينة في بيته الشهير: "يموت الهوى مني إذا ما لقيتها / ويحيا إذا فارقتها فيعود". فقيس وجميل يحبان ليلى وبثينة في كل شيء سوى في تجسدهما المتحقق. إنهما في السحابة والموجة والرمال ورؤوس الاشجار وليستا في ما يضمه الجسد من وحل زائل. وهما بهذا المعنى امرأتان من لغة وشغف واحتراق. وفكرة المرأة / القصيدة ليست غائبة عن ديوان كلارا خانيس. فهي تتحدث في بداية الديوان عن القصيدة المبكرة التي "كتبها المجنون مدعياً الخطأ لتصحح له ليلى ما ارتكبه". وليلى في هذا السياق لا تصحح مجرى العبارة أو النحو والصرف بل تصنع في اللغة النار الضرورية لأية كتابة ممكنة. وهو ما أشار اليه صادق جلال العظم في كتابه اللافت "في الحب والحب العذري" حيث رأى ان الشاعر العذري يضحي بامرأته على مذبح النرجسية المتمثلة بالكتابة وأن القصيدة بالنسبة اليه هي الأهم. لهذا فهو يقبل ان يمحي في الجسد ليولد في اللغة والعبارة مطلقاً تلك الشهقة المفضية الى الاضمحلال التي كانت في "مصارع العشاق" التعبير الحي عن الانتقال الى ضفة المرض والجنون والموت. وهي الشهقة نفسها التي تعكسها الشاعرة الإسبانية في احدى القصائد: "وشهقته تفصم السماء الى نصفين / شرخ يولد في الجسد الحي / أرض أم جسد عشق / يصرخ: هي كل شيء / أنا لا شيء / أنا أغمي". لم يكن لحب كهذا أن يتحقق الا بالموت. فليلى التي تتزوج من رجل آخر لم تلبث ان تقض مضجعها نداءات قيس التي تردها دائماً الى الينبوع أو الجنة أو عري الحواس الكامل. واذا كان اللقاء متعذراً على الارض فهو ليس كذلك في دائرة الموت التي تودي بليلى الى التهلكة ثم تدفع بالمجنون الى ان يموت هو الآخر "لكي يتحد بالتراب الذي كانته ليلى" والذي تتفرق من بعده الحيوانات والكائنات لتروي السيرة وتقص الأعجوبة على الملأ. أما الشاعرة نفسها فتقبِّل الكتاب الذي كتبته بحبر الرغبة والظمأ والحلم، كما تعبر في القصيدة الاخيرة، لكي تحبس أنفاسها في داخله وتلج من خلاله الى الصمت الأخرس. ذلك ان الكلام ليس سوى جسر موقت للعبور من خانة الجسد الى خانة الروح والانتقال من الزائل الى الأبدي بشهقة.